الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 240 ) مسألة : ( قال : وزوال العقل إلا أن يكون بنوم يسير جالسا أو قائما ) زوال العقل على ضربين : نوم ، وغيره فأما غير النوم ، وهو الجنون والإغماء والسكر وما أشبهه من الأدوية المزيلة للعقل ، فينقض الوضوء يسيره وكثيره إجماعا ، قال ابن المنذر : أجمع العلماء على وجوب الوضوء على المغمى عليه ; ولأن هؤلاء حسهم أبعد من حس النائم ، بدليل أنهم لا ينتبهون بالانتباه ، ففي إيجاب الوضوء على النائم تنبيه على وجوبه بما هو آكد منه .

                                                                                                                                            الضرب الثاني : النوم ، وهو ناقض للوضوء في الجملة ، في قول عامة أهل العلم ، إلا ما حكي عن أبي موسى الأشعري وأبي مجلز وحميد الأعرج ، أنه لا ينقض . وعن سعيد بن المسيب ، أنه كان ينام مرارا مضطجعا ينتظر الصلاة ، ثم يصلي ولا يعيد الوضوء . ولعلهم ذهبوا إلى أن النوم ليس بحدث في نفسه ، والحدث مشكوك فيه ، فلا يزول عن اليقين بالشك . ولنا : قول صفوان بن عسال : " لكن من غائط وبول ونوم " وقد ذكرنا أنه صحيح وروى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العين وكاء السه ، فمن نام فليتوضأ } رواه أبو داود ، وابن ماجه ; ولأن النوم مظنة الحدث ، فأقم مقامه ، كالتقاء الختانين في وجوب الغسل أقيم مقام الإنزال .

                                                                                                                                            ( 241 ) فصل : والنوم ينقسم ثلاثة أقسام نوم المضطجع ، فينقض الوضوء يسيره وكثيره ، في قول كل من يقول بنقضه بالنوم . الثاني نوم القاعد ، إن كان كثيرا نقض ، رواية واحدة وإن كان يسيرا لم ينقض . وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري ، وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي : لا ينقض وإن كثر إذا كان القاعد متكئا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض ، لما روى أنس ، قال : { كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ينامون ثم يقومون فيصلون ، ولا [ ص: 114 ] يتوضئون } قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وفي لفظ قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم ، ثم يصلون ولا يتوضئون وهذا إشارة إلى جميعهم وبه يتخصص عموم الحديثين الأولين .

                                                                                                                                            ولأنه متحفظ عن خروج الحدث ، فلم ينقض وضوءه ، كما لو كان نومه يسيرا . ولنا : عموم الحديثين الأولين ، وإنما خصصناهما في اليسير لحديث أنس ، وليس فيه بيان كثرة ولا قلة فإن النائم يخفق رأسه من يسير النوم ، فهو يقين في اليسير ، فيعمل به وما زاد عليه فهو محتمل لا يترك له العموم المتيقن ; ولأن نقض الوضوء بالنوم يعلل بإفضائه إلى الحدث ومع الكثرة والغلبة يفضي إليه ، ولا يحس بخروجه منه ، بخلاف اليسير ، ولا يصح قياس الكثير على اليسير ، لاختلافهما في الإفضاء إلى الحدث .

                                                                                                                                            الثالث ما عدا هاتين الحالتين وهو نوم القائم والراكع والساجد ، فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان : إحداهما ينقض . وهو قول الشافعي ; لأنه لم يرد في تخصيصه من عموم أحاديث النقض نص ، ولا هو في معنى المنصوص ، لكون القاعد متحفظا ، لاعتماده بمحل الحدث إلى الأرض ، والراكع والساجد ينفرج محل الحدث منهما . والثانية لا ينقض إلا إذا كثر . وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر ; لما روى ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام وينفخ ، ثم يقوم فيصلي ، فقلت له : صليت ولم تتوضأ وقد نمت ، فقال : إنما الوضوء على من نام مضطجعا ; فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله } رواه أبو داود ; ولأنه حال من أحوال الصلاة .

                                                                                                                                            فأشبهت حال الجلوس ، والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس ; لأنهما يشتبهان في الانخفاض واجتماع المخرج ، وربما كان القائم أبعد من الحدث لعدم التمكن من الاستثقال في النوم ، فإنه لو استثقل لسقط . والظاهر عنه في الساجد التسوية بينه وبين المضطجع ; لأنه ينفرج محل الحدث ، ويعتمد بأعضائه على الأرض ، ويتهيأ لخروج الخارج فأشبه المضطجع . والحديث الذي ذكروه منكر . قاله أبو داود .

                                                                                                                                            وقال ابن المنذر : لا يثبت ، وهو مرسل يرويه قتادة عن أبي العالية . قال شعبة : لم يسمع منه إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها .

                                                                                                                                            ( 242 ) فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي . فعنه : لا ينقض يسيره . قال أبو داود : سمعت أحمد قيل له : الوضوء من النوم ؟ قال إذا طال . قيل : فالمحتبي ؟ قال : يتوضأ . قيل : فالمتكئ ؟ قال . الاتكاء شديد ، والمتساند كأنه أشد . يعني من الاحتباء . ورأى منها كلها الوضوء ، إلا أن يغفو . يعني قليلا . وعنه : ينقض . يعني بكل حال ; لأنه معتمد على شيء ، فهو كالمضطجع .

                                                                                                                                            والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير ; لأن دليل انتفاء النقض في القاعد لا تفريق فيه فيسوي بين أحواله .

                                                                                                                                            ( 243 ) فصل : واختلف أصحابنا في تحديد الكثير من النوم الذي ينقض الوضوء ، فقال القاضي : ليس للقليل حد يرجع إليه ، وهو على ما جرت به العادة . وقيل : حد الكثير ما يتغير به النائم عن هيئته ، مثل أن يسقط على الأرض ، ومنها أن يرى حلما . والصحيح : أنه لا حد له لأن التحديد إنما يعلم بتوقيف ، ولا توقيف في [ ص: 115 ] هذا ، فمتى وجدنا ما يدل على الكثرة ، مثل سقوط المتمكن وغيره ، انتقض وضوءه .

                                                                                                                                            وإن شك في كثرته لم ينتقض وضوءه ; لأن الطهارة متيقنة ، فلا تزول بالشك .

                                                                                                                                            ( 244 ) فصل : ومن لم يغلب على عقله فلا وضوء عليه ; لأن النوم الغلبة على العقل ، قال بعض أهل اللغة في قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة : ابتداء النعاس في الرأس ، فإذا وصل إلى القلب صار نوما قال الشاعر :

                                                                                                                                            وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم

                                                                                                                                            ولأن الناقض زوال العقل ، ومتى كان العقل ثابتا وحسه غير زائل مثل من يسمع ما يقال عنده ويفهمه ، فلم يوجد سبب النقض في حقه . وإن شك هل نام أم لا ، أو خطر بباله شيء لا يدري أرؤيا أو حديث نفس ، فلا وضوء عليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية