الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : ثبت أن الوحي من الله تعالى ، إما أن لا يكون بواسطة شخص آخر ، ويمتنع أن يكون كل وحي حاصلا بواسطة شخص آخر ، وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور ، وهما محالان ، فلا بد من الاعتراف بحصول وحي يحصل لا بواسطة شخص آخر ، ثم ههنا أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أن الشخص الأول الذي سمع وحي الله لا بواسطة شخص آخر كيف يعرف أن الكلام الذي سمعه - كلام الله ، فإن قلنا إنه سمع تلك الصفة القديمة المنزهة عن كونها حرفا وصوتا ، لم يبعد أنه إذا سمعها علم بالضرورة كونها كلام الله تعالى ، ولم يبعد أن يقال إنه يحتاج بعد ذلك إلى دليل زائد ، أما إن قلنا إن المسموع هو الحرف والصوت امتنع أن يقطع بكونه كلاما لله تعالى ، إلا إذا ظهرت دلالة على أن ذلك المسموع هو كلام الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : أن الرسول إذا سمعه من الملك كيف يعرف أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان مضل ؟ والحق أنه لا يمكنه القطع بذلك إلا بناء على معجزة تدل على أن ذلك المبلغ ملك معصوم ، لا شيطان خبيث ، وعلى هذا التقدير فالوحي من الله تعالى لا يتم إلا بثلاث مراتب في ظهور المعجزات :

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الأولى : أن الملك إذا سمع ذلك الكلام من الله تعالى فلا بد له من معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الثانية : أن ذلك الملك إذا وصل إلى الرسول لا بد له أيضا من معجزة .

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الثالثة : أن ذلك الرسول إذا أوصله إلى الأمة ، فلا بد له أيضا من معجزة ، فثبت أن التكليف لا يتوجه على الخلق إلا بعد وقوع ثلاث مراتب في المعجزات .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : أنه لا شك أن ملكا من الملائكة قد سمع الوحي من الله تعالى ابتداء ، فذلك الملك هو جبريل ، ويقال : لعل جبريل سمعه من ملك آخر ، فالكل محتمل ولو بألف واسطة ، ولم يوجد ما يدل على القطع بواحد من هذه الوجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الرابع : هل في البشر من سمع وحي الله تعالى من غير واسطة ؟ المشهور أن موسى - عليه السلام - سمع كلام الله من غير واسطة ، بدليل قوله تعالى : ( فاستمع لما يوحى ) وقيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - سمعه أيضا لقوله تعالى : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [النجم : 10] .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الخامس : أن الملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة ، فبتقدير أن يراه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل مرة وجب أن يحتاج إلى المعجزة ، ليعرف أن هذا الذي رآه في هذه المرة عين ما رآه في المرة الأولى ، وإن كان لا يرى شخصه كانت الحاجة إلى المعجزة أقوى ، لاحتمال أنه حصل الاشتباه في [ ص: 163 ] الصوت ، إلا أن الإشكال في أن الحاجة إلى إظهار المعجزة في كل مرة لم يقل به أحد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : دلت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة ، فذلك هل يسمى وحيا من الله تعالى إلى إبليس أو لا ، الأظهر منعه ، ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثامنة : قرأ نافع " أو يرسل رسولا " برفع اللام ، " فيوحي " بسكون الياء ومحله رفع ؛ على تقدير : وهو يرسل فيوحي ، والباقون بالنصب على تأويل المصدر ، كأنه قيل : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو إسماعا لكلامه من وراء حجاب أو يرسل ، لكن فيه إشكال ؛ لأن قوله وحيا أو إسماعا اسم ، وقوله ( أو يرسل ) فعل ، وعطف الفعل على الاسم قبيح ، فأجيب عنه بأن التقدير : وما كان لبشر أن يكلمه إلا أن يوحي إليه وحيا أو يسمع إسماعا من وراء حجاب أو يرسل رسولا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة التاسعة : الصحيح عند أهل الحق أن عندما يبلغ الملك الوحي إلى الرسول ، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي ، وقال بعضهم : يجوز ذلك لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) [ الحج : 52 ] وقالوا : الشيطان ألقى في أثناء سورة النجم " تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى " وكان صديقنا الملك سام بن محمد رحمه الله وكان أفضل من لقيته من أرباب السلطنة يقول : هذا الكلام بعد الدلائل القوية القاهرة باطل من وجهين آخرين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول ، فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما سلك عمر فجا إلا وسلك الشيطان فجا آخر فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد ، فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى ؟

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة العاشرة : قوله تعالى : ( فيوحي بإذنه ما يشاء ) يعني فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله ، وهذا يقتضي أن الحسن لا يحسن لوجه عائد عليه ، وأن القبيح لا يقبح لوجه عائد إليه ، بل لله أن يأمر بما يشاء من غير تخصيص ، وأن ينهى عما يشاء من غير تخصيص ، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله ( ما يشاء ) والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى في آخر الآية ( إنه علي حكيم ) يعني أنه علي عن صفات المخلوقين ( حكيم ) يجري أفعاله على موجب الحكمة ، فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام ، وأخرى بإسماع الكلام ، وثالثا بتوسيط الملائكة الكرام ، ولما بين الله تعالى كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام ، قال : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) والمراد به القرآن ، وسماه روحا ، لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية