الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يصير به محرما فنقول ، وبالله التوفيق : لا خلاف في أنه إذا نوى ، وقرن النية بقول وفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله أنه يصير محرما بأن لبى ناويا به الحج إن أراد به الإفراد بالحج أو العمرة ، إن أراد الإفراد بالعمرة ، أو العمرة والحج ، إن أراد القران ; لأن التلبية من خصائص الإحرام ، وسواء تكلم بلسانه ما نوى بقلبه أو لا ; لأن النية عمل القلب لا عمل اللسان لكن يستحب أن يقول بلسانه ما نوى بقلبه فيقول : اللهم إني أريد كذا فيسره لي ، وتقبله مني لما ذكرنا في بيان سنن الحج ، وذكرنا التلبية المسنونة ، ولو ذكر مكان التلبية التهليل أو التسبيح أو التحميد أو غير ذلك مما يقصد به تعظيم الله تعالى مقرونا بالنية يصير محرما .

                                                                                                                                وهذا على أصل أبي حنيفة ، ومحمد في باب الصلاة أنه يصير شارعا في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير ، وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف ههنا ، وفرق بين الحج والصلاة .

                                                                                                                                وروي عنه أنه لا يصير محرما إلا بلفظ التلبية كما لا يصير شارعا في الصلاة إلا بلفظ التكبير فأبو حنيفة ، ومحمد مرا على أصلهما أن الذكر الموضوع لافتتاح الصلاة لا يختص بلفظ دون لفظ ففي باب الحج أولى ، ووجه الفرق لأبي يوسف على ظاهر الرواية عنه : أن باب الحج أوسع من باب الصلاة ، فإن أفعال الصلاة لا يقوم بعضها مقام بعض ، وبعض الأفعال يقوم مقام البعض كالهدي ، فإنه يقوم مقام كثير من أفعال الحج في حق المحصر ، وسواء كان بالعربية أو غيرها ، وهو يحسن العربية أو لا يحسنها ، وهذا على أصل أبي حنيفة ، وأبي يوسف في الصلاة ظاهر ، وهو ظاهر الرواية عن محمد في الحج .

                                                                                                                                وروي عنه أنه لا يصير محرما إلا إذا كان لا يحسن العربية كما في باب الصلاة فهما مرا على أصلهما ، ومحمد على ظاهر الرواية عنه فرق بين الصلاة والحج ، ووجه الفرق له على نحو ما ذكرنا لأبي يوسف في المسألة الأولى .

                                                                                                                                وتجوز النيابة في التلبية عند العجز بنفسه بأمره بلا خلاف ، حتى لو توجه يريد حجة الإسلام فأغمي عليه فلبى عنه أصحابه .

                                                                                                                                وقد كان أمرهم بذلك ، حتى لو عجز عنه بنفسه يجوز بالإجماع ، فإن لم يأمرهم بذلك نصا فأهلوا عنه جاز أيضا في قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز ، فلا خلاف في أنه تجوز النيابة في أفعال الحج عند عجزه عنها بنفسه من الطواف والسعي والوقوف ، حتى لو طيف به وسعي ووقف جاز بالإجماع ، وجه قولهما قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } ، ولم يوجد منه السعي في التلبية ; لأن فعل غيره لا يكون فعله حقيقة ، وإنما يجعل فعلا له تقديرا بأمره ، ولم يوجد ، بخلاف الطواف ونحوه فإن الفعل هناك ليس بشرط ، بل الشرط حصوله في ذلك الموضع على ما ذكرنا وقد حصل ، والشرط ههنا هو التلبية ، وقول غيره لا يصير قولا له إلا بأمره ولم يوجد ، ولأبي حنيفة أن الأمر ههنا موجود دلالة ، وهي دلالة عقد المرافقة ; لأن كل واحد من رفقائه المتوجهين إلى الكعبة يكون آذنا للآخر بإعانته فيما يعجز عنه من أمر الحج ، فكان الأمر موجودا دلالة .

                                                                                                                                وسعي الإنسان جاز أن يجعل سعيا لغيره بأمره فقلنا بموجب الآية بحمد الله تعالى ، ولو قلد بدنة يريد به الإحرام بالحج أو بالعمرة أو بهما ، وتوجه معها يصير محرما لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } ثم ذكر تعالى بعده { وإذا حللتم فاصطادوا } ، والحل يكون بعد الإحرام ، ولم يذكر الإحرام في الأول ، وإنما ذكر التقليد بقوله عز وجل { ولا القلائد } فدل أن التقليد منهم مع التوجه كان إحراما إلا أنه زيد عليه النية بدليل آخر ، وعن جماعة [ ص: 162 ] من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر رضي الله عنهم أنهم قالوا : إذا قلد فقد أحرم .

                                                                                                                                وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إذا قلد ، وهو يريد الحج أو العمرة فقد أحرم ، ولأن التقليد مع التوجه من خصائص الإحرام ، فالنية اقترنت بما هو من خصائص الإحرام فأشبه التلبية ، فإن قيل : أليس أنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا يحرم إلا من أهل ، ولبى فهذا يقتضي أنه لا يصير محرما بالتقليد ، فالجواب : أن ذلك محمول على ما إذا قلد ولم يخرج معها توفيقا بين الدلائل ، وبه نقول : إن بمجرد التقليد لا يصير محرما على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بهديه ، ويقيم فلا يحرم عليه شيء } ، والتقليد هو تعليق القلادة على عنق البدنة من عروة مزادة أو شراك نعل من أدم أو غير ذلك من الجلود ، وإن قلد ولم يتوجه ولم يبعث على يد غيره لم يصر محرما ، وإن بعث على يد غيره فكذلك عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم ، وعن ابن عباس : رضي الله عنه أنه يصير محرما بنفس التوجيه من غير توجه ، والصحيح : قول عامة العلماء لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { إني كنت لأفتل قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعثها ويمكث عندنا حلالا بالمدينة ، لا يجتنب ما يجتنبه المحرم } ، ولأن التوجيه من غير توجه ليس إلا أمر بالفعل فلا يصير به محرما ، كما لو أمر غيره بالتلبية ، ولو توجه بنفسه بعد ما قلد ، وبعث لا يصير محرما ما لم يلحقها ، ويتوجه معها فإذا لحقها ، وتوجه معها ، عند ذلك يصير محرما إلا في هدي المتعة ، فإن هناك يصير محرما بنفس التوجه قبل أن يلحقه .

                                                                                                                                والقياس أن لا يصير محرما ، ثم أيضا ما لم يلحق ويتوجه معه ; لأن السير بنفسه بدون البدنة ليس من خصائص الإحرام ، ولا دليل أنه يريد الإحرام ، فلا يصير به محرما إلا أنا تركنا القياس ، واستحسنا في هدي المتعة لما أن للهدي فضل تأثير في البقاء على الإحرام ما ليس لغيره ، بدليل أنه لو ساق الهدي لا يجوز له أن يتحلل ، وإن لم يسق جاز له التحلل ، فإذا كان له فضل تأثير في البقاء على الإحرام جاز أن يكون له تأثير في الابتداء .

                                                                                                                                وقد قالوا : إنه يصير محرما بنفس التوجه في أثر هدي المتعة ، وإن لم يلحق الهدي إذا كان في أشهر الحج ، فأما في غير أشهر الحج ، فلا يصير محرما حتى يلحق الهدي ; لأن أحكام التمتع لا تثبت قبل أشهر الحج ، فلا يصير هذا الهدي للمتعة قبل أشهر الحج فكان هدي التطوع ، ولو جلل البدنة ونوى الحج لا يصير محرما ، وإن توجه معها ; لأن التجليل ليس من خصائص الحج ; لأنه إنما يفعل ذلك لدفع الحر ، والبرد عن البدنة أو للتزيين ، ولو قلد الشاة ينوي به الحج وتوجه معها لا يصير محرما ، وإن نوى الإحرام ; لأن تقليد الغنم ليس بسنة عندنا فلم يكن من دلائل الإحرام ، فضلا عن أن يكون من خصائصه ، والدليل على أن الغنم لا تقلد قوله تعالى : { ولا الهدي ، ولا القلائد } عطف القلائد على الهدي ، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل .

                                                                                                                                واسم الهدي يقع على الغنم والإبل والبقر جميعا فهذا يدل على أن الهدي نوعان : ما يقلد ، وما لا يقلد ، ثم الإبل والبقر يقلدان بالإجماع فتعين أن الغنم لا تقلد ، ليكون عطف القلائد على الهدي عطف الشيء على غيره فيصح ، ولو أشعر بدنته ، وتوجه معها لا يصير محرما ; لأن الإشعار مكروه عند أبي حنيفة ; لأنه مثلة ، وإيلام الحيوان من غير ضرورة لحصول المقصود بالتقليد ، وهو الإعلام بكون المشعر هديا لئلا يتعرض له لو ضل ، والإتيان بفعل مكروه لا يصلح دليل الإحرام ، واختلف المشايخ على قول أبي يوسف ، ومحمد قال بعضهم : إن أشعر وتوجه معها يصير محرما عندهما ; لأن الإشعار سنة عندهما كالتقليد فيصلح أن يكون دليل الإحرام كالتقليد ، وقال بعضهم : لا يصير محرما عندهما أيضا ; لأن الإشعار ليس بسنة عندهما ، بل هو مباح فلم يكن قربة ، فلا يصلح دليل الإحرام ، وذكر في الجامع الصغير أن الإشعار عندهما حسن ، ولم يسمه سنة ; لأنه من حيث إنه إكمال لما شرع له التقليد ، وهو إعلام المقلد بأنه هدي لما أن تمام الإعلام تحصل به سنة ، ومن حيث إنه مثلة وبدعة فتردد بين السنة والبدعة فسماه حسنا ، وعند الشافعي الإشعار سنة ، واحتج بما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر } ، والجواب : أن ذلك كان في الابتداء حين كانت المثلة مشروعة ، ثم لما نهي عن المثلة انتسخ بنسخ المثلة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك قطعا لأيدي المشركين عن التعرض للهدايا لو ضلت ; لأنهم كانوا ما يتعرضون للهدايا .

                                                                                                                                والتقليد ما كان يدل دلالة تامة أنها هدي ، فكان يحتاج إلى الإشعار ليعلموا أنها هدي .

                                                                                                                                وقد زال هذا المعنى في زماننا فانتسخ بانتساخ المثلة ، ثم الإشعار [ ص: 163 ] هو الطعن في أسفل السنام ، وذلك من قبل اليسار عند أبي يوسف ، وعند الشافعي من قبل اليمين ، وكل ذلك مروي { عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يدخل بين بعيرين من قبل الرءوس ، وكان يضرب أولا الذي عن يساره من قبل يسار سنامه ، ثم يعطف على الآخر فيضربه من قبل يمينه اتفاقا للأول لا قصدا ، } فصار الطعن على الجانب الأيسر أصليا ، والآخر اتفاقيا ، بل الاعتبار الأصلي أولى ، والله عز وجل أعلم هذا الذي ذكرنا في أن الإحرام لا يثبت بمجرد النية ما لم يقترن بها قول وفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله ، ظاهر مذهب أصحابنا .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه يصير محرما بمجرد النية ، وبه أخذ الشافعي ، وهذا يناقض قوله : إن الإحرام ركن ; لأنه جعل نية الإحرام إحراما ، والنية ليست بركن بل هي شرط ; لأنها عزم على الفعل ، والعزم على فعل ليس ذلك الفعل ، بل هو عقد على أدائه ، وهو أن تعقد قلبك عليه أنك فاعله لا محالة ، قال الله تعالى : { فإذا عزم الأمر } أي : جد الأمر ، وفي الحديث : { خير الأمور عوازمها } أي ما وكدت رأيك عليه ، وقطعت التردد عنه ، وكونه ركنا يشعر بكونه من أفعال الحج ، فكان تناقضا ، ثم جعل الإحرام عبارة عن مجرد النية مخالف للغة ، فإن الإحرام في اللغة هو الإهلال ، يقال : أحرم أي أهل بالحج ، وهو موافق لمذهبنا ، أي الإهلال لا بد منه إما بنفسه أو بما يقوم مقامه على ما بينا .

                                                                                                                                والدليل على أن الإهلال شرط ما روي { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها وقد رآها حزينة ما لك ؟ فقالت : أنا قضيت عمرتي ، وألقاني الحج عاركا ، فقال النبي : صلى الله عليه وسلم ذاك شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم حجي وقولي مثل ما يقول الناس في حجهم ، } فدل قوله " قولي ما يقول الناس في حجهم " على لزوم التلبية ; لأن الناس يقولونها ، وفيه إشارة إلى أن إجماع المسلمين حجة يجب اتباعها حيث أمرها باتباعهم بقوله : " قولي ما يقول الناس في حجهم " ، وروينا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا يحرم إلا من أهل ولبى ، ولم يرو عن غيرها خلافه فيكون إجماعا ، ولأن مجرد النية لا عبرة به في أحكام الشرع عرفنا ذلك بالنص والمعقول ، أما النص ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله تعالى عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا أو يفعلوا } .

                                                                                                                                وأما المعقول فهو أن النية وضعت لتعيين جهة الفعل في العبادة ، وتعيين المعدوم محال ، ولو أحرم بالحج ، ولم يعين حجة الإسلام ، وعليه حجة الإسلام ، يقع عن حجة الإسلام استحسانا .

                                                                                                                                والقياس أن لا يقع عن حجة الإسلام إلا بتعيين النية ، وجه القياس أن الوقت يقبل الفرض والنفل ، فلا بد من التعيين بالنية بخلاف صوم رمضان أنه يتأدى بمطلق النية ; لأن الوقت هناك لا يقبل صوما آخر فلا حاجة إلى التعيين بالنية ، والاستحسان أن الظاهر من حال من عليه حجة الإسلام أنه لا يريد بإحرام الحج حجة التطوع ، ويبقي نفسه في عهدة الفرض فيحمل على حجة الإسلام بدلالة حاله ، فكان الإطلاق فيه تعيينا كما في صوم رمضان ، ولو نوى التطوع : يقع عن التطوع ; لأنا إنما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النية بدلالة حاله ، والدلالة لا تعمل مع النص بخلافه ، ولو لبى ينوي الإحرام ، ولا نية له في حج ، ولا عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا ، فإن طاف شوطا كان إحرامه عن العمرة ، والأصل في انعقاد الإحرام بالمجهول : ما روي { أن عليا ، وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما لما قدما من اليمن في حجة الوداع قال لهما النبي : صلى الله عليه وسلم بماذا أهللتما ؟ فقالا : بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم } فصار هذا أصلا في انعقاد الإحرام بالمجهول ، ولأن الإحرام شرط جواز الأداء عندنا ، وليس بأداء بل هو عقد على الأداء ، فجاز أن ينعقد مجملا ويقف على البيان ، وإذا انعقد إحرامه جاز له أن يؤدي به حجة أو عمرة ، وله الخيار في ذلك ، يصرفه إلى أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا واحدا ، فإذا طاف بالبيت شوطا واحدا ، كان إحرامه للعمرة ; لأن الطواف ركن في العمرة ، وطواف اللقاء في الحج ليس بركن ، بل هو سنة فإيقاعه عن الركن أولى .

                                                                                                                                وتتعين العمرة بفعله كما تتعين بقصده قال الحاكم في الأصل : وكذلك لو لم يطف حتى جامع أو أحصر كانت عمرة ; لأن القضاء قد لزمه فيجب عليه الأقل ، إذ الأقل متيقن به ، وهو العمرة ، والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية