الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الباء في قوله : ( فبما أغويتني ) فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه باء القسم ؛ أي : بإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم ؛ أي : بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة ، بأن أزين لهم الباطل ، وما يكسبهم المآثم ، ولما كانت ( الباء ) باء القسم ، كانت ( اللام ) جواب القسم ( وما ) بتأويل المصدر و ( أغويتني ) صلتها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن قوله : ( فبما أغويتني ) أي فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم ، والمراد أنك لما أغويتني فأنا أيضا أسعى في إغوائهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال بعضهم : ( ما ) في قوله : ( فبما أغويتني ) للاستفهام . كأنه قيل : بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ وقال : ( لأقعدن لهم ) وفيه إشكال ، وهو أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على "ما" الاستفهامية قليل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) لا خلاف بين النحويين أن "على" محذوف ، والتقدير : لأقعدن لهم على صراطك المستقيم .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الزجاج : مثاله قولك : ضرب زيد الظهر والبطن ، والمعنى على الظهر والبطن . وإلقاء كلمة "على" جائز ؛ لأن الصراط ظرف في المعنى : فاحتمل ما يحتمله لليوم والليلة ، في قولك : آتيك غدا وفي غد .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) فيه أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : المراد منه أنه يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها ، ولهذا المعنى ذكر القعود ؛ لأن من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود . ومواظبته على الإفساد هي مواظبته على الوسوسة حتى لا يفتر عنها .

                                                                                                                                                                                                                                            والبحث الثاني : أن هذه الآية تدل على أنه كان عالما بالدين الحق والمنهج الصحيح ؛ لأنه قال : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) وصراط الله المستقيم هو دينه الحق .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : الآية تدل على أن إبليس كان عالما بأن الذي هو عليه من المذهب والاعتقاد هو محض الغواية والضلال ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما قال : ( رب بما أغويتني ) وأيضا كان عالما بالدين الحق ، ولولا ذلك لما قال : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 33 ] وإذا ثبت هذا فكيف يمكن أن يرضى إبليس بذلك المذهب مع علمه بكونه ضلالا وغواية وبكونه مضادا للدين الحق ومنافيا للصراط المستقيم ، فإن المرء إنما يعتقد الفاسد إذا غلب على ظنه كونه حقا ، فأما مع العلم بأنه باطل وضلال وغواية يستحيل أن يختاره ويرضى به ويعتقده .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن من الناس من قال : إن كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل ؛ لأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية ، فقد علم أن ضده هو الحق ، فكان إنكاره إنكارا بمحض اللسان ، فكان ذلك كفر عناد ، ومنهم من قال : لا . بل كفره كفر جهل وقوله : ( فبما أغويتني ) وقوله : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) يريد به في زعم الخصم ، وفي اعتقاده . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية