الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الثاني : وهو بيان ما يعرف به وقته ، فإن كانت السماء مصحية يعرف برؤية الهلال ، وإن كانت متغيمة يعرف بإكمال شعبان ثلاثين يوما ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم { : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما ثم صوموا } .

                                                                                                                                وكذلك إن غم على الناس هلال شوال أكملوا عدة رمضان ثلاثين يوما ، لأن الأصل بقاء الشهر وكماله ، فلا يترك هذا الأصل إلا بيقين على الأصل المعهود ، أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين مثله ، فإن كانت السماء مصحية ورأى الناس الهلال صاموا وإن شهد واحد برؤية الهلال لا تقبل شهادته ما لم تشهد جماعة يقع العلم للقاضي بشهادتهم ، في ظاهر الرواية ولم يقدر في ذلك تقديرا وروي عن أبي يوسف أنه قدر عدد الجماعة بعدد القسامة خمسين رجلا ، وعن خلف بن أيوب أنه قال : خمسمائة ، ببلخ قليل وقال بعضهم : ينبغي أن يكون من كل مسجد جماعة واحد ، أو اثنان ، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى : أنه يقبل فيه شهادة الواحد العدل وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى ، وقال في قول آخر : تقبل فيه شهادة اثنين .

                                                                                                                                وجه رواية الحسن رحمه الله تعالى أن هذا من باب الإخبار لا من باب الشهادة ، بدليل أنه تقبل شهادة الواحد إذا كان بالسماء علة ولو كان شهادة لما قبل ، لأن العدد شرط في الشهادات وإذا كان إخبارا لا شهادة فالعدد ليس بشرط في الإخبار عن الديانات وإنما تشترط العدالة فقط ، كما في رواية الإخبار عن طهارة الماء ونجاسته ونحو ذلك ، وجه ظاهر الرواية أن خبر الواحد العدل إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر وههنا الظاهر يكذبه لأن تفرده بالرؤية مع مساواة جماعة لا يحصون إياه في الأسباب الموصلة إلى الرؤية وارتفاع الموانع دليل كذبه ، أو غلطه في الرؤية ، وليس كذلك إذا كان بالسماء علة ، لأن ذلك يمنع التساوي في الرؤية لجواز أن قطعة من الغيم انشقت فظهر الهلال فرآه واحد ثم استتر بالغيم من ساعته قبل أن يراه غيره ، وسواء كان هذا الرجل من المصر ، أو من خارج المصر ، وشهد برؤية الهلال أنه لا تقبل شهادته في ظاهر الرواية .

                                                                                                                                وذكر الطحاوي أنه تقبل ، وجه رواية الطحاوي أن المطالع تختلف بالمصر وخارج المصر في الظهور ، والخفاء لصفاء الهواء خارج المصر فتختلف الرؤية ، وجه ظاهر الرواية أن المطالع لا تختلف إلا عند المسافة البعيدة الفاحشة ، وعلى هذا الرجل الذي أخبر أن يصوم لأن عنده أن هذا اليوم من رمضان ، والإنسان يؤاخذ بما عنده فإن شهد فرد الإمام شهادته ثم أفطر يقضي لأنه أفسد صوم رمضان في زعمه فيعامل بما عنده ، وهل تلزمه الكفارة ؟ قال أصحابنا : لا تلزمه ، وقال الشافعي : تلزمه إذا أفطر بالجماع ، وإن أفطر قبل أن يرد الإمام شهادته فلا رواية عن أصحابنا في وجوب الكفارة ، واختلف المشايخ فيه ، قال بعضهم : تجب ، وقال بعضهم : لا تجب ، وجه قول الشافعي : إنه أفطر في يوم علم أنه من رمضان لوجود دليل العلم في حقه وهو الرؤية وعدم علم غيره لا يقدح في علمه [ ص: 81 ] فيؤاخذ بعلمه ، فيوجب عليه الكفارة ، ولهذا ، أوجب عليه الصوم .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه أفطر في يوم هو من شعبان ، وإفطار يوم هو من شعبان لا يوجب الكفارة ، وإنما قلنا ذلك لأن كونه من رمضان إنما يعرف بالرؤية إذا كانت السماء مصحية ولم تثبت رؤيته لما ذكرنا : أن تفرده بالرؤية مع مساواة عامة الناس إياه في التفقد مع سلامة الآلات دليل عدم الرؤية ، وإذا لم تثبت الرؤية لم يثبت كون اليوم من رمضان ، فيبقى من شعبان ، والكفارة لا تجب بالإفطار في يوم هو من شعبان بالإجماع ، وأما وجوب الصوم عليه فممنوع ، فإن المحققين من مشايخنا قالوا : لا رواية في وجوب الصوم عليه وإنما الرواية أنه يصوم وهو محمول على الندب احتياطا ، وقال الحسن البصري : إنه لا يصوم إلا مع الإمام ، ولو صام هذا الرجل وأكمل ثلاثين يوما ولم ير هلال شوال فإنه لا يفطر إلا مع الإمام ، وإن زاد صومه على ثلاثين لأنا إنما أمرناه بالصوم احتياطا ، ، والاحتياط ههنا أن لا يفطر لاحتمال أن ما رآه لم يكن هلالا بل كان خيالا فلا يفطر مع الشك ، ولأنه لو أفطر للحقه التهمة لمخالفته الجماعة ، فالاحتياط أن لا يفطر وإن كانت السماء متغيمة تقبل شهادة الواحد بلا خلاف بين أصحابنا ، سواء كان حرا ، أو عبدا ، رجلا ، أو امرأة ، غير محدود في قذف ، أو محدودا تائبا ، بعد أن كان مسلما عاقلا بالغا عدلا .

                                                                                                                                وقال الشافعي في أحد قوليه : لا تقبل إلا شهادة رجلين عدلين اعتبارا بسائر الشهادات .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه { أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبصرت الهلال ، فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ ، قال : نعم ، قال : قم يا بلال فأذن في الناس فليصوموا غدا } ، فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة الواحد على هلال رمضان ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، ولأن هذا ليس بشهادة بل هو إخبار ، بدليل أن حكمه يلزم الشاهد وهو الصوم وحكم الشهادة لا يلزم الشاهد ، والإنسان لا يتهم في إيجاب شيء على نفسه ، فدل أنه ليس بشهادة بل هو إخبار ، والعدد ليس بشرط في الإخبار ، إلا أنه إخبار في باب الدين فيشترط فيه الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والعدالة كما في رواية الإخبار وذكر الطحاوي في مختصره : أنه يقبل قول الواحد عدلا كان ، أو غير عدل ، وهذا خلاف ظاهر الرواية ، إلا أنه يريد به العدالة الحقيقية ، فيستقيم لأن الإخبار لا تشترط فيه العدالة الحقيقية بل يكتفى فيه بالعدالة الظاهرة ، والعبد ، والمرأة من أهل الإخبار ألا ترى أنه صحت روايتهما ؟ .

                                                                                                                                وكذا المحدود في القذف فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلوا إخبار أبي بكرة وكان محدودا في قذف ، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أن شهادته برؤية الهلال لا تقبل ، ، والصحيح أنها تقبل ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة ، لما ذكرنا أن هذا خبر وليس بشهادة ، وخبره مقبول ، وتقبل شهادة واحد عدل على شهادة واحد عدل في هلال رمضان بخلاف الشهادة على الشهادة في سائر الأحكام ، أنها لا تقبل ما لم يشهد على شهادة رجل واحد رجلان ، أو رجل وامرأتان لما ذكرنا أن هذا من باب الإخبار لا من باب الشهادة ، ويجوز إخبار رجل عدل عن رجل عدل كما في رواية الأخبار ، ولو رد الإمام شهادة الواحد لتهمة الفسق فإنه يصوم ذلك اليوم لأن عنده أن ذلك اليوم من رمضان فيؤاخذ بما عنده ، ولو أفطر بالجماع هل تلزمه الكفارة ؟ فهو على الاختلاف الذي ذكرنا وأما هلال شوال فإن كانت السماء مصحية فلا يقبل فيه إلا شهادة جماعة يحصل العلم للقاضي بخبرهم كما في هلال رمضان ، كذا ذكر محمد في نوادر الصوم .

                                                                                                                                وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يقبل فيه شهادة رجلين ، أو رجل وامرأتين سواء كان بالسماء علة ، أو لم يكن ، كما روي عن أبي حنيفة في هلال رمضان أنه تقبل فيه شهادة الواحد العدل سواء كان في السماء علة ، أو لم يكن ، وإن كان بالسماء علة فلا تقبل فيه إلا شهادة رجلين ، أو رجل وامرأتين مسلمين ، حرين ، عاقلين ، بالغين ، غير محدودين ، في قذف كما في الشهادة في الحقوق ، والأموال ، لما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلال رمضان ، وكان لا يجيز الإفطار إلا بشهادة رجلين ، } ولأن هذا من باب الشهادة .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لا يلزم الشاهد شيء بهذه الشهادة بل له فيها نفع وهو إسقاط الصوم عن نفسه ، فكان متهما ، فيشترط فيه العدد نفيا للتهمة بخلاف هلال رمضان هناك لا تهمة إذ الإنسان لا يتهم في الإضرار بنفسه بالتزام الصوم ، فإن غم على الناس هلال شوال فإن صاموا رمضان بشهادة شاهدين أفطروا [ ص: 82 ] بتمام العدة ثلاثين يوما بلا خلاف ، لأن قولهما في الفطر يقبل وإن صاموا بشهادة شاهد واحد ، فروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم لا يفطرون على شهادته برؤية هلال رمضان عند كمال العدد ، وإن وجب عليهم الصوم بشهادته فثبتت الرمضانية بشهادته في حق الصوم ، لا في حق الفطر ، لأنه لا شهادة له في الشرع على الفطر .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لو شهد وحده مقصودا لا تقبل ، بخلاف ما إذا صاموا بشهادة شاهدين لأن لهما شهادة على الصوم ، والفطر جميعا .

                                                                                                                                ألا ترى لو شهدا برؤية الهلال تقبل شهادتهما لأن وجوب الصوم عليهم بشهادته من طريق الاحتياط ، ، والاحتياط ههنا في أن لا يفطروا بخلاف ما إذا صاموا بشهادة شاهدين ، لأن الوجوب هناك ثبت بدليل مطلق ، فيظهر في الصوم ، والفطر جميعا .

                                                                                                                                وروى ابن سماعة عن محمد : أنهم يفطرون عند تمام العدد ، فأورد ابن سماعة على محمد إشكالا فقال : إذا قبلت شهادة الواحد في الصوم تفطر على شهادته ومتى أفطرت عند كمال العدد على شهادته فقد أفطرت بقول الواحد ، وهذا لا يجوز لاحتمال أن هذا اليوم من رمضان ؟ فأجاب محمد رحمه الله فقال : لا أتهم المسلم أن يتعجل يوما مكان يوم ، ومعناه أن الظاهر أنه إن كان صادقا في شهادته فالصوم وقع في أول الشهر فيختم بكمال العدد ، وقيل فيه بجواب آخر ، وهو أن جواز الفطر عند كمال العدد لم يثبت بشهادته مقصودا بل بمقتضى الشهادة .

                                                                                                                                وقد يثبت بمقتضى الشيء ما لا يثبت به مقصودا كالميراث بحكم النسب الثابت أنه يظهر بشهادة القابلة بالولادة وإن كان لا يظهر بشهادتها مقصودا ، والاستشهاد على مذهبهما لا على مذهب أبي حنيفة لأن شهادة القابلة بالولادة لا تقبل في حق الميراث عنده .

                                                                                                                                ( وأما ) هلال ذي الحجة فإن كانت السماء مصحية فلا يقبل فيه إلا ما يقبل في هلال رمضان ، وهلال شوال وهو ما ذكرنا وإن كان بالسماء علة فقد قال أصحابنا : إنه يقبل فيه شهادة الواحد ، وذكر الكرخي أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين ، أو رجل وامرأتين كما في هلال شوال لأنه يتعلق بهذه الشهادة حكم شرعي وهو وجوب الأضحية على الناس فيشترط فيه العدد ، والصحيح : هو الأول لأن هذا ليس من باب الشهادة بل من باب الإخبار .

                                                                                                                                ألا ترى أن الأضحية تجب على الشاهد ثم تتعدى إلى غيره فكان من باب الخبر ولا يشترط فيه العدد .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية