الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها ملك الزاد ، والراحلة في حق النائي عن مكة ، والكلام فيه في موضعين : أحدهما في بيان أنه من شرائط الوجوب ، والثاني في تفسير الزاد ، والراحلة أما الأول ، فقد قال عامة العلماء : إنه شرط فلا يجب الحج بإباحة الزاد ، والراحلة سواء كانت الإباحة ممن له منة على المباح له ، أو كانت ممن لا منة له عليه كالأب ، وقال الشافعي يجب الحج بإباحة الزاد ، والراحلة إذا كانت الإباحة ممن لا منة له على المباح له ، كالوالد بذل الزاد ، والراحلة لابنه ، وله في الأجنبي قولان ، ولو ، وهبه إنسان مالا يحج به لا يجب على الموهوب له القبول عندنا ، وللشافعي فيه قولان ، وقال مالك : الراحلة ليست بشرط لوجوب الحج أصلا لا ملكا ولا إباحة ، وملك الزاد شرط حتى لو كان صحيح البدن ، وهو يقدر على المشي يجب عليه الحج ، وإن لم يكن له راحلة ، أما الكلام مع مالك فهو احتج بظاهر قوله تعالى : { ، ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ، ومن كان صحيح البدن قادرا على المشي ، وله زاد ، فقد استطاع إليه سبيلا فيلزمه فرض الحج .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة : بالزاد ، والراحلة جميعا فلا تثبت الاستطاعة بأحدهما ، وبه تبين أن القدرة على المشي لا تكفي لاستطاعة الحج ثم شرط الراحلة إنما يراعى لوجوب الحج في حق من نأى عن مكة فأما أهل مكة ، ومن حولهم فإن الحج يجب على القوي منهم القادر على المشي من غير راحلة ; لأنه لا حرج يلحقه في المشي إلى الحج كما لا يلحقه الحرج في المشي إلى الجمعة .

                                                                                                                                وأما الكلام مع الشافعي فوجه قوله : أن الاستطاعة المذكورة هي القدرة من حيث سلامة الأسباب ، والآلات ، والقدرة تثبت بالإباحة فلا معنى لاشتراط الملك إذ الملك لا يشترط لعينه بل للقدرة على استعمال الزاد ، والراحلة أكلا ، وركوبا ، ولذا ثبتت بالإباحة ، ولهذا استوى الملك ، والإباحة في ( باب الطهارة ) في المنع من جواز التيمم كذا ههنا .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن استطاعة الأسباب ، والآلات لا تثبت بالإباحة ; لأن الإباحة لا تكون لازمة .

                                                                                                                                ألا ترى : أن للمبيح أن يمنع المباح له عن التصرف في المباح ، ومع قيام ولاية المنع لا تثبت القدرة المطلقة فلا يكون مستطيعا على الإطلاق فلم يوجد شرط الوجوب فلا يجب بخلاف مسألة الطهارة ; لأن شرط جواز التيمم عدم الماء بقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ، والعدم لا يثبت مع البذل ، والإباحة .

                                                                                                                                وأما تفسير الزاد ، والراحلة فهو أن يملك من المال مقدار ما يبلغه إلى مكة ذاهبا ، وجائيا راكبا لا ماشيا بنفقة وسط لا إسراف فيها ، ولا تقتير فاضلا عن مسكنه ، وخادمه ، وفرسه ، وسلاحه ، وثيابه ، وأثاثه ، ونفقة عياله ، وخدمه ، وكسوتهم ، وقضاء ديونه .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه قال : ونفقة شهر بعد انصرافه أيضا ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فسر الراحلة فقال : إذا كان عنده ما يفضل عما ذكرنا ما يكتري به شق محمل ، أو زاملة ، أو رأس راحلة ، وينفق ذاهبا ، وجائيا ، فعليه الحج ، وإن لم يكفه ذلك إلا أن يمشي أو يكتري عقبة ، فليس عليه الحج ماشيا ، ولا راكبا عقبة ، وإنما اعتبرنا الفضل على ما ذكرنا من الحوائج ; لأنها من الحوائج اللازمة التي لا بد منها فكان المستحق بها ملحقا بالعدم ، وما ذكره بعض أصحابنا في تقدير نفقة العيال سنة ، والبعض شهرا ، فليس بتقدير لازم بل هو على حسب اختلاف المسافة في القرب ، والبعد ; لأن قدر النفقة يختلف باختلاف المسافة فيعتبر في ذلك قدر ما يذهب ، ويعود إلى منزله ، وإنما لا يجب [ ص: 123 ] عليه الحج إذا لم يكف ماله إلا للعقبة ; لأن المفروض هو الحج راكبا لا ماشيا ، والراكب عقبة لا يركب في كل الطريق بل يركب في البعض ، ويمشي في البعض ، وذكر ابن شجاع أنه إذا كانت له دار لا يسكنها ، ولا يؤاجرها ، ومتاع لا يمتهنه ، وعبد لا يستخدمه ، وجب عليه أن يبيعه ، ويحج به ، وحرم عليه أخذ الزكاة إذا بلغ نصابا ; لأنه إذا كان كذلك كان فاضلا عن حاجته كسائر الأموال ، وكان مستطيعا فيلزمه فرض الحج فإن أمكنه بيع منزله ، وأن يشتري بثمنه منزلا دونه ، ويحج بالفضل فهو أفضل لكن لا يجب عليه ; لأنه محتاج إلى سكناه فلا يعتبر في الحاجة قدر ما لا بد منه كما لا يجب عليه بيع المنزل ، والاقتصار على السكنى ، وذكر الكرخي أن أبا يوسف قال إذا لم يكن له مسكن ، ولا خادم ، ولا قوت عياله ، وعنده دراهم تبلغه إلى الحج لا ينبغي أن يجعل ذلك في غير الحج فإن فعل أثم ; لأنه مستطيع لملك الدراهم فلا يعذر في الترك ، ولا يتضرر بترك شراء المسكن ، والخادم بخلاف بيع المسكن ، والخادم ، فإنه يتضرر ببيعهما ، وقوله : " ولا قوت عياله " مؤول وتأويله : ولا قوت عياله ما يزيد على مقدار الذهاب ، والرجوع .

                                                                                                                                فأما المقدار المحتاج إليه من وقت الذهاب إلى وقت الرجوع فذلك مقدم على الحج لما بينا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية