الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لو خرجوا فيكم بيان لكراهة الله تعالى انبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا خبالا أي : شرا وفسادا ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجزا وجبنا ، وعن الضحاك غدرا ومكرا ، وأصل الخبال كما قال الخازن : اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون ، وفي مجمع البيان أنه الاضطراب في الرأي ، والاستثناء مفرغ متصل والمستثنى منه ما علمت [ ص: 112 ] ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ، وقال بعضهم : توهما منه لزوم ما ذكر هو مفرغ منقطع والتقدير ما زادوكم قوة وخيرا لكن شرا وخبالا .

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض بأن المنقطع لا يكون مفرغا وفيه بحث لأنه مانع منه إذا دلت القرينة عليه كما إذا قيل : ما أنيسك في البادية؟ فقلت : ما لي بها إلا اليعافير، أي ما لي بها أنيس إلا ذلك ، وأنت تعلم أن في وجود القرينة ههنا مقالا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حيان : إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضا واجتمعوا بهم زاد الخبال فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترتب ( ولأوضعوا خلالكم ) الإيضاع سير الإبل يقال : أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الإسراع ، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفا بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق ، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها، وأثبت لها الإيضاع على سبيل التخييل ، والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال العلامة الطيبي : فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة إفسادهم ذات البين بالنمائم بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإيضاع وهو للإبل والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لأوضعوا ركائبهم ثم حذفت الركائب ، ومنع الأخفش في كتاب الغايات أن يقال : أوضعت الركائب ووضع البعير بمعنى أسرع وإنما يستعمل ذلك بدون قيد ، وجوز ذلك غيره واستدل له بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      فلم أر سعدى بعد يوم لقيتها غداة بها أجمالها صاح توضع

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ ( ولأرقصوا ) من رقصت الناقة إذا أسرعت وأرقصتها ومنه قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      يا عام لو قدرت عليك رماحنا     والراقصات إلى منى فالغبغب

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ ( لأوفضوا ) والمراد لأسرعوا أيضا يقال : أوفض واستوفض إذا استعجل وأسرع والوفض العجلة ، وكتب قوله تعالى : ( لأوضعوا ) في الإمام بألفين الثانية منهما هي فتحة الهمزة والفتحة ترسم لها ألف كما ذكره الداني ، وفي الكشاف كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ومثل ذلك أو لأذبحنه يبغونكم الفتنة أي يطلبون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم وتهويل أمر العدو عليكم وإلقاء الرعب في قلوبكم وهذا هو المروي عن الضحاك ، وعن الحسن أن الفتنة بمعنى الشرك أي يريدون أن تكونوا مشركين ، والجملة في موضع الحال من ضمير أوضعوا أي باغين لكم الفتنة ، ويجوز أن تكون استئنافا وفيكم سماعون لهم أي نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم كما روي عن مجاهد ، وابن زيد أو فيكم أناس من المسلمين ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم كما روي عن قتادة ، وابن إسحاق ، وجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                      واللام على التفسير الأول للتعليل وعلى الثاني للتقوية كما في قوله تعالى : فعال لما يريد ، والجملة حال من مفعول ( يبغونكم ) أو من فاعله لاشتمالها على ضميرهما أو مستأنفة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعض المحققين : ولعل هؤلاء لم يكونوا في كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد إخلالا عظيما ولم يكن فساد خروجهم معادلا لمنفعته، ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم فخرجوا مع المؤمنين ، ولكن حيث كان انضمام المنافقين القاعدين إليهم مستتبعا لخلل كلي كره الله تعالى انبعاثهم فلم [ ص: 113 ] يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم . انتهى ، والاحتياج إليه على التفسير الأول أظهر منه على التفسير الثاني لأن الظاهر عليه أن القوم لم يكونوا منافقين ، ووجه العتاب على الإذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى فيهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسن لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة والله عليم بالظالمين علما محيطا بظواهرهم وبواطنهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة فيجازيهم على ذلك ، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعار بترتبه على الظلم ، ويجوز أن يراد بالظالمين الجنس ويدخل المذكورون دخولا أوليا ، والمراد منهم إما القاعدون أو هم والسماعون .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية