الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          336 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          وتعجيل جميع الصلوات في أول أوقاتها أفضل على كل حال ; حاشا العتمة ; فإن تأخيرها إلى آخر وقتها في كل حال وكل زمان أفضل ; إلا أن يشق ذلك [ ص: 215 ] على الناس ; فالرفق بهم أولى ، وحاشا الظهر للجماعة خاصة في شدة الحر خاصة ، فالإبراد بها إلى آخر وقتها أفضل .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك : قول الله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } ، وقال تعالى : { والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم } فالمسارعة إلى الخير والمسابقة إليه أفضل بنص القرآن ؟ حدثنا محمد بن إسماعيل العذري القاضي بالثغر ، ومحمد بن عيسى قاضي طرطوشة قالا ثنا محمد بن علي المطوعي الرازي ثنا محمد بن عبد الله الحاكم بنيسابور ثنا أبو عمر وعثمان بن أحمد السماك ثنا الحسن بن مكرم ثنا عثمان بن عمر ثنا مالك بن مغول عن الوليد بن العيزار عن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود قال { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة في أول وقتها ، قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ; قلت : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين } .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن حبيب الحارثي ثنا خالد بن الحارث ثنا شعبة أخبرني سيار بن سلامة قال : سمعت أبي يسأل أبا برزة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو برزة { كان عليه السلام لا يبالي بعض تأخيرها إلى نصف الليل - يعني العشاء الآخرة - ولا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها وكان يصلي الظهر حين [ ص: 216 ] تزول الشمس ، والعصر حين يذهب الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حية ، وكان يصلي الصبح فينصرف الرجل فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه ، وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة } .

                                                                                                                                                                                          والأحاديث في هذا كثيرة جدا ؟ وبه إلى مسلم : حدثني زهير بن حرب وإسحاق بن راهويه كلاهما عن جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور هو ابن المعتمر - عن الحكم هو ابن عتيبة - عن نافع عن ابن عمر { مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة ، فخرج إلينا حين ذهب ثلثه أو بعده - يعني ثلث الليل فقال : إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى } .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا من طريق ثابت البناني أنه سمع أنس بن مالك يقول { أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل ، أو كاد يذهب شطر الليل } [ ص: 217 ] ومن طريق أم كلثوم بنت أبي بكر عن أختها عائشة { أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : إذا ذهب نصف الليل فقد ذهب عامة الليل ; وهذه الأخبار زائدة على كل خبر ؟ والسند المذكور إلى مسلم : حدثني محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة سمعت مهاجرا أبا الحسن يحدث أنه سمع زيد بن وهب يحدث عن أبي ذر قال { أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبرد أبرد ، أو قال : انتظر انتظر ، إن شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، قال أبو ذر : حتى رأينا فيء التلول } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وإنما لم نحمل هذا الأمر على الوجوب لما رويناه بالسند المذكور إلى مسلم ، ثنا أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية ثنا أبو إسحاق السبيعي عن سعيد بن وهب عن خباب { شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء فلم يشكنا } .

                                                                                                                                                                                          قلت لأبي إسحاق : أفي الظهر في تعجيلها ؟ قال : نعم وقد جاء نحو ما تخيرناه في الأوقات عن السلف كما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير بن مطعم : أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : أن صل الظهر إذا زالت الشمس وأبرد ؟ .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن المنهال : ثنا يزيد بن هارون ثنا محمد بن سيرين عن [ ص: 218 ] المهاجر : أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : أن صل الظهر حين تزيغ الشمس أو حين تدرك ، وصل العصر والشمس بيضاء نقية ، وصل صلاة المغرب حين تغرب الشمس ، وصل صلاة العشاء من العشاء إلى نصف الليل - : أي حين تبيت ، وصل صلاة الفجر بغلس ، أو بسواد ; وأطل القراءة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم بن الحجاج : ثنا أبو الربيع الزهراني ثنا حماد هو ابن زيد - عن الزبير بن الخريت عن عبد الله بن شقيق : { خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم ، وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة ، فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة فقال له ابن عباس : أتعلمني بالسنة ، لا أم لك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء . }

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي : ثنا سفيان الثوري عن عثمان بن عبد الله بن موهب : سمعت أبا هريرة سئل عن تفريط الصلاة ؟ فقال : أن تؤخرها إلى التي بعدها ؟ حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني نافع : أن ابن عمر كان يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إن الذي تفوته [ ص: 219 ] صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله } ، فقلت لنافع : حتى تغيب الشمس ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذا الحديث والذي فيه { إنما التفريط في اليقظة ، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت أخرى } يكذبان قول من أقدم بالعظيمة فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك صلاة العصر يوم الخندق ذاكرا لها حتى غابت الشمس ; لأنه لو كان ذلك لكان عليه السلام قد تعمد حالا من الحرمان صار فيها كما لو وتر أهله وماله ، قاصدا إلى ما ذمه من التفريط - ، وهذا لا يقوله مسلم ؟ .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى ابن جريج : قلت لعطاء : إمام يؤخر العصر ; أصليها معه ؟ قال : نعم ، الجماعة أحب إلي ؟ قلت : وإن اصفرت الشمس للغروب ولحقت برءوس الجبال ؟ قال : نعم ، ما لم تغب قال ابن جريج : وكان طاوس يعجل العصر ويؤخرها ; أخبرني إبراهيم بن ميسرة عنه : أنه كان يؤخر العصر حتى تصفر الشمس جدا .

                                                                                                                                                                                          وأما الآخر : الذي فيه { لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا الصلاة إلى اشتباك النجوم ؟ } فإنه لا يصح ; لأنه مرسل ; لم يسند إلا من طريق الصلت بن بهرام .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : وقت صلاة الفجر حين يطلع الفجر المعترض إلى أن تطلع الشمس ، يعني إثر سلامه منها ؟ [ ص: 220 ] قال : وتأخيرها أحب إلي من التغليس بها ; لأنه أكثر للجماعة .

                                                                                                                                                                                          ووقت الظهر من حين تزول الشمس إلى أن يكون الظل دون القامتين ; والتهجير بها في الشتاء أحب إلي : وأن يبرد بها في الصيف أعجب إلي .

                                                                                                                                                                                          ووقت العصر إذا كان الظل قامتين إلى قبل أن تغيب الشمس ، يريد - : أن يكبر لها قبل تمام غروب الشمس ; وتأخيرها أحب إليه ما لم تصفر الشمس .

                                                                                                                                                                                          ووقت المغرب مذ تغرب الشمس إلى أن يغيب الشفق ، وتعجيلها أحب إليه .

                                                                                                                                                                                          ووقت العتمة مذ يغيب الشفق إلى نصف الليل ، وتأخيرها أفضل ، ووقتها يمتد إلى طلوع الفجر .

                                                                                                                                                                                          قال علي : كل ما قال مما خالفناه فيه فقد أبدينا بالبرهان سقوط قوله ; إلا تأخير الصبح ، فإنه احتج في ذلك [ بخبر ] من طريق محمود بن لبيد عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أسفروا بصلاة الغداة ، فإنه أعظم لأجركم } { أسفروا بالفجر ، فكلما أسفرتم فإنه أعظم للأجر أو لأجركم } قال علي : محمود بن لبيد ثقة ، وهو محمود بن الربيع بن لبيد .

                                                                                                                                                                                          والخبر صحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه إذا أضيف إلى الثابت من فعله عليه السلام في التغليس ; حتى إنه لينصرف والنساء لا يعرفن ، أو حين يعرف الرجل وجه جليسه الذي كان يعرفه ; وأن هذا كان المداوم عليه من علمه .

                                                                                                                                                                                          عليه السلام [ ص: 221 ] صح أن الإسفار المأمور به إنما هو بأن ينقضي طلوع الفجر ولا يصلي على شك منه فإن قيل : إنه لا أجر في غير هذا ، بل ما فيه إلا الإثم ؟ قلنا : هذا لا ينكر في لغة العرب ; لأن الله تعالى يقول { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم } ولا خير في خلاف ذلك ومن الباطل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلف أمته وأصحابه المشقة في ترك النوم ألذ ما يكون ، وخروج الرجال والنساء إلى صلاة الصبح - : عملا فيه مشقة وكلفة وحطيطة من الأجر ; ويمنعهم الفضل والأجر مع الراحة ; حاشا لله تعالى من هذا ; فهذا ضد النصيحة ، وعين الغش والحرج والظلم .

                                                                                                                                                                                          وما ندريهم تعلقوا في هذا إلا برواية عن ابن مسعود في التغليس بصلاة الصبح حين انشق الفجر يوم النحر ، وقوله رضي الله عنه : إنها صلاة حولت عن وقتها في ذلك اليوم في ذلك المكان ، وهذا خبر مسقط لقولهم جملة ; لأنهم مخالفون له جملة ; إذ قولهم الذي لا خلاف عنهم فيه : أن التغليس بها في أول الفجر ليس صلاة لها في غير وقتها ; بل هو وقتها عندهم ؟ فمن أضل ممن يموه بحديث هو مخالف له ; ويوهم خصمه أنه حجة له .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم في اختيار تأخير العصر : فقول مخالف للقرآن في المسارعة إلى الخير - ولجميع السنن ، ولجميع السلف ; وللقياس على قوله في صلاة الظهر والمغرب ؟ وقال مالك : وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس ، ووقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر ، والصبح إلى طلوع الشمس - وأحب إليه في الصبح : التغليس .

                                                                                                                                                                                          وأحب إليه في صلاة الظهر : أن تصلى في البرد والحر إذا فاء الفيء ذراعا ، وأحب إليه : أن تصلى العصر والشمس بيضاء نقية ؟ وتعجيل المغرب إلا للمسافر ; فلا بأس بأن تمد الميلين ونحوهما .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 222 ] والعتمة : إثر مغيب الشفق قليلا ؟ قال علي : أما قوله في اتصال وقت الظهر إلى غروب الشمس ، ووقت المغرب إلى صلاة الفجر ؟ فقول مخالف لجميع السنن ; ولا نعلمه عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ; ولا عن أحد من التابعين - إلا عن عطاء وحده وأما قوله في وقت العتمة ؟ فلا نعلم اختياره أيضا عن أحد من السلف وأما قوله في وقت الظهر ؟ فإنه عول على الرواية عن عمر رضي الله عنه : أن صل الظهر إذا فاء الفيء ذراعا . وقد ذكرنا الروايات المترادفة عن عمر رضي الله عنه : بأن تصلى إذا زاغت الشمس وأن يبرد بها .

                                                                                                                                                                                          روى ذلك عنه : عائشة أم المؤمنين ، وابنه عبد الله ، ونافع بن جبير ، ومهاجر أبو الحسن ، وأبو العالية ، وعروة بن الزبير ، وأبو عثمان النهدي ، ومالك جد مالك بن أنس وروته عائشة مسندا ، ومن فعل أبي بكر أيضا ؟ ورويناه أيضا عن علي بن أبي طالب ، وأبي هريرة ، وابن مسعود وغيرهم ؟ وإن ذكروا : أنه قد روي عن ابن عباس : وقت العتمة إلى صلاة الفجر ; وعن أبي هريرة : الإفراط في العتمة إلى صلاة الفجر ؟ - : فإنهم قد خالفوا ذلك الأثر عن ابن عباس ; لأن فيه : وقت الظهر إلى وقت العصر ; ووقت المغرب إلى وقت العشاء ؟ وإذا اختلف الصحابة فالرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه من القرآن والسنة .

                                                                                                                                                                                          قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية