فصل
إذا عرفت هذه المقدمات : فالجمع الصحيح - الذي عليه أهل الاستقامة - هو جمع توحيد الربوبية وجمع توحيد الإلهية ، فيشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه ، يدبر أمر عباده وحده ، فلا خالق ولا رازق ، ولا معطي ولا مانع ، ولا مميت ولا محيي ، ولا مدبر لأمر المملكة - ظاهرا وباطنا - غيره ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا يجري حادث إلا بمشيئته ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ، ولا يغرب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه ، وأحاطت بها قدرته ، ونفذت بها مشيئته ، واقتضتها حكمته ، فهذا
nindex.php?page=treesubj&link=28657جمع توحيد الربوبية .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28663جمع توحيد الإلهية ، فهو : أن يجمع قلبه وهمه وعزمه على الله ، وإرادته ، وحركاته على أداء حقه تعالى ، والقيام بعبوديته سبحانه ، فتجتمع شئون إرادته على مراده الديني الشرعي .
وهذان الجمعان : هما حقيقة
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين فإن العبد يشهد من
[ ص: 472 ] قوله " إياك " الذات الجامعة لجميع صفات الكمال ، التي لها كل الأسماء الحسنى ، ثم يشهد من قوله " نعبد " جميع أنواع العبادة ظاهرا وباطنا ، قصدا وقولا وعملا وحالا واستقبالا ، ثم يشهد من قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5وإياك نستعين " جميع أنواع الاستعانة ، والتوكل والتفويض ، فيشهد منه جمع الربوبية ، ويشهد من "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد " جمع الإلهية ، ويشهد من " إياك " الذات الجامعة لكل الأسماء الحسنى والصفات العلى .
ثم يشهد من "
nindex.php?page=treesubj&link=28972_32050اهدنا " عشر مراتب ، إذا اجتمعت حصلت له الهداية .
المرتبة الأولى : هداية العلم والبيان ، فيجعله عالما بالحق مدركا له .
الثانية : أن يقدره عليه ، وإلا فهو غير قادر بنفسه .
الثالثة : أن يجعله مريدا له .
الرابعة : أن يجعله فاعلا له .
الخامسة : أن يثبته على ذلك ، ويستمر به عليه .
السادسة : أن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له .
السابعة : أن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة ، أخص من الأولى ، فإن الأولى هداية إلى الطريق إجمالا ، وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيلا .
الثامنة : أن يشهده المقصود في الطريق ، وينبهه عليه ، فيكون مطالعا له في سيره ، ملتفتا إليه ، غير محتجب بالوسيلة عنه .
التاسعة : أن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية فوق كل ضرورة .
العاشرة : أن يشهده الطريقين المنحرفين عن طريقها ، وهما طريق أهل الغضب ، الذين عدلوا عن اتباع الحق قصدا وعنادا ، وطريق أهل الضلال الذين عدلوا عنها جهلا وضلالا ، ثم يشهد جمع الصراط المستقيم في طريق واحد عليه جميع أنبياء الله ورسله ، وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين .
فهذا هو الجمع الذي عليه رسل الله وأتباعهم ، فمن حصل له هذا الجمع ، فقد الصراط المستقيم ، والله أعلم .
فَصْلٌ
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ : فَالْجَمْعُ الصَّحِيحُ - الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ - هُوَ جَمْعُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَجَمْعُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ ، فَيَشْهَدُ صَاحِبُهُ قَيُّومِيَّةَ الرَّبَّ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ ، يُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِهِ وَحْدَهُ ، فَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ ، وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ ، وَلَا مُمِيتَ وَلَا مُحْيِيَ ، وَلَا مُدَبِّرَ لِأَمْرِ الْمَمْلَكَةِ - ظَاهِرًا وَبَاطِنًا - غَيْرُهُ ، فَمَا شَاءَ كَانَ ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا يَجْرِي حَادِثٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ ، وَلَا يَغْرُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا أَحْصَاهَا عِلْمُهُ ، وَأَحَاطَتْ بِهَا قُدْرَتُهُ ، وَنَفَذَتْ بِهَا مَشِيئَتُهُ ، وَاقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ ، فَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28657جَمْعُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28663جَمْعُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ ، فَهُوَ : أَنْ يَجْمَعَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ وَعَزْمَهُ عَلَى اللَّهِ ، وَإِرَادَتَهُ ، وَحَرَكَاتَهُ عَلَى أَدَاءِ حَقِّهِ تَعَالَى ، وَالْقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ ، فَتَجْتَمِعُ شُئُونُ إِرَادَتِهِ عَلَى مُرَادِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ .
وَهَذَانِ الْجَمْعَانِ : هُمَا حَقِيقَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَشْهَدُ مِنْ
[ ص: 472 ] قَوْلِهِ " إِيَّاكَ " الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، الَّتِي لَهَا كُلُّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى ، ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ قَوْلِهِ " نَعْبُدُ " جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، قَصْدًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا وَحَالًا وَاسْتِقْبَالًا ، ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ قَوْلِهِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِعَانَةِ ، وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ ، فَيَشْهَدُ مِنْهُ جَمْعَ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَيَشْهَدُ مِنْ "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ " جَمْعَ الْإِلَهِيَّةِ ، وَيَشْهَدُ مِنْ " إِيَّاكَ " الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِكُلِّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى .
ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ "
nindex.php?page=treesubj&link=28972_32050اهْدِنَا " عَشْرَ مَرَاتِبَ ، إِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ .
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : هِدَايَةُ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ ، فَيَجْعَلُهُ عَالِمًا بِالْحَقِّ مُدْرِكًا لَهُ .
الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقْدِرَهُ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ بِنَفْسِهِ .
الثَّالِثَةُ : أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ .
الرَّابِعَةُ : أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهُ .
الْخَامِسَةُ : أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَسْتَمِرَّ بِهِ عَلَيْهِ .
السَّادِسَةُ : أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ الْمَوَانِعَ وَالْعَوَارِضَ الْمُضَادَّةَ لَهُ .
السَّابِعَةُ : أَنْ يَهْدِيَهُ فِي الطَّرِيقِ نَفْسِهَا هِدَايَةً خَاصَّةً ، أَخَصَّ مِنَ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْأُولَى هِدَايَةٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِجْمَالًا ، وَهَذِهِ هِدَايَةٌ فِيهَا وَفِي مَنَازِلِهَا تَفْصِيلًا .
الثَّامِنَةُ : أَنْ يُشْهِدَهُ الْمَقْصُودَ فِي الطَّرِيقِ ، وَيُنَبِّهَهُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونَ مُطَالِعًا لَهُ فِي سَيْرِهِ ، مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ ، غَيْرَ مُحْتَجَبٍ بِالْوَسِيلَةِ عَنْهُ .
التَّاسِعَةُ : أَنَّ يُشْهِدَهُ فَقْرَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ .
الْعَاشِرَةُ : أَنْ يُشْهِدَهُ الطَّرِيقَيْنِ الْمُنْحَرِفَيْنِ عَنْ طَرِيقِهَا ، وَهُمَا طَرِيقُ أَهْلِ الْغَضَبِ ، الَّذِينَ عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ قَصْدًا وَعِنَادًا ، وَطَرِيقُ أَهْلِ الضَّلَالِ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْهَا جَهْلًا وَضَلَالًا ، ثُمَّ يَشْهَدُ جَمْعَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ، وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
فَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي عَلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ وَأَتْبَاعُهُمْ ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْجَمْعُ ، فَقَدَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .