الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فأرسلنا عليهم عقوبة لجرائمهم لا سيما قولهم هذا؛ الطوفان أي: ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل فهو اسم جنس من الطواف، وقيل: إنه في الأصل مصدر كنقصان، وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف، وقد اشتهر في طوفان الماء، وجاء تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس، وجاء عن عطاء ومجاهد تفسيره بالموت، وأخرج ذلك ابن جرير وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا، وعن وهب بن منبه أنه الطاعون بلغة اليمن، وعن أبي قلابة أنه الجدري، وهم أول [ ص: 34 ] من عذبوا به، وهذان القولان ينجران إلى الخبر المرفوع، والجراد هو المعروف، واحده جرادة سمي به لجرده ما على الأرض، وهو جند من جنود الله تعالى يسلطه على من يشاء من عباده، وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والطبراني، وغيرهم عن أبي زهير النميري مرفوعا النهي عن مقاتلته معللا بما ذكر، وذكر البيهقي أن ذلك إن صح مراد به إذا لم يتعرض لإفساد المزارع، فإذا تعرض له جاز دفعه بما يقع به الدفع من القتال والقتل أو أريد به الإشارة إلى تعذر مقاومته بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود ومن معه عن سلمان قال: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الجراد فقال: «أكثر جنود الله تعالى لا آكله ولا أحرمه».

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم أنه مخلوق من ذنوب ابن آدم مؤول، والقمل بضم القاف وتشديد الميم قيل: هو الدبى وهو الصغار من الجراد، ولا يسمى جرادا إلا بعد نبات أجنحته، وروي ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وقيل: هو القردان جمع القراد المعروف، وقيل: صغار الذر، وعن حبيب بن أبي ثابت أنها الجعلان، وعن ابن زيد قال: زعم بعض الناس أنها البراغيث، وعن سعيد بن جبير أنها السوس وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها، ويسمى قملا بفتح فسكون، وبذلك قرأ الحسن، والضفادع جمع ضفدع كزبرج وجعفر وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود، الدابة المائية المعروفة، والدم معروف وتشديد داله لغة.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أن موسى عليه السلام لما رأى من فرعون وقومه العناد والإصرار دعا وقال: يا رب، إن فرعون علا في الأرض، وإن قومه قد نقضوا العهد. رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة، فأرسل الله تعالى عليهم المطر ثمانية أيام في ظلمة شديدة لم يستطع أحد لها أن يخرج من بيته فدخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة، وكانت مشتبكة في بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا ذلك ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يعهد مثله قبله، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا. فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم وأمتعتهم حتى أكل مسامير الحديد التي في الأبواب ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء، فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا له كما قالوا أولا، فخرج عليه السلام إلى الصحراء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: جاءت ريح فألقته في البحر فلم يؤمنوا، فسلط الله تعالى عليهم القمل فأكل ما أبقى الجراد، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلدهم فيمصه، وإذا أراد أن يأكل طعاما امتلأ قملا، وقال ابن المسيب: ابتلوا بالسوس؛ فكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد إلا بثلاثة أقفزة منها، وأخذ حواجبهم وأشفار عيونهم وسائر شعورهم، وفعل في جلودهم ما يفعله الجدري، ومنعهم النوم والقرار ففزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأمتعتهم وآنيتهم منها فلا يكشف أحد إناء إلا وجدها فيه، وكان الرجل يجلس [ ص: 35 ] في الضفادع فتبلغ إلى حلقه، فإذا أراد أن يتكلم يشب الضفدع فيدخل في فيه، وكانت تشب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم، وإذا اضطجع أحدهم ركبته حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب، وإذا أراد أن يأكل سبقته إلى فيه، ولا يعجن عجينا إلا امتلأ منها، ففزعوا إليه عليه السلام وتضرعوا فأخذ عليهم العهود والمواثيق ودعا فكشف الله تعالى عنهم ذلك، فنقضوا العهد، فأرسل الله تعالى عليهم الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم دماء، فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي في إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما، ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى إن المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل فتقول لها: اسقيني ماء، فتصب لها من قربتها فيصير في الإناء دما حتى كانت تقول: اجعليه في فيك ثم مجيه في في فتفعل ذلك فيصير دما.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن أسلم: إن الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف. آيات حال من الأشياء المتقدمة.

                                                                                                                                                                                                                                      مفصلات مبينات لا يشك عاقل أنها آيات إلهية لا سحر كما يزعمون، أو مميزا بعضها من بعض منفصلة بالزمان لامتحان أحوالهم، وكان بين كل اثنين منها شهر، وكان امتداد كل واحدة منها شهرا، كما أخرج ذلك ابن المنذر عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم قال: كانت الآيات التسع في تسع سنين في كل سنة آية، وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامي قال: مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل إلخ ... فأبوا أن يسلموا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية أبي الشيخ عن ابن عباس: أنه مكث عليه السلام بعد أن غلب أربعين سنة يريهم ما ذكر، ورأيت في مسامرات الشيخ ابن العربي -قدس سره- أن موسى عليه السلام مكث ينذر آل فرعون ستة عشر شهرا إلى أن أغرقوا فأدخلوا نارا ولم ينتفعوا بما رأوا من الآيات فاستكبروا عن الإيمان بها.

                                                                                                                                                                                                                                      وكانوا قوما مجرمين جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية