الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 615 ) فصل : والمجتهد في القبلة هو العالم بأدلتها ، وإن كان جاهلا بأحكام الشرع ، فإن كل من علم أدلة شيء كان من المجتهدين فيه ، وإن جهل غيره ، ولأنه يتمكن من استقبالها بدليله ، فكان مجتهدا فيها كالفقيه ، ولو جهل الفقيه أدلتها أو كان أعمى ، فهو مقلد وإن علم غيرها . وأوثق أدلتها النجوم ، قال الله تعالى : { وبالنجم هم يهتدون } وقال تعالى : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } .

                                                                                                                                            وآكدها القطب الشمالي ، وهو نجم خفي حوله أنجم دائرة كفراشة الرحى ، في أحد طرفيها الفرقدان ، وفي الآخر الجدي ، وبين ذلك أنجم صغار ، منقوشة كنقوش الفراشة ، ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل ، تدور هذه الفراشة حول القطب ، دوران فراشة الرحى حول سفودها ، في كل يوم وليلة دورة ، في الليل نصفها وفي النهار نصفها ، فيكون الجدي عند طلوع الشمس في مكان الفرقدين عند غروبها ، ويمكن الاستدلال بها على ساعات الليل وأوقاته ، والأزمنة ، لمن عرفها ، وعلم كيفية دورانها ، وحولها بنات نعش مما يلي الفرقدين تدور حولها ، والقطب لا يبرح مكانه في جميع الأزمان ، ولا يتغير كما لا يتغير سفود الرحى بدورانها .

                                                                                                                                            وقيل : إنه يتغير تغيرا يسيرا لا يتبين ، ولا يؤثر ، وهو نجم خفي يراه حديد النظر إذا لم يكن القمر طالعا ، فإذا قوي نور القمر خفي ، فإذا استدبرته في الأرض الشامية ، كنت مستقبلا الكعبة .

                                                                                                                                            وقيل : إنه ينحرف في دمشق وما قاربها إلى المشرق قليلا ، وكلما قرب إلى المغرب كان انحرافه أكثر . وإن كان بحران وما يقاربها اعتدل ، وجعل القطب خلف ظهره معتدلا من غير انحراف . وقيل : أعدل القبل قبلة حران . وإن كان بالعراق جعل القطب حذو ظهر أذنه اليمنى على علوها ، فيكون مستقبلا باب الكعبة إلى المقام ، ومتى استدبر الفرقدين أو الجدي ، في حال علو أحدهما ونزول الآخر ، على الاعتدال ، كان ذلك كاستدبار القطب .

                                                                                                                                            وإن استدبره ، في غير هذه الحال ، كان مستقبلا للجهة ، فإذا استدبر الشرقي منها ، كان منحرفا إلى الغرب قليلا ، وإذا استدبر الغربي كان منحرفا إلى الشرق ، وإن استدبر بنات نعش ، كان مستقبلا للجهة أيضا ، إلا أن انحرافه أكثر

                                                                                                                                            [ ص: 264 ] فصل : ومنازل الشمس والقمر ، وهي ثمانية وعشرون منزلا ، وهي : السرطان ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والزبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانى ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرع المقدم ; والفرع المؤخر ، وبطن الحوت .

                                                                                                                                            منها أربعة عشر شامية تطلع من وسط المشرق أو مائلة عنه إلى الشمال قليلا ، أولها السرطان ، وآخرها السماك . ومنها أربعة عشر يمانية ، تطلع من المشرق أو ما يليه إلى التيامن ، أولها الغفر ; وآخرها بطن الحوت .

                                                                                                                                            ولكل نجم من الشامية رقيب من اليمانية ، إذا طلع أحدهما غاب رقيبه ، وينزل القمر كل ليلة بمنزلة منها قريبا منه ، ثم ينتقل في الليلة الثانية إلى المنزل الذي يليه ، قال الله تعالى : { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } .

                                                                                                                                            والشمس تنزل بكل منزل منها ثلاثة عشر يوما ، فيكون عودها إلى المنزل الذي نزلت به عند تمام حول كامل من أحوال السنة الشمسية ، وهذه المنازل يكون منها فيما بين غروب الشمس وطلوعها أربعة عشر منزلا ، ومن طلوعها إلى غروبها مثل ذلك ، ووقت الفجر منها منزلان ، ووقت المغرب منزل ، وهو نصف سدس سواد الليل ، وسواد الليل اثنا عشر منزلا ، وكلها تطلع من المشرق وتغرب في المغرب ، إلا أن أوائل الشامية وآخر اليمانية تطلع من وسط المشرق ، بحيث إذا طلع جعل الطالع منها محاذيا لكتفه الأيسر كان مستقبلا للكعبة ، وكذلك آخر الشامية .

                                                                                                                                            وأول اليمانية يكون مقاربا لذلك ، والمتوسط من الشامية ، وهو الذراع وما يليه من جانبيه ، يميل مطلعه إلى ناحية الشمال ، والمتوسط من اليمانية - نحو العقرب ، والنعائم ، والبلدة ، والسعود - تميل مطالعها إلى اليمين ، فاليماني منها يجعله من أمام كتفه اليسرى ، والشامي يجعله خلف كتفه الأيمن قريبا منها ، والغارب منها يجعله عند كتفه الأيمن كذلك .

                                                                                                                                            وإن عرف المتوسط منها بأن يرى بينه وبين أفق السماء سبعة من هاهنا وسبعة من هاهنا ، استقبله ، ولكل نجم من هذه المنازل نجوم تقاربه ، وتسير بسيره ، من عن يمينه ، وشماله ، يكثر عددها ، حكمها حكمه ، ويستدل بها عليه ، وعلى ما تدل عليه ، كالنسرين والشعريين ، والنظم المقارن للهقعة ، والسماك الرامح ، والفكة ، وغيرها ، وكلها تطلع من المشرق وتغرب في المغرب ، وسهيل نجم كبير مضيء يطلع من نحو مهب الجنوب ، ثم يسير حتى يصير في قبلة المصلي ، ثم يتجاوزها ، ثم يغرب قريبا من مهب الدبور ، والناقة أنجم على صورة الناقة ، تطلع في المجرة من مهب الصبا ، ثم تغيب في مهب الشمال .

                                                                                                                                            ( 617 ) فصل : والشمس تطلع من المشرق ، وتغرب في المغرب ، وتختلف مطالعها ومغاربها ، على حسب اختلاف منازلها ، وتكون في الشتاء في حال توسطها في قبلة المصلي ، وفي الصيف محاذية لقبلته .

                                                                                                                                            ( 618 ) فصل : والقمر يبدو أول ليلة من الشهر هلالا في المغرب ، عن يمين المصلي ، ثم يتأخر كل ليلة نحو المشرق منزلا ، حتى يكون ليلة السابع وقت المغرب في قبلة المصلي ، أو مائلا عنها قليلا ، ثم يطلع ليلة الرابع عشر من المشرق قبل غروب الشمس ، بدرا تاما ، وليلة إحدى وعشرين يكون في قبلة المصلي ، أو قريبا منها ، وقت الفجر ، [ ص: 265 ] وليلة ثمان وعشرين يبدو عند الفجر كالهلال من المشرق ، وتختلف مطالعه باختلاف منازله .

                                                                                                                                            ( 619 ) فصل : والرياح كثيرة يستدل منها بأربع ، تهب من زوايا السماء ; الجنوب تهب من الزاوية التي بين القبلة والمشرق ، مستقبلة بطن كتف المصلي الأيسر ، مما يلي وجهه إلى يمينه ، والشمال مقابلتها ، تهب من الزاوية التي بين المغرب والشمال ; مارة إلى مهب الجنوب .

                                                                                                                                            والدبور تهب من الزاوية التي بين المغرب واليمن ، مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن ، مارة إلى الزاوية المقابلة لها . والصبا مقابلتها ، تهب من ظهر المصلي . وربما هبت الرياح بين الحيطان والجبال فتدور ، فلا اعتبار بها .

                                                                                                                                            وبين كل ريحين ريح تسمى النكباء ، لتنكبها طريق الرياح المعروفة ، وتعرف الرياح بصفاتها وخصائصها ، فهذا أصح ما يستدل به على القبلة .

                                                                                                                                            وذكر أصحابنا الاستدلال بالمياه ، وقالوا : الأنهار الكبار كلها تجري عن يمنة المصلي إلى يسرته ، على انحراف قليل ، وذلك مثل دجلة والفرات والنهروان ، ولا اعتبار بالأنهار المحدثة ; لأنها تحدث بحسب الحاجات إلى الجهات المختلفة ، ولا بالسواقي والأنهار الصغار ; لأنها لا ضابط لها ، ولا بنهرين يجريان من يسرة المصلي إلى يمينه ، أحدهما العاصي بالشام ، والثاني سيحون بالمشرق .

                                                                                                                                            وهذا الذي ذكروه لا ينضبط بضابط ; فإن كثيرا من أنهار الشام تجري على غير السمت الذي ذكروه ، فالأردن يجري نحو القبلة ، وكثير منها يجري نحو البحر ، حيث كان منها حتى يصب فيه . وإن اختصت الدلالة بما ذكروه فليس شيء منها في الشام سوى العاصي ، والفرات حد الشام من ناحية المشرق .

                                                                                                                                            فمن علم هذه الأدلة فهو مجتهد ، وقد يستدل أهل كل بلدة بأدلة تختص ببلدتهم ; من جبالها ، وأنهارها ، وغير ذلك ، مثل من يعلم أن جبلا بعينه يكون في قبلتهم ، أو على أيمانهم ، أو غير ذلك من الجهات . وكذلك إن علم مجرى نهر بعينه . فمن كان من أهل الاجتهاد ، إذا خفيت عليه القبلة في السفر ، ولم يجد مخبرا ، ففرضه الصلاة إلى جهة يؤديه اجتهاده إليها .

                                                                                                                                            فإن خفيت عليه الأدلة لغيم أو ظلمة ، تحرى فصلى ، والصلاة صحيحة ; لما نذكره من الأحاديث ، ولأنه بذل وسعه في معرفة الحق ، مع علمه بأدلته ، فأشبه الحاكم والعالم إذا خفيت عليه النصوص .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية