الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              567 - يوسف الرازي

              ومنهم المتخلي من رؤية الناس ، المتحلي بالإخلاص خيفة رب الناس ، تارك للتزين والتصنع ، مفارق للتلون والتمتع أبو يعقوب يوسف بن الحسين الرازي ، كان وحيدا فريدا ، وعلى المتنطعين شديدا ، صحب ذا النون المصري ، [ ص: 239 ] وأبا تراب النخشبي ، وأبا سعيد الخزاز .

              سمعت محمد بن موسى يقول : سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول : سمعت أبا جعفر الرازي يقول : سمعت يوسف بن الحسين يقول : علم القوم بأن الله يراهم فاستحيوا من نظره أن يراعوا شيئا سواه ، ومن ذكر الله بحقيقة ذكره نسي ذكر غيره ، ومن نسي ذكر كل شيء في ذكره حفظ عليه كل شيء ، إذ كان الله له عوضا من كل شيء .

              قال : وقال رجل ليوسف : دلني على طريق المعرفة . فقال : أر الله الصدق منك في جميع أحوالك بعد أن تكون موافقا للحق ، ولا ترق إلى حيث لم يرق بك فتزل قدمك ، فإنك إذا رقيت سقطت وإذا رقي بك لم تسقط ، وإياك أن تترك اليقين لما ترجوه ظنا .

              سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : قال يوسف بن الحسين : عارضني بعض الناس في كلام وقال لي : لا تستدرك مرادك من علمك إلا أن تتوب ، فقلت مجيبا له : لو أن التوبة تطرق بابي ما أذنت لها على أني أنجو بها من ربي ، ولو أن الصدق والإخلاص كانا لي عبدين لبعتهما زهدا مني فيهما ; لأني إن كنت عند الله في علم الغيب سعيدا مقبولا لم أتخلف باقتراف الذنوب والمآثم ، وإن كنت عنده شقيا مخذولا لم تسعدني توبتي وإخلاصي وصدقي ، وإن الله تعالى خلقني إنسانا بلا عمل ولا شفيع كان لي إليه ، وهداني لدينه الذي ارتضاه ومن ( يتبع غير سبيل المؤمنين ) الآية ، ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) الآية ، فاعتمادي على فضله وكرمه أولى بي - إن كنت حرا عاقلا - من اعتمادي على أفعالي المدخولة وصفاتي المعلولة ; لأن مقابلة فضله وكرمه بأفعالنا من قلة المعرفة بالكريم المتفضل .

              سمعت أبا بكر الرازي بنيسابور يقول : قال يوسف بن الحسين : في الدنيا طغيانان : طغيان العلم وطغيان المال ، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة ، والذي ينجيك من طغيان المال الزهد فيه . وقال : بالأدب يفهم العلم ، وبالعلم يصح العمل ، وبالعمل تنال الحكمة ، وبالحكمة يفهم الزهد ويوفق له ، وبالزهد تترك الدنيا ، وبترك الدنيا يرغب في الآخرة ، وبالرغبة في الآخرة ينال رضا الله عز وجل .

              [ ص: 240 ] سمعت أبا بكر الرازي يقول : قال يوسف بن الحسين : إذا رأيت الله قد أقامك لطلب شيء وهو يمنعك ذلك فاعلم أنك معذب . وقال : يتولد الإعجاب بالعمل من نسيان رؤية المنة فيما يجري الله لك من الطاعات .

              سمعت محمد بن موسى يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : قال يوسف بن الحسين : نظرت في آفات الخلق فعرفت من أين أتوا ، ورأيت آفة الصوفية في صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد وإرفاق النسوان .

              سمعت أبا الفضل أحمد بن أبي عمران الهروي يقول : سمعت منصور بن عبد الله الهروي يقول : سمعت يتيمك الرازي يقول : لما ورد كتاب يوسف بن الحسين على الجنيد اشتهيت أن أراه من حسن كلامه ، فخرجت من بغداد زائرا له ، فلما جئت الري سألت عن دار يوسف فقالوا : أيش تعمل به ؟ هو رجل زنديق ، فسألت حتى دللت عليه فدخلت عليه فلما وقعت عيني عليه امتلأت هيبة من رؤيته وكان بين يديه مصحف يقرأ فيه فسلمت عليه فقال لي : من أين أقبلت ؟ قلت : من بغداد ، قال : وإلى أي شيء جئت ؟ قلت : زائرا إليك ، فقال لي : لو قال لك بحلوان أو بقرميسين أو بهمدان رجل : تقيم عندي حتى أقوم بكفايتك فأشتري لك جارية ودارا ، كان ذلك يمنعك من زيارتي ؟ قلت : ما ابتليت بشيء من هذا ، ولو كان بدا لي لا أدري كيف كنت في ذلك الوقت ؟ قال : أعيذك بالله ، أنت كيس ، عسى تقول شيئا ، قلت : نعم ، قال : غن لي ، فابتدأت فقلت :

              رأيتك تبني دائبا في قطيعتي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني كأني بكم واللبث أفضل قولكم     ألا ليتنا نبني إذا اللبث لا يغني
              قال : فبكى حتى ابتل المصحف الذي بين يديه ، ثم قال : يا بني ألوم أهل الري أن يقولوا : يوسف بن الحسين زنديق ، أنا من الغداة أقرأ في كتاب الله ولا أبكي ، وقلت أنت ذين البيتين ، أبصر أي شيء وقع ؟ .

              سمعت أبا الحسن علي بن هارون صاحب الجنيد يقول : قرأت في جواب يوسف بن الحسين إلى الجنيد : من تفتت عذاره ، وانقطع حزامه ، [ ص: 241 ] وساح في مفاوز الخطرات يلاحظ عنها أحكام السعادات ، يقول في حدائه :


              كيف السبيل إلى مرضاة     من غضبا من غير جرم ولم نعرف له سببا

              .

              وأقول :


              لتعرف نفسي قدرة الخالق الذي     يدبر أمر الخلق وهو شكور
              وأشكركم في السر والجهر دائبا     وإن كان قلبي في الوثاق أسير

              .

              قال : وسمعت أحمد بن أبي الحواري يقول : سمعت أبا سليمان الداراني يقول : ليس أعمال الخلق بالذي ترضيه ولا تسخطه ، إنما رضي عن قوم فاستعملهم بأعمال الرضا ، وسخط على قوم فاستعملهم بأعمال السخط ، وإني ربما تمثلت بهذه الأبيات :


              يا موقد النار في قلبي بقدرته     لو شئت أطفأت عن قلبي بك النار
              لا عار إن مت من شوقي ومن حزني     على فعالك بي لا عار لا عار

              .

              قال : وسمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم يقول : من جهل قدره هتك ستره .

              سمعت أبا عمرو العثماني يقول : أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى قال : سمعت يوسف بن الحسين يقول : سمعت ذا النون يقول : تكلمت خدع الدنيا على ألسنة العلماء وأماتت قلوب القراء فتن الدنيا ، فلست ترى إلا جاهلا متحيرا أو عالما مفتونا ، فيا من جعل سمعي وعاء لعلم عجائبه وقلبي منبعا لذكره ، ويا من من علي بمواهبه اجعلني بحبلك معتصما وبجودك متمسكا وبحبالك متصلا ، وأكمل نعمتك عندي بدوام معرفتك في قلبي كما أكملت خلقي وسددتني للتي تبلغني إليك واجعل ذلك مضموما إلى نعمائك عندي واهدني للشكر حتى أعلم مكان الزيادة منك في قلبي ، ولا تنزع محبتك من قلبي يا ذا الجلال والإكرام والجمال والنور والبهاء ، والحمد لله أولا وآخرا .

              حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، ثنا يوسف بن الحسين قال : سألت ذا النون : من أجالس ؟ قال : جالس من الناس من تقهرك هيبته وتخوفك في السر والعلانية رؤيته ويخبرك عن نفسك بالذي هو أعلم به منك . [ ص: 242 ] ونحو هذا ، إلا أن كلامه دلني على مجالسة من تقع علي هيبته .

              قال يوسف : وقيل لذي النون : أين مجلس الآمنين ؟ فقال : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) .

              قال يوسف : وسألت ذا النون يوما من الأيام : من أصحب ؟ قال : لا تصحب من ينخدع بغيرك ، قال يوسف : فعرضت هذه الكلمة على طاهر المقدسي فقال : نهاك عن صحبة الخلائق بأسرها .

              قال : وسمعت يوسف يقول : زار ذو النون أخا له في شقة بعيدة فقال ذو النون : ما بعد طريق أدى إلى صديق ولا ضاق مكان من حبيب .

              قال : وسمعت ذا النون وقيل له : ما لك إذا رأيت العاصي لا تحقد عليه وتقبح فعله وتهجره ؟ فقال : لأني أنظر إلى الصانع في الصنع فيهون علي المصنوع .

              قال : وسمعت يوسف بن الحسين يقول : سمعت الفتح بن شخرف يقول : قال لي ذو النون : من قطع الآمال من الخلق وصل إلى الخالق ، ولن يصل عبد إلى محبوبه دون قطع الآمال ممن دونه ، فمن أحب لقاء الله فليرم بكنفه عنده ، وليخلص وليشمر وليصبر ويرضى ويستسلم مخاطرا بنفسه ، فتؤديه مخاطرة نفسه إلى نفسه .

              قال : وسمعت يوسف بن الحسين يقول : حدثني محمد بن يحيى السرخسي الناسك قال : سمعت أبا يزيد البسطامي يقول : الحب لله على أربعة فنون : فن منه وهو منته ، وفن منك وهو ودك ، وفن له وهو ذكرك له ، وفن بينكما وهو العشق . قال يوسف : فذكرت ذلك لذي النون فقال : هذا الكمال ، الزاهد يقول : كيف أصنع ؟ والعارف يقول : كيف يصنع بي ؟ ثم قال : تاه القوم في جماله وجلاله .

              قال : وسمعت يوسف بن الحسين يقول : قال ذو النون : مقامات الرجال تسعة عشر مقاما أولها الإجابة وأعلاها التوكل .

              وقال ذو النون : الناس أعداء ما جهلوا وحساد ما منعوا ، من جهل قدره هتك ستره . قال : وأتاه رجل يوما فقال : يا أبا الفيض أوصني ، فقال : بم أوصيك ؟ إن كنت ممن قد أيدت منه في علم الغيب بصدق التوحيد فقد سبق لك قبل أن تخلق إلى يومنا هذا دعاء النبيين والمرسلين والصديقين ، وذلك خير من وصيتي ، وإن يكن غير ذلك فلن ينفعك النداء . قال : وسمعته يقول : استعبدنا بالعناء فلا بد من الانقياد له . قال : وسئل : لم أحب الناس [ ص: 243 ] الدنيا ؟ قال : لأن الله تعالى جعل الدنيا خزانة أرزاقهم فمدوا أعينهم إليها . وقال : الحبيب يسبق الاغتفار قبل الاعتذار ، وقال : من يسكن قلبك عليه فلا تفش سرك إليه . وسئل : من دون الناس غما ؟ قال : أسوؤهم خلقا . قيل : وما علامة سوء الخلق ؟ قال : كثرة الخلاف . وقال : صدور الأحرار قبور الأسرار . وسئل يوما : فيم يجد العبد الخلاص ؟ قال : الخلاص في الإخلاص فإذا أخلص تخلص ، قيل : فما علامة الإخلاص ؟ قال : إذا لم يكن في عملك محبة حمد المخلوقين ولا مخافة ذمهم فأنت مخلص إن شاء الله .

              أسند الحديث ، حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا أبو الحسين الصوفي محمد بن عبد الله الرازي بدمشق ، حدثني أبو يعقوب يوسف بن الحسين الصوفي الرازي ، ثنا أحمد بن حنبل ، ثنا مروان بن معاوية ، ثنا هلال بن سويد أبو المعلى ، عن أنس بن مالك قال : أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم طوائر ثلاث فأكل طيرا واستخبأ خادمه طيرين فردهما عليه من الغد فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألم أنهك أن ترفع شيئا لغد ؟ إن الله يأتي برزق كل غد . قال يوسف : كنت أتيت أبا عبد الله في أيام المتوكل فسألني عن بلدي ، وقال : ما حاجتك ؟ وفي أي شيء جئت إلي ؟ فقلت : لتحدثني ، فقال : أما بلغك أني قد أمسكت عن الحديث ؟ فقلت : بلى ولكن حدثني بشيء أذكرك به وأترحم عليك ، فحدثني بهذا الحديث ، ثم قال : هذا من بايتك يا صوفي ، تسألني عن شيوخ الري ، فقال : أيش خبر أبي زرعة حفظه الله ؟ فقلت : بخير ، فقال : خمسة أدعو الله لهم في دبر كل صلاة : أبواي والشافعي وأبو زرعة ، وآخر ذهب عني اسمه ، قال الشيخ : وحدث بهذا الحديث ، عن يوسف بن الحسين ، شيخنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم فيما أملاه ثنا يوسف بن الحسين الرازي الصوفي ، ثنا أحمد بن حنبل بإسناده مثله ، ولم يذكر الكلام .

              حدثنا أبو محمد بن حيان إملاء ، ثنا أحمد بن عصام الرازي ، حدثني يوسف بن الحسين ، ثنا عامر بن سيار ، ثنا محمد بن زياد ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس قال : من اشترى ما لا يحتاج إليه أوشك أن يبيع ما يحتاج إليه .

              [ ص: 244 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية