الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

            1119 - أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم ، أبو عمر العامري .

            ولد سنة أربعين ومائة ، وكان أحد فقهاء مصر ، وذوي رأيها .

            توفي في شعبان هذه السنة .

            قال محمد بن عاصم المغافري : رأيت في المنام قائلا يقول: يا محمد ، فأجبته ، فقال:


            ذهب الذين يقال عند فراقهم ليت البلاد بأهلها تتصدع

            وكان أشهب مريضا ، فقلت: ما أخوفني أن يموت أشهب . فمات من مرضه ذلك .

            1120 - بهلول بن حسان بن سنان ، أبو الهيثم التنوخي .

            من أهل الأنبار ، سمع ببغداد ، والبصرة ، والكوفة ، ومكة ، والمدينة ، وحدث عن شيبان بن عبد الرحمن ، وورقاء بن عمر ، والفرج بن فضالة وإسماعيل بن عياش ، وسعيد بن أبي عروبة ، وشعبة ، وحماد بن سلمة ، وهشيم ، وغيرهم وكذا حدث عن مالك ، وابن عيينة .

            عن أحمد بن يوسف الأزرق قال: أخبرني عمي البهلول بن إسحاق بن البهلول قال: كان جدي البهلول بن حسان قد طلب الأخبار ، واللغة ، والشعر ، وأيام الناس ، والتفسير ، والسير ، فأكثر من ذلك .

            ثم تزهد إلى أن مات بالأنبار سنة أربع ومائتين .

            1121 - الحسن بن زياد ، أبو علي اللؤلؤي .

            أحد أصحاب أبي حنيفة ، حدث عنه فروى عنه ابن سماعة ، ومحمد بن شجاع البلخي ، وولي القضاء بعد حفص بن غياث ، وكان إذا جاءه خصمان لم يدر كيف يحكم ، فإذا ذهبا عرف الحكم ولم يوفق في القضاء ، وكان يحكى عنه قلة دين .

            قال يحيى بن معين : هو كذاب خبيث ، وقال أبو ثور : ما رأيت أكذب منه ، قال الدارقطني : متروك توفي في هذه السنة .

            1122 - سليمان بن داود بن الجارود [أبو الوليد الطيالسي مولى قريش .

            وأصله فارسي ، سكن البصرة ، وحدث عن شعبة والثوري ، وخلق كثير ، وروى عنه: أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، وجماعة .

            وكان حافظا مكثرا ثبتا ، كتبوا عنه أربعين ألف حديث ، وليس معه كتاب .

            قال: أبو داود الطيالسي بصري ثقة ، وكان كثير الحفظ ، وكان قد شرب البلاذر هو وعبد الرحمن بن مهدي ، فجذم أبو داود ، وبرص عبد الرحمن فحفظ أبو داود أربعين ألف حديث ، وحفظ عبد الرحمن عشرة آلاف حديث .

            توفي أبو داود في صفر هذه السنة ، وقيل في ربيع الأول وهو ابن اثنتين وسبعين سنة . وقيل: في سنة ثلاث .

            1123 - لهيعة بن عيسى بن لهيعة ، أبو عقبة الحضرمي .

            يروي عن عمه عبد الله بن لهيعة ، وكان قاضي مصر .

            توفي في ذي القعدة من هذه السنة .

            1124 - محمد بن عبيد بن أبي أمية - واسمه عبد الرحمن - ويكنى محمد أبا عبد الله الإيادي الطنافسي الكوفي .

            ولد سنة سبع وعشرين ومائة ، وسمع هشام بن عروة ، ومحمد بن إسحاق ، والأعمش ، وغيرهم . نزل بغداد دهرا ، ثم رجع إلى الكوفة ، فمات بها في هذه السنة وقيل: في سنة خمس . وقيل: في سنة ثلاث .

            [حدث عنه أحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابن راهويه ، وخلق كثير] .

            عن أحمد بن محمد بن غالب قال: سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول: يعلى ، ومحمد ، وعمر ، وإدريس ، وإبراهيم بنو عبيد كلهم ثقات ، وإبراهيم ثقة [وأبوهم ثقة] .

            1125 - الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، أبو عبد الله .

            عن [أحمد بن علي] الخطيب قال: سمعت القاضي أبا الطيب الطبري يقول: شافع بن السائب الذي ينسب إليه الشافعي رضي الله عنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مرتوع ، وأسلم أبوه السائب يوم بدر ، فإنه كان صاحب راية بني هاشم ، فأسر وفدى نفسه ، ثم أسلم فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفتدى؟ فقال: ما كنت لأحرم المؤمنين طعما لهم في .

            قال القاضي : وقد وصف بعض أهل العلم بالنسب الشافعي فقال: شقيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه ، وشريكه في حسبه ، لم ينل رسول الله صلى الله عليه وسلم طهارة في مولده ، وفضيلة في آبائه إلا وهو قسيمه فيها إلى أن افترقا من عبد مناف ، فزوج المطلب ابنه هاشما الشفا بنت هاشم بن عبد مناف ، فولدت له عبد يزيد جد الشافعي ، وكان يقال لعبد يزيد المحض لا قذى فيه ، فقد ولد الشافعي الهاشمان: هاشم بن المطلب ، وهاشم بن عبد مناف . والشافعي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته ، لأن المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشفا بنت هاشم أخت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما أم الشافعي فهي أزدية ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأزد جرثومة العرب " .

            ولد بغزة من بلاد الشام ، وقيل: باليمن ، ونشأ بمكة وكتب العلم بها وبمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان خفيف العارضين يخضب بالحناء ، وقدم بغداد مرتين وحدث بها ، وسمي فيها ناصر الحديث ، وخرج إلى مصر فنزلها إلى حين وفاته .

            وسمع من مالك بن أنس ، وإبراهيم بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، وعبد العزيز الدراوردي ، ومسلم بن خالد الزنجي ، وخلق كثير .

            وروى عنه أحمد بن حنبل وغيره من الأكابر .

            عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي : ولدت بغزة سنة خمس ، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين .

            قال: وأخبرني غيره ، عن الشافعي قال: لم يكن لي مال وكنت أطلب العلم في الحداثة ، أذهب إلى الدواوين أستوهب الظهور ، أكتب فيها .

            وفي رواية عن الشافعي أنه قال: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين ، وحفظت الموطأ ، وأنا ابن عشر سنين ، وما أفتيت حتى حفظت عشرة آلاف حديث ، وكان الشافعي في أول أمره قليل التلاوة للقرآن لاشتغاله بالعلم ثم أكثر آخر عمره من القراءة .

            فروى عنه الربيع أنه كان يختم في كل ليلة ختمة ، وإذا كان رمضان ختم ستين ختمة ، وكان حسن الصوت ، إذا سمعه الناس يتلو اشتد بكاؤهم ، كان أول أمره ينام ثلث الليل ، ويصلي ثلث الليل ، ويطلب العلم ثلث الليل ، ثم صار يحيي الليل ، وأفتى وله خمس عشرة سنة .

            عن أبي بكر أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: كان الشافعي يفتي وله خمس عشرة سنة ، وكان يحيي الليل إلى أن مات .

            وذكر أبو بكر بن بدران المعروف بخالويه في كتاب "فضائل الشافعي": عن الربيع : أن الشافعي كان عند مالك وعنده سفيان بن عيينة والزنجي فأقبل رجلان ، فقال أحدهما: أنا الربيع القماري وقد بعت هذا قمريا ، وحلفت له بالطلاق أنه لا يهدأ من الصياح ، فلما كان بعد ساعة أتاني فقال: قد سكت فرد علي دراهمي ، وقد حنثت ، فقال مالك : بانت منك امرأتك .

            فمر الشافعي ، فقال للبائع: أردت أنه لا يهدأ أبدا وأن كلامه أكثر من سكوته؟ فقال: قد علمت أنه ينام ويأكل ويشرب ، وإنما أردت كلامه أكثر من سكوته ، فقال: رد عليك امرأتك فأخبر مالكا ، فقال للشافعي : من أين قلت؟ فقال: حديث فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن معاوية وأبا جهم خطباني فقال: إن معاوية صعلوك ، وإن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه . وقد كان ينام ويستريح ، وإنما خرج كلامه على الأغلب ، فعجب مالك فقال الزنجي : أفت فقد آن لك أن تفتي . وهو ابن خمس عشرة سنة .

            وقال محمد بن إدريس الشافعي بمكة سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال له رجل: ما تقول في المحرم قتل زنبورا ، فقال: قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .

            عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر ، وعمر " .

            عن عمر : أنه أمر بقتل الزنبور .

            عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: أشد الأعمال ثلاثة: الجود من قلة والورع في خلوة وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف .

            عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: لوددت أن الخلق يتعلمون مني ولا ينسب إلي منه شيء . وسمعته يقول: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة .

            وفي رواية أخرى عنه: ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ بل أحب أن يوفق ويسدد ، وما ناظرت أحدا إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه .

            عن المزني قال: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته ، ومن نظر في الفقه نبل مقداره ، ومن تعلم اللغة رق طبعه ، ومن تعلم الحساب جزل رأيه ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه .

            عن المزني قال: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها ، فقلت كيف أصبحت قال: أصبحت من الدنيا راحلا ، ولإخواني مفارقا ، وكأس المنية شاربا ، ولسوء أعمالي ملاقيا ، وعلى الله تعالى واردا ، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها ، أو إلى النار فأعزيها ، ثم بكى ، وأنشأ يقول:


            ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي     جعلت الرجا مني لعفوك سلما
            تعاظمني ذنبي فلما قرنته     بعفوك ربي كان عفوك أعظما
            وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل     تجود وتعفو منة وتكرما

            عن الربيع قال: توفي الشافعي ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة آخر يوم من رجب ، ودفناه يوم الجمعة ، فانصرفنا فرأينا هلال شعبان .

            قال الربيع بن سليمان : رأيت الشافعي بعد وفاته في المنام فقلت: يا أبا عبد الله ، ما صنع الله بك؟ قال: أجلسني على كرسي من ذهب ، ونثر علي اللؤلؤ الرطب .

            عن أبي بيان الأصفهاني يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، فقلت: يا رسول الله ، محمد بن إدريس الشافعي ابن عمك ، هل نفعته بشيء؟ أو خصصته بشيء؟ قال: نعم ، سألت الله تعالى أن لا يحاسبه ، فقلت: بماذا يا رسول الله؟ قال: إنه كان يصلي علي صلاة لم يصل بمثل تلك الصلاة أحد ، فقلت: وما تلك الصلاة؟ قال: كان يصلي علي اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون ، وصل على محمد كلما غفل عنه الغافلون .

            كان أحمد بن حنبل كثير الثناء على الشافعي ، قال أبو سعيد القرماني : قال أحمد بن حنبل : إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة سنة ما يعلمهم السنن ، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب . فنظرنا فإذا في المائة عمر بن عبد العزيز في رأس المائتين الشافعي .

            وفي رواية: عن أحمد قال: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو إلى الشافعي وأستغفر له ، وقال له ابنه عبد الله : يا أبه ، أي رجل كان الشافعي ؟ فإني أسمعك تكثر من الدعاء له ، قال: يا بني ، كان كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس ، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما من عوض .

            وقال أحمد لإسحاق بن راهويه : تعالى حتى أذهب بك إلى من لم تر عيناك مثله ، فذهب به إلى الشافعي .

            وقال صالح بن أحمد : مشى أبي مع بغلة الشافعي ، فبعث إليه يحيى بن معين ما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته ، فقال: يا أبا زكريا ، لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك .

            وقال أبو داود : ما رأيت أحمد يميل إلى أحد ميله إلى الشافعي .

            وصية الشافعي لمؤدب أولاد الرشيد عن نهشل بن كثير ، عن أبيه قال: دخل الشافعي يوما إلى بعض حجر هارون الرشيد استأذن له عليه فأقعده الخادم عند أبي عبد الصمد مؤدب أولاد الرشيد ، قال له: يا أبا عبد الله ، هؤلاء أولاد أمير المؤمنين وهذا مؤدبهم ، فلو أوصيته ، فأقبل على أبي عبد الصمد ، فقال له: ليكن أول ما نبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك ، فإن أعينهم مغفورة بعينك ، فالحسن عندهم ما تستحسنه ، والقبيح عندهم ما تستقبحه ، علمهم كتاب الله ، ولا تكرههم عليه فيملوه ، ولا تتركهم فيهجروه ، ثم زدهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه ، ولا تخرجنهم من علم إلى غيره حتى يتقنوه ، فإن ازدحام الكلام في المسمع مصد للفهم .

            بين الشافعي والرشيد ومحمد بن الحسن وقد روى ابن أبي حاتم ، بسنده عن الشافعي أنه ولي الحكم بنجران من أرض اليمن ، ثم تعصبوا عليه ووشوا به إلى الرشيد هارون أنه يروم الخلافة ، فحمل على بغل في قيد إلى بغداد فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره ثلاثون سنة فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يديه ، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن ، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه ، وأنزله محمد بن الحسن عنده .

            وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة وقيل : بسنتين وأكرمه محمد بن الحسن ، وكتب عنه الشافعي وقر بعير . ثم أطلق له الرشيد ألفي دينار وقيل : خمسة آلاف دينار وعاد الشافعي إلى مكة ففرق عامة ما حصل له في أهله وذوي رحمه من بني عمه ، ثم عاد الشافعي إلى بغداد في سنة خمس وتسعين ومائة فاجتمع به جماعة من العلماء هذه المرة ؛ منهم أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، والحسين بن علي الكرابيسي ، والحارث بن سريج النقال ، وأبو عبد الرحمن الشافعي ، والزعفراني وغيرهم . ثم رجع إلى مكة .

            ورجع إلى بغداد أيضا سنة ثمان وتسعين ومائة ، ثم انتقل منها إلى مصر فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة ؛ سنة أربع ومائتين ، كما سيأتي . وصنف بها كتابه " " الأم " " ، وهو من كتبه الجديدة ؛ لأنها من رواية الربيع بن سليمان وهو مصري . وقد زعم إمام الحرمين وغيره أنها من القديم . وهذا بعيد وعجيب من مثله ، والله أعلم .

            وقد أثنى على الشافعي غير واحد من كبار الأئمة ، منهم عبد الرحمن بن مهدي وسأله أن يكتب له كتابا في الأصول فكتب له " " الرسالة " " ، وكان يدعو له في الصلاة دائما ثناء العلماء عليه وطرفا من مآثره رضي الله عنه وقال يحيى بن معين عن الشافعي : هو صدوق لا بأس به . وقال مرة : لو كان الكذب له مطلقا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب . وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : الشافعي فقيه البدن ، صدوق اللسان . وحكى بعضهم عن أبي زرعة أنه قال : ما عند الشافعي حديث غلط فيه . وحكي عن أبي داود نحوه .

            وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وقد سئل : هل سنة لم تبلغ الشافعي ؟ فقال : لا . ومعنى هذا أنها تارة تبلغه بسندها ، وتارة مرسلة ، وتارة منقطعة ، كما هو الموجود في كتبه ، والله أعلم .

            وقال حرملة : سمعت الشافعي يقول : سميت ببغداد ناصر السنة . وقال أبو ثور : ما رأينا مثل الشافعي ، ولا رأى هو مثل نفسه . وكذا قال الزعفراني وغيره .

            وقال داود بن علي الظاهري في كتاب جمعه في فضائل الشافعي : للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره ؛ من شرف نسبه ، وصحة دينه ، ومعتقده ، وسخاوة نفسه ، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه ، وحفظه الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء ، وحسن التصنيف ، وجودة الأصحاب والتلامذة ، مثل أحمد بن حنبل في زهده وورعه ، وإقامته على السنة . ثم سرد أعيان أصحابه من البغاددة والمصريين . وكذا عد أبو داود من جملة تلاميذه في الفقه أحمد بن حنبل .

            وقد كان رحمه الله من أعلم الناس بمعاني القرآن والسنة ، وأشد الناس انتزاعا للدلائل منهما ، وكان من أحسن الناس قصدا وإخلاصا ، كان يقول : وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ، ولا ينسب إلي شيء منه أبدا ، فأؤجر عليه ولا يحمدوني . وقد قال غير واحد عنه : إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقولوا به ودعوا قولي فإني أقول به ، وإن لم تسمعوه مني . وفي رواية : فلا تقلدوني . وفي رواية : فلا تلتفتوا إلى قولي . وفي رواية : فاضربوا بقولي عرض الحائط ، فلا قول لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء . وفي رواية : خير له من أن يلقاه بعلم الكلام . وقال : لو علم الناس ما في علم الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد . وقال أيضا : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويطاف بهم في القبائل وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام .

            وقال البويطي : سمعت الشافعي يقول : عليكم بأصحاب الحديث ؛ فإنهم أكثر الناس صوابا .

            وكان يقول : إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث ، فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جزاهم الله خيرا ، حفظوا لنا الأصل ، فلهم علينا الفضل . ومن شعره في هذا المعنى قوله :


            كل العلوم سوى القرآن مشغلة     إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
            العلم ما كان فيه قال حدثنا     وما سوى ذاك وسواس الشياطين

            وكان يقول : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن قال : مخلوق ، فهو كافر .

            وقد روى عنه الربيع وغير واحد من رءوس أصحابه ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ، على طريقة السلف . وقال ابن خزيمة : أنشدني المزني ، قال : أنشدنا الشافعي لنفسه :


            ما شئت كان وإن لم أشأ     وما شئت إن لم تشأ لم يكن
            خلقت العباد على ما علمت     ففي العلم يجري الفتى والمسن
            فمنهم شقي ومنهم سعيد     ومنهم قبيح ومنهم حسن
            على ذا مننت وهذا خذلت     وهذا أعنت وذا لم تعن

            وقال الربيع : سمعت الشافعي يقول : أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي .

            وعن الربيع قال : أنشدني الشافعي :


            قد عوج الناس حتى أحدثوا بدعا     في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
            حتى استخف بحق الله أكثرهم     وفي الذي حملوا من حقه شغل

            - هشام بن محمد بن السائب بن بشر ، أبو المنذر الكلبي .

            صاحب سمر ونسب ، حدث عن أبيه ، روى عنه ابنه ، وخليفة بن خياط ، ومحمد بن سعد ، وهو من أهل الكوفة ، قدم بغداد ، وحدث بها .

            وكان أحمد يقول: ومن يحدث عنه إنما هو صاحب سمر ونسب ، ما ظننت أن أحدا حدثني عنه .

            قال محمد بن أبي السرى : قال لي هشام الكلبي : حفظت ما لم يحفظه أحد ، ونسبت ما لم ينسبه أحد ، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن ، فدخلت بيتا وحلفت أن لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن ، فحفظته في ثلاثة أيام ، ونظرت يوما في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما زاد على القبضة ، فأخذت ما فوق القبضة .

            توفي هشام في هذه السنة . وقيل: سنة ست .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية