الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) المذروعات من الثوب والأرض والخشب وغيرها فإن سمى لجملة الذرعان ثمنا واحدا ولم يسم لكل ذراع منها على حدة بأن قال : بعت منك هذا الثوب على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم فالبيع جائز ; لأن المبيع وثمنه معلومان ثم إن وجده مثل ما سمى لزمه الثوب بعشرة دراهم ولا خيار له ، وإن وجده أحد عشر ذراعا فالزيادة سالمة للمشتري ، وإن وجده تسعة أذرع لا يطرح لأجل النقصان شيئا من الثمن وهو بالخيار : إن شاء أخذه بجميع الثمن ، وإن شاء ترك ، فرق بينهما وبين المكيلات والموزونات التي ليس في تنقيصها ضرر والعدديات المتقاربة .

                                                                                                                                ( ووجه ) الفرق أن زيادة الذرع في الذرعيات جارية مجرى الصفة كصفة الجودة والكتابة والخياطة ونحوها والثمن يقابل الأصل لا الصفة ; والدليل على أنها جارية مجرى الصفة أن وجودها يوجب جودة في الباقي وفواتها يسلب صفة الجودة ويوجب الرداءة فتلحق الزيادة بالجودة والنقصان بالرداءة حكما والجودة والرداءة صفة ، والصفة ترد على الأصل دون الصفة ، إلا أن الصفة تملك تبعا للموصوف لكونها تابعة قائمة به فإذا زاد صار كأنه اشتراه رديئا فإذا هو جيد ، كما إذا اشترى عبدا على أنه ليس بكاتب أو ليس بخياط فوجده كاتبا أو خياطا أو اشترى عبدا على أنه أعور فوجده سليم العينين أو اشترى جارية على أنها ثيب فوجدها بكرا ; تسلم له ولا خيار للبائع كذا هذا وإذا نقص صار كأنه اشتراه على أنه جيد فوجده رديئا أو اشترى عبدا على أنه كاتب أو خباز أو صحيح العينين فوجده غير كاتب ولا خباز ولا صحيح العينين أو اشترى جارية على أنها بكر فوجدها ثيبا ; لا يطرح شيئا من الثمن لكن يثبت له الخيار كذا هذا بخلاف المكيلات والموزونات التي لا ضرر فيها إذا نقصت والمعدودات المتقاربة ; لأن الزيادة فيها غير ملحقة بالأوصاف ; لأنها أصل بنفسها حقيقة .

                                                                                                                                والعمل بالحقيقة واجب ما أمكن إلا أنها ألحقت بالصفة في المذروعات ونحوها ; لأن وجودها يوجب الجودة والكمال للباقي وفواتها يوجب النقصان والرداءة له ، وهذا المعنى ههنا منعدم فبقيت أصلا بنفسها حقيقة وإن سمى لكل ذراع منها ثمنا على حدة بأن قال : بعت منك هذا الثوب على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فالبيع جائز لما قلنا ، ثم إن وجده مثل ما سمى فالأمر ماض ولزمه الثوب كل ذراع بدرهم وإن وجده أحد عشر ذراعا فهو بالخيار : إن شاء أخذ كله بأحد عشر درهما ، وإن شاء ترك وإن وجده تسعة أذرع فهو بالخيار : إن شاء طرح حصة النقصان درهما وأخذه بتسعة دراهم ، وإن شاء ترك ; لتفرق الصفقة عليه وهذا يشكل على الأصل الذي ذكرنا أن زيادة الذرع في المذروعات تجري مجرى الصفة لها ; لأن الثمن يقابل الأصل دون الوصف فينبغي أن تكون الزيادة سالمة للمشتري ولا خيار له ولا يطرح لأجل النقصان شيئا كما في الفصل الأول ; لأن الثمن يقابل الأصل دون الصفة بمنزلة زيادة الجودة ونقصان الرداءة على ما ذكرنا .

                                                                                                                                وحل هذا الإشكال أن الذرع في المذروعات إنما يجري مجرى الصفة على الإطلاق إذا لم يفرد كل ذراع بثمن على حدة .

                                                                                                                                ( فأما ) إذا أفرد به فلا يجري مجرى الصفة مطلقا بل يكون أصلا من وجه وصفة من وجه : فمن حيث إن التبعيض فيها يوجب تعييب الباقي ; كانت الزيادة صفة بمنزلة صفة الجودة ، ومن حيث إنه سمى لكل ذراع ثمنا على حدة ; كان كل ذراع معقودا عليه فكانت الزيادة أصلا من وجه صفة من وجه : فمن حيث إنها صفة كانت للمشتري ; لأن الثمن يقابل الأصل [ ص: 161 ] لا الصفة وإنما يدخل في البيع تبعا على ما بينا ومن حيث إنها أصل لا يسلم له إلا بزيادة ثمن اعتبارا للجهتين جميعا بقدر الإمكان فله الخيار في أخذ الزيادة وتركها ; لأنه لو لزمه الأخذ ، لا محالة يلزمه زيادة ثمن ; لم يكن لزومها ظاهرا عند العقد واختل رضاه فوجب الخيار وفي النقصان إن شاء طرح قدر النقصان وأخذ الباقي اعتبارا لجهة الأصالة وإن شاء ترك ; لأن الصفقة تفرقت عليه وأوجب خللا في الرضا وذا يوجب الخيار هذا إذا كانت الزيادة والنقصان ذراعا تاما فأما إذا كانت دون ذراع لم يذكر هذا في ظاهر الروايات وذكر في غير رواية الأصول اختلاف أقاويل أصحابنا الثلاثة في كيفية الخيار فيه : فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فرقا بين الزيادة والنقصان غير أن أبا حنيفة جعل زيادة نصف ذراع بمنزلة زيادة ذراع كامل فقال : إن شاء أخذه بأحد عشر درهما وإن شاء ترك ، وجعل نقصان نصف ذراع كلا نقصان لكن جعل له الخيار فقال : إن شاء أخذه بعشرة دراهم وإن شاء ترك ولا يطرح من الثمن شيئا لأجل النقصان ومحمد جعل على القلب من ذلك فجعل زيادة نصف ذراع كلا زيادة فقال : يأخذ المشتري بجميع الثمن ولا خيار له ، وجعل نقصان نصف ذراع كنقصان ذراع كامل وقال : إن شاء أخذ بتسعة دراهم ، وإن شاء ترك .

                                                                                                                                ( وأما ) أبو يوسف رحمه الله فسوى بين الزيادة والنقصان فقال في زيادة نصف ذراع : يزاد على الثمن نصف درهم وله الخيار : إن شاء أخذه بعشرة دراهم ونصف ، وإن شاء ترك وقال في نقصان نصف ذراع : ينقص من الثمن نصف درهم وله الخيار : إن شاء أخذه بتسعة دراهم ونصف ، وإن شاء ترك والقياس ما قاله أبو يوسف وهو اعتبار الجزء بالكل إلا أنهما كأنهما استحسنا لتعامل الناس ; فجعل أبو حنيفة زيادة نصف ذراع بمنزلة ذراع تام ونقصان نصف ذراع كلا نقصان ; لأن الناس في العادات في بياعاتهم وأشريتهم لا يعدون نقصان نصف ذراع نقصانا بل يحسبونه ذراعا تاما ، فبنى الأمر في ذلك على تعامل الناس وجعل محمد الأمر في ذلك على القلب من ذلك لما أن الباعة يسامحون في زيادة نصف على القدر المسمى في البيع عادة ولا يعدونه زيادة ; فكانت تلك الزيادة ملحقة بالعدم عادة كأنه لم يزد وكذا يسامحون فيعدون نقصان نصف ذراع في العادات نقصان ذراع كامل ; فتركنا القياس بتعامل الناس ، ويجوز أن يكون اختلاف جوابهما لاختلاف عادات الناس والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا جميع المذروعات من الأرض والخشب وغيرهما أنه إن لم يسم لكل ذراع ثمنا بأن قال : بعت منك هذه الأرض على أنها ألف ذراع بألف درهم فالبيع جائز ; لما قلنا ثم إن وجدها مثل ما سمى فالأمر ماض ويلزمه الأرض كل ذراع بدرهم وإن وجدها أزيد فالزيادة سالمة له ولا خيار وإن وجدها أنقص فهو بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن وإن شاء ترك لما ذكرنا أن زيادة الذرع في الذرعيات جارية مجرى الصفات والثمن يقابل الأصل دون الصفة وإن سمى لكل ذراع ثمنا على حدة بأن قال : كل ذراع بكذا ; فالبيع جائز لما ذكرنا ثم إن وجدها مثل ما سمى فالأمر ماض ، وإن وجدها أزيد فهو بالخيار : إن شاء أخذ الزيادة بثمنها ، وإن شاء ترك ; لأنه يلزمه زيادة ثمن لم يلتزمه لذا العقد وإن وجده أنقص تسقط حصته من الثمن وله الخيار لتفرق الصفقة على ما ذكرنا في الثوب وعلى هذا الخشب وغيره من الذرعيات وعلى هذا الموزونات التي في تبعيضها ضرر بأن قال : بعت منك هذه السبيكة من الذهب على أنها مثقالان بكذا فالبيع جائز ثم إن وجد على ما سمى فالأمر ماض وإن وجده أزيد أو أنقص فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الذرعيات وعلى هذا إذا باع مصوغا من نحاس أو صفر أو ما أشبه ذلك على أن فيه كذا منا بكذا درهما فوجده أكثر أو أقل فهو على التفصيل الذي ذكرنا ; لأن الوزن في مثله يكون ملحقا بالصفة بمنزلة الذرع في الذرعيات ; لأن تبعيضه يوجب تعييب الباقي وهذا حد الصفة في هذا الباب ولو باع مصوغا من الفضة على أن وزنه مائة بعشرة دنانير ولم يسم لكل عشرة ثمنا على حدة بأن قال : بعشرة دنانير ولم يقل : كل وزن عشرة بدينار وتقابضا وافترقا ; فالبيع جائز ثم إن وجده على ما سمى ; فالأمر ماض ولا خيار وإن وجده أزيد بأن كان مائتي درهم مثلا فالكل للمشتري بعشرة دنانير ولا يزاد في الثمن شيء ; لأن الزيادة فيه بمنزلة الصفة والصفات المحضة لا يقابلها الثمن ، وإن وجده تسعين أو ثمانين فهو بالخيار على ما ذكرنا وإن سمى لكل عشرة ثمنا على حدة بأن قال : بعت منك على أن وزنه مائة بعشرة دنانير ، كل [ ص: 162 ] وزن عشرة بدينار وتقابضا فالبيع جائز ، ثم إن وجده على ما سمى فالأمر ماض ولا خيار ، وإن وجد وزنه أزيد بأن كان مائة وخمسين ; نظر في ذلك إن علم ذلك قبل التفرق فله الخيار : إن شاء زاد في الثمن خمسة دنانير وأخذ كله بخمسة عشر دينارا ، وإن شاء ترك ; لأن ساعات المجلس لها حكم ساعة العقد ، وإن علم بعد التفرق بطل البيع في ثلث المصوغ لانعدام التقابض فيه وله الخيار في الباقي : إن شاء رضي به بعشرة دنانير ، وإن شاء رد الكل واسترد الدنانير ; لأن الشركة في الأعيان عيب وإن وجد وزنه خمسين وعلم ذلك قبل التفرق أو بعده فله الخيار : إن شاء رده ، وإن شاء رضي به واسترد من الثمن خمسة دنانير وكذلك لو باع مصوغا من ذهب بدراهم فهو على هذا التفصيل ولو باع مصوغا من الفضة بجنسها أو باع مصوغا من الذهب بجنسه مثل وزنه على أن وزنه مائة بمائة ثم وجده أزيد مما سمى فإن علم بالزيادة قبل التفرق ; فله الخيار : إن شاء زاد في الثمن قدر وزن الزيادة وأخذ الكل ، وإن شاء ترك ; لأن المجلس له حكم حالة العقد ، وإن علم بها بعد التفرق بطل البيع في الزيادة ; لأن التقابض شرط بقاء الصرف على الصحة ولم يوجد في قدر الزيادة وإن وجد أقل مما سمى فله الخيار : إن شاء رضي بحصته من الثمن واسترد فضل الثمن ، وإن شاء رد الكل واسترد جميع الثمن سواء سمى الجملة أو سمى لكل وزن درهما درهما ; لأن عند اتحاد الوزن والجنس لا يجوز البيع إلا سواء بسواء فصار كأنه سمى ذلك وإن لم يسم حقيقة إلا الجملة .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية