الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

            2321 - أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك ، أبو جعفر الطحاوي الفقيه :

            ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين . وكان ثبتا فهما فقيها عاقلا ، من طحا قرية في صعيد مصر ، قال أبو سعيد بن يونس : توفي [في ] ليلة الخميس مستهل ذي القعدة من سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ، ولم يخلف مثله .

            2322 - أحمد بن محمد بن موسى بن النضر بن حكيم بن علي بن [ذربي ] أبو بكر المعروف بابن أبي حامد :

            صاحب بيت المال ، سمع عباسا الدوري ، وخلقا كثيرا . وروى عنه الدارقطني وغيره . وكان ثقة صدوقا جوادا .



            قال : أبو الحسن الدارقطني : كان أبو حامد المروروذي قليل الدخول على ابن أبي حامد صاحب بيت المال ، وكان في مجلسه رجل من المتفقهة ، فغاب عنه أياما ، فسأل عنه فأخبر أنه متشاغل بأمر قد قطعه عن حضور المجلس ، فأحضره وسأله عن حاله ، فذكر أنه قد اشترى جارية لنفسه ، وأنه انقطعت به النفقة وضاقت يده في تلك السنة لانقطاع المادة عنه من بلده ، وكان عليه دين لجماعة من السوقة ، فلم يجد قضاء لذلك دون أن باع الجارية ، فلما قبض الثمن تذكرها وتشوق إليها واستوحش من بعدها عنه حتى لم يمكنه التشاغل بفقه ولا بغيره من شدة قلقه ، وتعلق قلبه بها وذكر أن ابن أبي حامد قد اشتراها فأوجبت الحال مضي أبي حامد الفقيه إلى ابن أبي حامد يسأل الإقالة وأخذ المال من البائع ، فمضى ومعه الرجل ، فحين استأذن على ابن أبي حامد أذن له في الحال ، فلما دخل إليه قام إليه واستقبله وأكرمه غاية الإكرام ، وسأله عن حاله وعن ما جاء له ، فأخبره أبو حامد بخبر الفقيه وبيع الجارية ، وسأله قبض المال ورد الجارية على صاحبها فلم يعرف ابن أبي حامد للجارية خبرا ولا كان عنده علم من أمرها ، وذلك أن امرأته كانت قد اشترتها ولم يعلم بذلك ، فورد عليه من ذلك مورد تبين في وجهه ، ثم قام ودخل على امرأته يسألها عن جارية اشتريت في سوق النخاسين على الصفة والنعت ، فصادف ذلك أن امرأته كانت جالسة والجارية حاضرة ، وهم يصلحون وجهها ، وقد زينت بالثياب الحسان والحلي ، فقالت : يا سيدي هذه الجارية التي التمست . فسر بذلك سرورا تاما إذ كانت عنده رغبة في قضاء حاجة أبي حامد ، فعاد إلى أبي حامد ، وقال له : خفت أن لا تكون الجارية في داري ، والآن فهي بحمد الله عندنا ، والأمر للشيخ أعزه الله في بابها ثم أمر بإخراج الجارية ، فحين أخرجت تغير وجه الفتى تغيرا شديدا ، فعلم بذلك أن الأمر كما ذكره الفقيه من حبه لها وصبابته بها فقال له ابن أبي حامد : هذه جاريتك . فقال : نعم هذه جاريتي . واضطرب كلامه من شدة ما نزل به عند رؤيتها ، فقال له : خذها بارك الله لك فيها . فجزاه أبو حامد خيرا وشكره وسأله قبض المال ، وأخبره أنه على حاله وقدره ثلاثة آلاف درهم فأبى أن يأخذه وطال الكلام في ذلك ، فقال أبو حامد : إنما قصدناك نسأل الإقالة ولم نقصد أخذها على هذا الوجه . قال له ابن أبي حامد : هذا رجل فقيه وقد باعها لأجل فقره وحاجته ومتى أخذ المال منه خيف عليه أن يبيعها ثانية ممن لا يردها عليه ، والمال يكون في ذمته فإذا جاءه نفقة من بلده جاز أن يرد ذلك فوهب المال له ، وكان عليها من الحلي والثياب شيء له قدر كبير . فقال له أبو حامد : إن رأى أيده الله أن يتفضل وينفذ مع الجارية من يقبض هذه الثياب والحلي التي عليها فما لهذا الفقيه أحد ينفذه به على يده . فقال : سبحان الله هذا شيء أسعفناها به ووهبناه لها سواء إن كانت في ملكنا أو خرجت عن قبضتنا ، ولسنا نرجع فيما وهبناه من ذلك . فعرف أبو حامد أن الوجه ما قاله ، فلم يلح عليه بل حسن موقعه من قلبه ، فلما أراد لينهض ويودعه قال ابن أبي حامد : أريد أن أسألها قبل انصرافها عن شيء ، فقال : يا جارية أي ما أحب إليك نحن أو مولاك هذا الذي باعك وأنت الآن له ؟ فقالت : يا سيدي أما أنتم فأحسن الله عونكم وفعل بكم وفعل فقد أحسنتم إلي وأغنيتموني ، وأما مولاي هذا فلو ملكت منه ما ملك مني ما بعته بالرغائب العظيمة ، فاستحسن الجماعة ذلك منها وما هي عليه من العقل مع الصبي وودعوه وانصرفوا .

            توفي ابن أبي حامد في رمضان هذه السنة .

            2323 - سعيد بن محمد بن أحمد بن سعيد ، أبو عثمان البيع :

            وهو أخو زبير بن محمد الحافظ ، سمع من جماعة وروى عنه ابن شاهين والدارقطني ، وذكره يوسف القواس في جملة شيوخه الثقات .

            توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة .

            2324 - شغب أم المقتدر [بالله :

            كانت لها أموال [عظيمة ] تفوق الإحصاء ، كان يرتفع لها من ضياعها في كل عام ألف ألف دينار ، وكانت تتصدق بأكثر ذلك ، وكانت تواظب على مصالح الحاج وتبعث خزانة الشراب والأطباء معهم وتأمر بإصلاح الحياض ، فمرضت وفسد مزاجها ، ثم هجم عليها قتل ابنها المقتدر ، فأخبرت أنه لم يدفن ، فجزعت جزعا شديدا ولطمت وامتنعت من الأكل والشرب حتى كادت تتلف ، فما زالوا يرفقون بها حتى أكلت كسرة بملح ، ثم دعاها القاهر بالله فقررها بالرفق والتهديد ، فحلفت له أنه لا مال عندها ولا جوهر إلا صناديق فيها ثياب ومصوغ وطيب ، وذكرت أنه لو كان عندها مال ما أسلمت ولدها للقتل ، فضربها بيده وعلقها برجل واحدة ، فلم يجد عندها غير ما أقرت به ، فأخذ ، وكانت قيمته نحوا من مائة وثلاثين ألف دينار .

            عن علي بن المحسن التنوخي ، عن أبيه ، قال : عذب القاهر أم المقتدر بصنوف العذاب حتى قيل إنه علقها منكسة ، وكان يجري بولها على وجهها ، فقالت له : لو كان معنا مال ما جرى في أمرنا من الخلل ما آل إلى جلوسك حتى تعاقبني هذه العقوبة ، وإنما أنا أمك في كتاب الله ، وأنا خلصتك من ابني في الدفعة الأولى .

            وقال أبو الحسين بن عياش : حدثني أبو محمد عمي ، قال : أنفذني [عمي ]



            أبو الحسين بن أبي عمر القاضي ، وابن الحباب الجوهري إلى القاهر ، وكان قد طلب شاهدين ليشهدا على أم المقتدر بتوكيلها في بيع أملاكها ، فدخلنا على القاهر فسلمنا ووقفنا ، فدفع إلينا بعض الخدم كتابا أوله أقرت شغب مولاة المعتضد أم جعفر المقتدر فإذا هو وكالة في بيع أملاكها ، فقلنا للخادم : وأين هي ؟ فقال وراء الباب : فاستأذنا الخليفة في خطابها ، فقال : افعلوا ، فقلنا : أنت هاهنا حتى نقرأ عليك ؟ قالت : نعم ، فقرأنا الكتاب عليها وقررناها ، ثم وقفنا عن كتب الشهادة طلبا لرؤيتها ، فقال الخليفة : ما لكم ؟ قلنا : يا أمير المؤمنين لا يصح لنا الشهادة دون أن نرى المرأة بأعيننا ونعرفها ، فقال : افعلوا ، فسمعنا من وراء الستارة بكاء ونحيبا ، ورفعت الستارة فقلنا لها : أنت شغب مولاة المعتضد وأم المقتدر ؟ فسكتت ساعة ، ثم قالت : نعم ، فقررناها وأسبل الستر فوقفنا عن الشهادة ، فقال القاهر : فأيش بقي ؟ قلنا : تعرف يا أمير المؤمنين أنها شغب ، فقال : نعم هذه شغب مولاة أبي وأم أخي ، وأوقعنا خطوطنا في الكتاب . ولما رأيناها رأينا عجوزا دقيقة الجسم ، سمراء اللون إلى البياض والصفرة ، عليها أثر ضر شديد ، فما انتفعنا بأنفسنا ذلك اليوم فكرا في تقلب الزمان وتصرف الحدثان ، وجئنا وأقمنا الشهادة عند أبي الحسين القاضي .

            قال ابن الجوزي: وتوفيت بعد قتل المقتدر بسبعة أشهر وثمانية أيام ، وكأنها توفيت في جمادى الأولى من هذه السنة ، ودفنت بالرصافة .

            2325 - جارية شغب أم المقتدر بالله :

            قال : أبو الفرج أحمد بن عثمان بن إبراهيم الفقيه المعروف بابن النرسي : كنت جالسا بحضرة أبي وأنا حدث وعنده جماعة ، فحدثني حديث وصول النعم إلى الناس بالألوان الطريفة ، وكان ممن حضر صديق لأبي فسمعته يحدث أبي ، قال : حضرت عند صديق لي من التجار كان يحزر بمائة ألف دينار في دعوة ، وكان حسن المروءة ، فقدم مائدته وعليها ديكيريكة ، فلم يأكل منها فامتنعنا ، فقال : كلوا فإني أتأذى بأكل هذا اللون ، فقلنا : نساعدك على تركه ، قال : بل أساعدكم على الأكل واحتمل الأذى ، فأكل فلما أراد غسل يديه أطال ، فعددت عليه أنه قد غسلها أربعين مرة ، فقلت : يا هذا وسوست ؟ فقال : هذه الأذية التي فرقت منها فقلت : وما سببها ؟

            فامتنع من ذكره ، فألححت عليه ، فقال : مات أبي وسني عشرون سنة ، وخلف لي نعمة صغيرة ، ورأس مال ومتاعا في دكانه ، وكان خلقانيا في الكرخ ، فقال لي لما حضرته الوفاة : يا بني إنه لا وارث لي غيرك ولا دين علي ولا مظلمة فإذا أنا مت فأحسن جهازي وصدق عني بكذا وكذا ، وأخرج عن حجة بكذا وكذا ، وقال وبارك الله لك في الباقي ، ولكن احفظ وصيتي . فقلت : قل ، فقال : لا تسرف في مالك فتحتاج إلى ما في أيدي الناس ولا تجده ، واعلم أن القليل مع الإصلاح كثير ، والكثير مع الفساد قليل ، فالزم السوق وكن أول من يدخلها وآخر من يخرج منها ، وإن استطعت أن تدخلها سحرا بليل فافعل فإنك تستفيد بذلك فوائد تكشفها لك الأيام . ومات ، وأنفذت وصيته وعملت بما أشار به ، وكنت أدخل السوق سحرا وأخرج منها عشاء ، فلا أعدم من يجيئني من يطلب كفنا فلا يجد من قد فتح غيري فأحكم عليه ومن يبيع شيئا والسوق لم تقم فأبيعه له وأشياء من الفوائد ، ومضى على لزومي السوق سنة وكسر ، فصار لي بذلك جاه عند أهلها ، وعرفوا استقامتي فأكرموني ، فبينا أنا جالس يوما ولم يتكامل السوق إذا بامرأة راكبة حمارا مصريا وعلى كفله منديل دبيقي وخادم ، وهي بزي القهرمانة فبلغت آخر السوق ، ثم رجعت فنزلت عندي ، فقمت إليها وأكرمتها ، وقلت : ما تأمرين ؟ وتأملتها فإذا بامرأة لم أر قبلها ولا بعدها إلى الآن أحسن منها في كل شيء ، فقالت : أريد كذا ثيابا طلبتها ، فسمعت نغمة ورأيت شكلا قتلني وعشقتها في الحال أشد العشق ، فقلت :

            اصبري حتى يخرج الناس فآخذ لك ذلك فليس عندي إلا القليل مما يصلح لك ، فأخرجت الذي عندي وجلست تحادثني والسكاكين في فؤادي من عشقها ، وكشفت عن أنامل رأيتها كالطلع ، ووجه كدارة القمر ، فقمت لئلا يزيد علي الأمر ، فأخذت لها من السوق ما أرادت وكان ثمنه مع مالي نحو خمسمائة دينار ، فأخذته وركبت ولم تعطني شيئا وذهب عني لما تداخلني من حبها أن أمنعها من المتاع إلا بالمال وأستدل على منزلها ومن دار من هي ، فحين غابت عني وقع لي أنها محتالة ، وأن ذلك سبب فقري فتحيرت في أمري وقامت قيامتي وكتمت خبري لئلا أفتضح بما للناس علي ، وعملت على بيع ما في يدي من المتاع وإضافته إلى ما عندي من الدراهم ودفع أموال الناس إليهم ولزوم البيت والاقتصار على غلة العقار الذي ورثته عن أبي ، ووطنت نفسي على المحنة ، وأخذت أشرع في ذلك مدة أسبوع ، وإذا هي قد نزلت عندي ، فحين رأيتها أنسيت جميع ما جرى علي وقمت إليها ، فقالت : يا فتى تأخرنا عنك لشغل عرض لنا ، وما شككنا في أنك لم تشك أننا احتلنا عليك ، فقلت : قد رفع الله قدرك عن هذا ، فقالت : هات التخت من الطيار ، فأحضرته فأخرجت دنانير عتقا فوفتني المال بأسره ، وأخرجت تذكرة بأشياء أخر فأنفذت إلى التجار أموالهم ، وطلبت منهم ما أرادت ، وحصلت أنا في الوسط ربحا جيدا ، وأحضر التجار الثياب فقمت وثمنتها معهم لنفسي ، ثم بعتها عليها بربح وأنا في خلال ذلك أنظر إليها نظر تالف من حبها ، وهي تنظر إلي نظر من قد فطن بذلك ولم تنكره ، فهممت بخطابها ولم أقدم فاجتمع المتاع وكان ثمنها ألف دينار ، فأخذته وركبت ولم أسألها عن موضعها ، فلما غابت عني ، قلت : هذا الآن هو الحيلة المحكمة ، أعطتني [خمسة آلاف درهم ] وأخذت ألف دينار ، وليس إلا بيع عقاري الآن والحصول على الفقر المدقع ، ثم سمحت نفسي برؤيتها مع الفقر وتطاولت غيبتها نحو شهر ، وألح التجار على المطالبة فعرضت عقاري على البيع ، ولازمني بعض التجار ، فوزنت جميع ما كنت [أملكه ورقا وعينا ، فأنا كذلك إذ نزلت عندي ، فزال عني جميع ما كنت فيه ] برؤيتها فاستدعت الطيار والتخت فوزنت المال ورمت إلي تذكرة يزيد ما فيها على ألفي دينار بكثير ، فتشاغلت بإحضار التجار ودفع أموالهم إليهم وأخذ المتاع منهم ، وطال الحديث بيننا ، فقالت : يا فتى لك زوجة ؟ فقلت : لا والله ما عرفت امرأة قط ، وأطمعني ذلك فيها ، وقلت : هذا وقت خطابها والإمساك عنها عجز ، ولعلها تعود أو لا تعود وأردت كلامها فهبتها وقمت كأني أحث التجار على جمع المتاع ، وأخذت يد الخادم وأخرجت له دنانير وسألته أن يأخذها ويقضي لي حاجة .

            فقال : أفعل وأبلغ لك محبتك ، ولا آخذ شيئا ، فقصصت عليه قصتي وسألته توسط الأمر بيني وبينها ، فضحك وقال : إنها لك أعشق منك لها ، ووالله ما بها حاجة إلى أكثر هذا الذي تشتريه ، وإنما تجيئك محبة لك وتطريقا إلى مطاولتك فخاطبها بظرف ودعني فإني أفرغ لك من الأمر ، فجسرني بذلك عليها فخاطبتها ، وكشفت لها عشقي ومحبتي ، وبكيت ، فضحكت وتقبلت ذلك أحسن تقبل ، وقالت : الخادم يجيئك برسالتي ، ونهضت ولم تأخذ شيئا من المتاع فرددته على الناس وقد حصل لي مما اشترته أولا وثانيا ألوف دراهم ربحا ، ولم يحملني النوم تلك الليلة شوقا إليها وخوفا من انقطاع السبب ، فلما كان بعد أيام جاءني الخادم فأكرمته وسألته عن خبرها ، فقال : هي والله عليلة من شوقها إليك ، فقلت : اشرح لي أمرها ؟ فقال : هذه مملوكة السيدة [أم المقتدر ، وهي من أخص جواريها بها واشتهت رؤية الناس والدخول والخروج ، فتوصلت حتى جعلتها قهرمانة ، وقد والله حدثت السيدة بحديثك ] وبكت بين يديها ، وسألتها أن تزوجها منك فقالت السيدة : لا أفعل أو أرى هذا الرجل ، فإن كان يستأهلك وإلا لم أدعك ورأيك ، ويحتاج في إدخالك الدار بحيلة ، فإن تمت وصلت بها إلى تزويجها وإن انكشفت ضربت عنقك في هذا ، وقد نفذتني إليك في هذه الرسالة وقالت لك : إن صبرت على هذا وإلا فلا طريق لك والله إلي ولا لي إليك بعدها .

            فحملني ما في نفسي أن قلت : أصبر ، فقال : إذا كان الليل فاعبر إلى المخرم فادخل إلى المسجد وبت فيه ، ففعلت ، فلما كان السحر إذا أنا بطيار قد قدم وخدم قد رقوا صناديق فرغ فحطوها في المسجد وانصرفوا ، وخرجت الجارية فصعدت إلى المسجد ومعها الخادم الذي أعرفه ، فجلست وفرقت باقي الخدم في حوائج ، واستدعتني فقبلتني وعانقتني طويلا ، ولم أكن نلت ذلك منها قبله ، ثم أجلستني في بعض الصناديق وقفلته ، وطلعت الشمس وجاء الخدم بثياب وحوائج من المواضع التي كانت أنفذتهم إليها ، فجعلت ذلك بحضرتهم في باقي الصناديق وقفلتها وحملتها إلى الطيار وانحدروا ، فلما حصلت فيه ندمت وقلت : قتلت نفسي لشهوة وأقبلت ألومها تارة وأشجعها أخرى وأنذر النذور على خلاصي وأوطن نفسي مرة على القتل إلى أن بلغنا الدار ، وحمل الخدم الصناديق ، وحمل صندوق الخادم الذي يعرف الحديث ، وبادرت بصندوق أمام الصناديق وهي معه والخدم يحملون الباقي ويلحقونها ، فكل ما جازت بطبقة من الخدم والبوابين قالوا نريد نفتش الصندوق فتصيح عليهم ، وتقول : متى جرى الرسم معي بهذا ؟ فيمسكون وروحي في السياق إلى أن انتهت إلى خادم خاطبته هي بالأستاذ ، فعلمت أنه أجل الخدم فقال : لا بد من تفتيش الصندوق الذي معك ، فخاطبته بلين وذل ، فلم يجبها وعلمت أنها ما ذلت له ولها حيلة وأغمي علي ، وأنزل الصندوق للفتح ، فذهب علي أمرى وبلت فزعا ، فجرى البول من خلل الصندوق ، فصاحت : يا أستاذ ، أهلكت علينا متاعنا بخمسة آلاف دينار في الصندوق ثياب مصبغات وماء ورد قد انقلب على الثياب والساعة تختلط ألوانها وهي هلاكي مع السيدة ، فقال لها : خذي صندوقك إلى لعنة الله ، أنت وهو ومري ، فصاحت بالخدم احملوه .



            وأدخلت الدار فرجعت إلي روحي ، فبينا نحن نمشي إذ قالت : وا ويلاه ، الخليفة والله فجاءني أعظم من الأول ، وسمعت كلام خدم وجوار وهو يقول من بينهم : ويلك يا فلانة أيش في صندوقك ؟ أريني هو ، فقالت : ثياب لستي يا مولاي والساعة أفتحه بين يديها وتراه ، وقالت للخدم : أسرعوا ويلكم ، فأسرعوا وأدخلتني إلى حجرة وفتحت عني وقالت : اصعد هذه الدرجة إلى الغرف واجلس فيها ، وفتحت بالعجلة صندوقا آخر فنقلت بعض ما كان فيه إلى الصندوق الذي كنت فيه وقفلت الجميع ، وجاء المقتدر وقال : افتحي ، ففتحته فلم يرض منه شيئا وخرج ، فصعدت إلي وجعلت ترشفني وتقبلني ، فعشت ونسيت ما جرى ، وتركتني ، وقفلت باب الحجرة يومها ، ثم جاءتني ليلا فأطعمتني وسقتني وانصرفت ، فلما كان من غد جاءتني ، فقالت : السيدة الساعة تجيء فانظر كيف تخاطبها . ثم عادت بعد ساعة مع السيدة ، فقالت : انزل ، فنزلت فإذا بالسيدة جالسة على كرسي وليس معها إلا وصيفتان وصاحبتي ، فقبلت الأرض وقمت بين يديها ، فقالت : اجلس ، فقلت : أنا عبد السيدة وخادمها وليس من محلي أن يجلس بحضرتها ، فتأملتني وقالت : ما اخترت يا فلانة إلا حسن الوجه والأدب .

            ونهضت فجاءتني صاحبتي بعد ساعة وقالت : أبشر فقد أذنت لي والله في تزويجك ، وما بقي الآن عقبة إلا الخروج ، فقلت يسلم الله فلما كان من الغد حملتني في الصندوق فخرجت كما دخلت بعد مخاطرة أخرى وفزع نالني ، ونزلت في المسجد ورجعت إلى منزلي فتصدقت وحمدت الله على السلامة ، فلما كان بعد أيام جاءني الخادم ومعه كيس فيه ثلاثة آلاف دينار عينا ، وقال أمرتني ستي بإنفاذ هذا إليك من مالها ، وقالت : تشتري به ثيابا ومركوبا وخدما ، وتصلح به ظاهرك وتعال يوم الموكب إلى باب العامة وقف حتى تطلب ، فقد وافقت الخليفة أن تزوجك بحضرته ، فأجبت عن رقعة كانت معه ، وأخذت المال واشتريت ما قالوا بيسير منه ، وبقي الأكثر عندي ، وركبت إلى باب العامة في يوم الموكب بزي حسن وجاء الناس فدخلوا إلى الخليفة ، ووقفت إلى أن استدعيت ، فدخلت فإذا أنا بالمقتدر جالس والقواد والقضاة والهاشميون ، فهبت المجلس وعلمت كيف أسلم وأقف ، ففعلت فتقدم المقتدر إلى بعض القضاة الحاضرين فخطب لي وزوجني ، وخرجت من حضرته ، فلما صرت في بعض الدهاليز قريبا من الباب عدل بي إلى دار عظيمة مفروشة بأنواع الفرش الفاخرة ، وفيها من الآلات والخدم والأمتعة والقماش كل شيء لم أر مثله قط ، فأجلست فيها وتركت وحدي ، وانصرف من أدخلني ، فجلست يومي لا أرى من أعرفه ، ولم أبرح من موضعي إلا إلى الصلاة ، وخدم يدخلون ويخرجون ، وطعام ينقل ، وهم يقولون : الليلة تزف فلانة - باسم صاحبتي إلى زوجها البزاز فلا أصدق فرحا فلما جاء الليل أثر في الجوع ، وقفلت الأبواب ويئست من الجارية فقمت أطوف الدار ، فوقفت على المطبخ ووجدت الطباخين جلوسا ، فاستطعمتهم فلم يعرفوني ، وقدرني بعض الوكلاء ، فقدموا إلي هذا اللون من الطبيخ مع رغيفين فأكلتهما وغسلت يدي بأشنان كان في المطبخ وقدرت أنها قد نقيت ، وعدت إلى مكاني ، فلما جن الليل إذا طبول وزمور وأصوات عظيمة ، وإذا بالأبواب قد فتحت وصاحبتي قد أهديت إلي ، وجاءوا بها فجلوها علي وأنا أقدر أن ذلك في النوم فرحا ، وتركت معي في المجلس وتفرق الناس .

            فلما خلونا تقدمت إليها فقبلتها وقبلتني فشمت لحيتي فرفستني فرمت بي عن المنصة ، وقالت : أنكرت أن تفلح يا عامي يا سفلة ، وقامت لتخرج ، فقمت وعلقت بها وقبلت الأرض ورجليها ، وقلت : عرفيني ذنبي واعملي بعده ما شئت ، فقالت : ويحك أكلت فلم تغسل يدك ، فقصصت عليها قصتي ، فلما بلغت إلى آخرها قلت : علي وعلي فحلفت بطلاقها وطلاق كل امرأة أتزوجها ، وصدقة مالي وجميع ما أملكه والحج ماشيا على قدمي ، والكفر بالله ، وكل ما يحلف المسلمون به لا أكلت بعدها ديكيريكة إلا غسلت يدي أربعين مرة ، فأشفقت وتبسمت وصاحت يا جواري ، فجاء مقدار عشر جوار ووصائف ، وقالت : هاتوا شيئا نأكل ، فقدمت ألوان طريفة وطعام من أطعمة الخلفاء ، فأكلنا وغسلنا أيدينا ومضى الوصائف ، ثم قمنا إلى الفراش فدخلت بها وبت بليلة من ليالي الخلفاء ، ولم نفترق أسبوعا ، وكانت يوم الأسبوع وليمة هائلة اجتمع فيها الجواري ، فلما كان من غد قالت : إن دار الخلافة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا فلولا أنه استؤذن فأذن بعد جهد لما تم لنا هذا لأنه شيء لم يفعل قبل هذا مع جارية غيري لمحبة سيدتي لي ، وجميع ما تراه فهو هبة من السيدة لي ، وقد أعطتني خمسين ألف دينار من عين وورق وجوهر ودنانير وذخائر لي خارج القصر كثيرة من كل لون ، وجميعها لك فاخرج إلى منزلك وخذ معك مالا واشتر دارا سرية واسعة الصحن فيها بستان كبير كثير الشجر فاخر الموقع وتحول إليها وعرفني لأنقل هذا كله إليك ، فإذا حصل عندك جئتك ، وسلمت إلي عشرة آلاف دينار عينا فحملها الخادم معي فابتعت الدار وكتبت إليها بالخبر ، فحملت إلي تلك النعمة بأسرها فجميع ما أنا فيه منها ، فأقامت عندي كذا وكذا سنة أعيش معها عيش الخلفاء ، ولم أدع مع ذلك التجارة ، فزاد مالي ، وعظمت منزلتي ، وأثرت حالي وولدت لي هؤلاء الفتيان ، وأومأ إلى أولاده ، ثم ماتت رحمها الله تعالى وبقي علي من مضرة الديكيريكة حاضرا ما شاهدته . وممن توفي في هذه السنة: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان ، وهو أبو هاشم بن أبي علي الجبائي

            المتكلم ابن المتكلم المعتزلي ابن المعتزلي ، وإليه تنسب البهشمية من المعتزلة ، وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله ، مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين ، وتوفي في شعبان من هذه السنة .

            قال القاضي ابن خلكان : وكان له ابن يقال له : أبو علي . دخل يوما على الصاحب بن عباد فأكرمه واحترمه ، وسأله عن شيء ، فقال : ( لا أعرف ) نصف العلم . فقال : صدقت وسبقك أبوك إلى النصف الآخر !

            محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية أبو بكر بن دريد الأزدي

            اللغوي النحوي الشاعر صاحب المقصورة ، ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين ، وتنقل في البلاد لطلب العلم والأدب ، وكان أبوه من ذوي اليسار وقدم بغداد وقد أسن ، فأقام بها إلى أن توفي . روى عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي ، وأبي حاتم ، والرياشي . وعنه أبو سعيد السيرافي وأبو بكر بن شاذان وأبو عبيد الله المرزباني وغيرهم . ويقال : كان أعلم الشعراء وأشعر العلماء . وقد كان متهتكا في الشراب ، قال أبو منصور الأزهري : دخلت عليه فوجدته سكران ، فلم أعد إليه .

            وسئل عنه الدارقطني ، فقال : تكلموا فيه . وقال ابن شاهين : كنا ندخل عليه ، فنستحي مما نرى من العيدان المعلقة والشراب المصفى ، وقد جاوز التسعين وقارب المائة . وكانت وفاته في يوم الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من شعبان .

            وفي هذا اليوم كانت وفاة أبي هاشم بن أبي علي ، فصلي عليهما معا ، ودفنا في مقبرة الخيزرانية ، وقال الناس : مات اليوم علم اللغة ، وعلم الكلام . وكان ذلك يوما مطيرا . ومن مصنفات ابن دريد " الجمهرة " في اللغة ، في نحو عشر مجلدات ، وكتاب " المطر " والمقصورة والقصيدة الأخرى في المقصور والممدود ، وغير ذلك ، سامحه الله .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية