الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 283 ] أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي في كتابه ، وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، قال : سمعت عبد الرحمن بن أحمد يقول : سمعت الجنيد بن محمد يقول وهو يدعو بهذا الدعاء : الحمد لله إلهي حمدا كإحصاء علمك ، حمدا يرقى إليك على الألسنة الطاهرة مبرأ من زيغ وتهمة ، معرى من العاهات والشبهات ، قائما في عين محبتك بحنين صدق إخلاصه ، ليكون نور وجهك العظيم غايته ، وقدس عظمتك نهايته ، لا يستقر إلا عند مرضاتك ، خالصا بوفاء إرادتك نصب إرادتك ، حتى يكون لمحامدك سائقا قائدا ، إلهي ليس في أفق سماواتك ولا في قرار أرضك في فسحات أقاليمها من يحب أن يحمد غيرك إذ أنت منشئ المنشآت لا تعرف شيئا إلا منك ، وكيف لا تعرفك الأشياء ولم يقر الخلق إلا لك ، وبدؤه منك وأمره إليك وعلانيته وسره محصى في إرادتك ؟ فأنت المعطي ، والمانع وقضاؤك الضار والنافع ، وحلمك يمهل خلقك وقضاؤك يمحو ما تشاء من قدرك ، تحدث ما شئت أن تحدثه وتستأثر بما شئت أن تستأثره وتخلق ما أنت مستغن عن صنعه ، وتصنع ما يبهر العقول من حسن حكمته لا تسأل عما تفعل ، لك الحجة فيما تفعل ، وعندك أزمة مقادير البشر ، وتصاريف الدهور ، وغوامض سر النشور ، ومنك فهم معرفة الأشخاص الناطقة بتفريدك لا يغيب عنك ما في أكنة سرائر الملحدين ، ولا يتوارى عن علمك اكتساب خواطر المبطلين ، ولا يهيم في قضائك إلا الجاهلون ، ولا يغفل عن ذكرك وشكرك إلا الغافلون ، ولا تحتجب عنك وساوس الصدور ، ولا وهم الهواجس ، ولا إرادة الهمم ، ولا عيون الهمم التي تخرج بصائر القلوب ، إلهي فكيف أنظر إن نظرت إلا إلى رحمتك ، وإن غضضت فعلى نعمك ، فمن فضلك جعلت حكمك يحتمل على عطفك ، ومن فضلك جعلت نعمك تعم جميع خلقك ، فهب لي من لدنك ما لا يملك غيرك مما تعلمه يا وهاب يا فعال لما يريد ، واجعلني من خاصة أوليائك ، يا خير مدعو ، وأكرم راحم ، إنك أنت على كل شيء قدير .

              سمعت أبا الحسن علي بن هارون يقول : سمعت الجنيد بن محمد يقول : اعلم أن المناصحة منك للخلق ، والإقبال على ما هو أولى بك فيك وفيهم أفضل [ ص: 284 ] الأعمال لك في حياتك وأقربها إلى أوليائك في وقتك ، واعلم أن أفضل الخلق عند الله منزلة وأعظمهم درجة في كل وقت وزمن وفي كل محل ووطن أحسنهم إحكاما لما عليه في نفسه ، وأسبقهم بالمسارعة إلى الله فيما يحبه ، وأنفعهم بعد ذلك لعباده ، فخذ بالحظ الموفر لنفسك ، وكن عاطفا بالمنافع على غيرك ، واعلم أنك لن تجد سبيلا تسلكه إلى غيرك وعليك بقية مفترضة من حالك ، واعلم أن المؤهلين للرعاية إلى سبيل الهداية والمرادين لمنافع الخليقة والمرتبين للنذارة والبشارة أيدوا بالتمكين وأسعدوا براسخ علم اليقين ، وكشف لهم عن غوامض معالم الدين وفتح لهم في فهم الكتاب المستبين ، فبلغوا ما أنعم به عليهم من فضله ، وجاد به من عظيم أمره إحكام ما به أمروا ، والمسارعة إلى ما إليه ندبوا والدعاية إلى الله بما به مكنوا ، وهذه سيرة الأنبياء - صلوات الله عليهم - فيمن بعثوا إليهم من الأمم ، وسيرتهم في تأدية ما علموه من الحكم ، وسيرة المتبعين لآثارهم من الأولياء والصديقين وسائر الدعاة إلى الله من صالحي المؤمنين .

              كتب إلي جعفر بن محمد وقال : أنشدني الجنيد بن محمد :


              سرت بناس في الغيوب قلوبهم وجالوا بقرب الماجد المتفضل     ونالوا من الجبار عطفا ورأفة
              وفضلا وإحسانا وبرا يعجل     أولئك نحو العرش هامت قلوبهم
              وفي ملكوت العز تأوي وتنزل

              أنشدني عثمان بن محمد العثماني ، قال : أنشدني الحسين بن أحمد بن منصور الصوفي للجنيد بن محمد :


              تريد مني اختبار سري     وقد علمت المراد مني
              فليس لي من سواك حظ     فكيفما شئت فامتحني
              كل بلاء علي مني     يا ليتني قد أخذت عني

              كتب إلي جعفر بن محمد بن نصير الخلدي ، وسمعت أبا طاهر المحتسب ، يقول : قرأت على أبي محمد جعفر بن محمد بن نصير وهو يسمع قال : كان الجنيد بن محمد يدعو بهذا الدعاء على ممر الأيام : " الحمد لله حمدا دائما كثيرا طيبا مباركا موفورا لا انقطاع له ، ولا زوال ، ولا نفاد له ، ولا فناء كما ينبغي لكريم وجهك [ ص: 285 ] وعز جلالك ، وكما أنت أهل الحمد في عظيم ربوبيتك وكبريائك ، ولك من كل تسبيح وتقديس وتمجيد وتهليل وتحميد وتعظيم ، ومن كل قول حسن زاك جميل ترضاه مثل ذلك ، اللهم صل على عبدك المصطفى المنتخب المختار المبارك سيدنا ، ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى أشياعه وأتباعه وأنصاره وإخوانه من النبيين ، وصل اللهم على أهل طاعتك أجمعين من أهل السماوات والأرضين وصل على جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ورضوان ومالك ، اللهم وصل على الكروبيين والروحانيين والمقربين والسياحين والحفظة والسفرة والحملة ، وصل على ملائكتك وأهل السماوات وأهل الأرضين ، وحيث أحاط بهم علمك في جميع أقطارك كلها صلاة ترضاها وتحبها ، وكما هم لذلك كله أهل ، وأسألك اللهم بجودك ومجدك وبذلك وفضلك وطولك وبرك وإحسانك ومعروفك وكرمك ، وبما استقل به العرش من عظم ربوبيتك ، أسألك يا جواد يا كريم مغفرة كل ما أحاط به علمك من ذنوبنا ، والتجاوز عن كل ما كان منا ، وأد اللهم مظالمنا وقم بأودنا في تبعاتنا جودا منك ومجدا وبذلا منك وطولا ، وبدل قبيح ما كان منا حسنا ، يا من يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، أنت كذلك ، لا كذلك غيرك ، اعصمنا فيما بقي من الأعمار إلى منتهى الآجال عصمة دائمة كاملة تامة وكره إلينا كل الذي تكره ، وحبب إلينا كل الذي ترضاه وتحبه واستعملنا به على النحو الذي تحب ، وأدم ذلك لنا إلى أن تتوفانا عليه ، أكد على ذلك عزائمنا ، واشدد عليها نياتنا ، وأصلح لها سرائرنا ، وابعث لها جوارحنا ، وكن ولي توفيقنا وزيادتنا وكفايتنا ، هب لنا اللهم هيبتك ، وإجلالك ، وتعظيمك ، ومراقبتك ، والحياء منك ، وحسن الجد ، والمسارعة ، والمبادرة إلى كل قول زكي حميد ترضاه وهب لنا اللهم ما وهبت لصفوتك وأوليائك وأهل طاعتك من دائم الذكر لك ، وخالص العمل لوجهك على أكمله وأدومه ، وأصفاه ، وأحبه إليك ، وأعنا على العمل بذلك إلى منتهى الآجال ، اللهم وبارك لنا في الموت إذا نزل بنا ، اجعله يوم حباء وكرامة وزلفى وسرور واغتباط ، ولا تجعله يوم ندم ، ولا يوم أسى ، وأوردنا من قبورنا على سرور وفرح وقرة عين ، واجعلها رياضا من رياض [ ص: 286 ] جنتك وبقاعا من بقاع كرامتك ، ورأفتك ، ورحمتك ، لقنا فيها الحجج ، وآمنا فيها من الروعات ، واجعلنا آمنين مطمئنين إلى يوم تبعثنا يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، لا ريب في ذلك اليوم عندنا ، آمنا من روعاته وخلصنا من شدائده واكشف عنا عظيم كربه ، واسقنا من ظمئه ، واحشرنا في زمرة محمد صلى الله عليه وسلم المصطفى الذي انتخبته واخترته وجعلته الشافع لأوليائك المقدم على جميع أصفيائك الذي جعلت زمرته آمنة من الروعات ، أسألك يا من إليه لجؤنا ، وإليه إيابنا وعليه حسابنا أن تحاسبنا حسابا يسيرا لا تقريع فيه ولا تأنيب ولا مناقشة ولا مواقفة ، عاملنا بجودك ومجدك كرما واجعلنا من السرعان المغبوطين وأعطنا كتبنا بالأيمان ، وأجزنا الصراط مع السرعان وثقل موازيننا يوم الوزن ، ولا تسمعنا لنار جهنم حسيسا ، ولا زفيرا وأجرنا منها ، ومن كل ما يقرب إليها من قول وعمل ، واجعلنا بجودك ومجدك وكرمك في دار كرامتك وحبورك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا واجمع بيننا وبين آبائنا وأمهاتنا وقراباتنا وذرياتنا في دار قدسك ودار حبورك على أفضل حال وأسرها ، وضم إلينا إخواننا الذين هم على ألفتنا ، والذين كانوا على ذلك من كل ذكر وأنثى بلغهم ما أملوه ، وفوق ما أملوه وأعطهم فوق ما طلبوه ، واجمع بيننا وبينهم في دار قدسك ، ودار حبورك على أفضل حال وأسرها ، وعم المؤمنين والمؤمنات جميعا برأفتك ورحمتك الذين فارقوا الدنيا على توحيدك ، كن لنا ولهم وليا كالئا كافيا ، وارحم جفوف أقلامهم ، ووقوف أعمالهم وما حل بهم من البلاء ، والأحياء منهم تب على مسيئهم واقبل توبتهم وتجاوز عن المسرف منهم ، وانصر مظلومهم واشف مريضهم وتب علينا وعليهم توبة نصوحا ترضاها فإنك الجواد بذلك المجيد به القادر عليه ، وكن اللهم للمجاهدين منهم وليا وكالئا وكافيا وناصرا وانصرهم على عدوهم نصرا عزيزا ، واجعل دائرة السوء على أعدائك وأعدائنا ، اسفك الله دماءهم ، وأبح حريمهم ، واجعلهم فيئا لإخواننا من المؤمنين وأصلح الراعي والرعية وكل من وليته شيئا من أمور المسلمين صلاحا باقيا دائما ، اللهم أصلحهم في أنفسهم ، وأصلحهم لمن وليتهم [ ص: 287 ] عليهم وهب لهم العطف والرأفة والرحمة بهم ، وأدم ذلك لنا فيهم ولهم في أنفسهم ، اللهم اجمع لنا الكلمة واحقن الدماء وأزل عنا الفتنة وأعذنا من البلاء كله ، تول ذلك لنا بفضلك من حيث أنت به أعلم وعليه أقدر ولا ترنا في أهل الإسلام سيفين مختلفين ولا ترنا بينهم خلافا ، اجمعهم على طاعتك وعلى ما يقرب إليك ؛ فإنك ولي ذلك وأهله ، اللهم إنا نسألك أن تعزنا ولا تذلنا ، وترفعنا ولا تضعنا وتكون لنا ، ولا تكون علينا ، وتجمع لنا سبيل الأمور كلها أمور الدنيا التي هي بلاغ لنا إلى طاعتك ومعونة لنا على موافقتك ، وأمور الآخرة التي فيها أعظم رغبتنا وعليها معولنا وإليها منقلبنا ، فإن ذلك لا يتم لنا إلا بك ولا يصلح لنا إلا بتوفيقك ، اللهم وهب لنا هيبتك وإجلالك وتعظيمك ، وما وهبت لخاصتك من صفوتك من حقيقة العلم والمعرفة بك ، من علينا بما مننت به عليهم من آياتك وكراماتك ، واجعل ذلك دائما لنا يا من له ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير ، اللهم وهب لنا العافية الكاملة في الأبشار وجميع الأحوال ، وفي جميع الإخوان والذريات والقرابات ، وعم بذلك جميع المؤمنين والمؤمنات ، أجر علينا من أحكامك أرضاها لك ، وأحبها إليك ، وأعونها على كل مقرب من قول ، وعمل يا سامع الأصوات ويا عالم الخفيات ، ويا جبار السماوات صل على عبدك المصطفى محمد ، وعلى آل محمد أولا وآخرا ظاهرا وباطنا واسمع واستجب ، وافعل بنا ما أنت أهله يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية