الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه تعالى لما هدد الكفار وأشار إلى انهماكهم في اللذة الفانية أمر نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمر خلص عباده بالعبادة البدنية والمالية فقال سبحانه : قل لعبادي الذين آمنوا وخصهم بالإضافة إليه تعالى رفعا لهم وتشريفا وتنبيها على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها وترك العطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالهما تهديدا وغيره ومقول القول على ما ذهب إليه المبرد والأخفش والمازني محذوف دل عليه يقيموا أي قل لهم : أقيموا الصلاة وأنفقوا .

                                                                                                                                                                                                                                      يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم والفعل المذكور مجزوم على أنه جواب ( قل ) عندهم وأورد أنه لا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام : أقيموا وأنفقوا أن يفعلوا ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا ومن هنا قالوا : إن في ذلك إيذانا بكمال مطاوعتهم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال ويشد عضد ذلك حذف المقول لما فيه من إيهام أنهم يفعلون من غير أمر على أن مبني الإيراد على أنه يشترط في السببية التامة وقد منع وجعل ابن عطية ( قل ) بمعنى بلغ وأد الشريعة والجزم في جواب ذلك وهو قريب مما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكي عن أبي علي وعزي للمبرد أن الجزم في جواب الأمر المقول المحذوف وتعقبه أبو البقاء بأنه فاسد لوجهين : الأول أن جواب الشرط لا بد أن يخالف فعل الشرط إما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما فإذا اتحدا لا يصح كقولك : قم تقم إذ التقدير هنا إن يقيموا يقيموا والثاني أن الأمر المقدر للمواجهة والفعل المذكور على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا وقيل عليه : إن الوجه الأول قريب وأما الثاني فليس بشيء لأنه يجوز أن تقول : قل لعبدك أطعني يطعك وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال [ ص: 221 ] وعن أبي علي وجماعة أن يقيموا خبر في معنى الأمر وهو مقول القول ورد بحذف النون وهي في مثل ذلك لا تحذف ومنه قوله تعالى : هل أدلكم على تجارة تنجيكم إلى قوله سبحانه : تؤمنون إذ المراد منه آمنوا والقول بأنه لما كان بمعنى الأمر بني على حذف النون كما بني الاسم المتمكن في النداء على الضم في نحو يا زيد لما شبه بقبل وبعد وما لم يبين إنما لوحظ فيه لفظه مما لا يكاد يلتفت إليه وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن مقول القول وهو مجزوم بلام أمر مقدرة أي ليقيموا وينفقوا على حد قول الأعشى : .


                                                                                                                                                                                                                                      محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا



                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أن إضمار الجازم أضعف من إضمار الجار إلا أن تقدم ( قل ) نائب منابه كما أن كثرة الاستعمال في أمر المخاطب ينوب مناب ذلك والشيء إذا كثر في موضع أو تأكد الدلالة عليه جاز حذفه منه حذف الجار من أنى إذا كانت بمعنى من أين وبما ذكرنا من النيابة فارق ما هنا ما في البيت فلا يضرنا تصريحهم فيه بكون الحذف ضرورة وعن ابن مالك أنه جعل حذف هذه اللام على أضرب قليل وكثير ومتوسط فالكثير أن يكون قبله قول بصيغة الأمر كما في الآية والمتوسط ما تقدمه قول غير أمر كقوله : .


                                                                                                                                                                                                                                      قلت لبواب لديه دارها     تيذن فإني حمها وجارها



                                                                                                                                                                                                                                      والقليل ما سوى ذلك وظاهر كلام الكشف اختيار هذا الوجه حيث قال المدقق فيه : والمعنى على هذا أظهر لكثرة ما يلزم من الإضمار وأن تقييد الجواب بقوله تعالى : من قبل أن يأتي إلى ولا خلال ليس فيه كثير طائل إنما المناسب تقييد الأمر به وقال ابن عطية : ويظهر أن مقول القول الله الذي .. إلخ ولا يخفى ما في ذلك من التفكيك على أنه لا يصح حينئذ أن يكون يقيموا مجزوما في جواب الأمر لأن قول الله الذي .. إلخ لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جدا هذا والمراد بالصلاة قيل ما يعم كل صلاة فرضا كانت أو تطوعا وعن ابن عباس تفسيرها بالصلاة المفروضة وفسر الإنفاق بزكاة الأموال .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى عليك أن زكاة المال إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد صدقة الفطر وأن هذه السورة كلها مكية عند الجمهور والآيتين ليست هذه الآية إحداهن عند بعض ثم إن لم يكن هذا المأمور به في الآية مأمورا به من قبل فالأمر ظاهر وإن كان مأمورا به فالأمر للدوام فتحقق ذلك ولا تغفل سرا وعلانية منتصبان على المصدرية لكن من الأمر المقدر أو من الفعل المذكور على ما ذهب إليه الكسائي ومن معه على ما قيل والأصل إنفاق سر وإنفاق علانية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه ويجوز أن يكون الأصل إنفاقا سرا وإنفاقا علانية فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه وجوز أن يكونا منتصبين على الحالية إما على التأويل بالمشتق أو على تقدير مضاف أي مسرين ومعلنين أو ذوي سر وعلانية أو على الظرفية أي في سر وعلانية وقد تقدم الكلام في حكم نفقة السر ونفقة العلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيبتاع المقصر فيه ما يتلافى به تقصيره أو يفتدي به نفسه والمقصود كما قال بعض المحققين نفي عقد المعاوضة بالمرة وتخصيص البيع بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقد إذ انتفاء البيع يستلزم انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه ربما يتصور مع تحقق الإيجاب من البائع . انتهى . وقيل : إن البيع كما يستعمل في إعطاء المثمن وأخذ الثمن وهو المعنى الشائع يستعمل في إعطاء الثمن وأخذ المثمن وهو معنى الشراء وعلى هذا جاء قوله صلى الله تعالى [ ص: 222 ] عليه وسلم : لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه ولا مانع من إرادة المعنيين هنا فإن قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه مطلقا كما قال به الشافعية أو في النفي كما قال به ابن الهمام فذاك وإلا احتجنا إلى ارتكاب عموم المجاز فكأنه قيل : لا معاوضة فيه ولا خلال . (31) . أي مخالة فهو كما قال أبو عبيدة وغيره مصدر خاللته كالخلال وقال الأخفش : هو جمع خليل كأخلاء وأخلة والمراد واحد وهو نفي أن يكون هناك خليل ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدى به ويحتمل أن يكون المعنى من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه لما لهجوا بتعاطيه من البيع والمخالفة ولا انتفاع بذلك وإنما الانتفاع والارتفاق فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى فعلى الأول المنفي البيع والخلال في الآخرة وعلى هذا المراد نفي البيع والخلال اللذين كانا في الدنيا بمعنى نفي الانتفاع بهما و فيه ظرف للانتفاع المقدر حسبما أشرنا إليه ولا يشكل ما هنا مع قوله تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين حيث أثبت فيه المخالفة وعدم العداوة بين المتقين لأن المراد هنا على ما قيل نفي المخالفة النافعة بذاتها في تدارك ما فات ولم يذكر في تلك الآية أن المتقين يتدارك بعضهم لبعض ما فات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل في التوفيق بين الآيتين : إن المراد لا مخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس وتلك المخالة الواقعة بين المتقين في الله تعالى مع أن الاستثناء من الإثبات لا يلزمه النفي وإن سلم لزومه فنفي العداوة لا يلزم منه المخالة وهو كما ترى ومثله ما قيل : إن الإثبات والنفي بحسب المواطن والظرف على ما استظهره غير واحد متعلق بالأمر المقدر وعلقه بالفعل المذكور من رأى رأي الكسائي ومن معه بل وبعض من رأى غير ذلك إلا أنه لا يخلو عن شيء وتذكير إتيان ذلك اليوم على ما في إرشاد العقل السليم لتأكيد مضمون الأمر من حيث أن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك بها لتقصير معارضة وتبرعا وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيل الله تعالى أو من حيث أن ادخار المال وترك إنفاقه إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت وتخصيص أمر الإنفاق بذلك التأكيد لميل النفوس إلى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به وفيه أيضا أنه لا يبعد أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا من حيث أن تركها كثيرا ما لا يكون للاشتغال بالبياعات والمخاللات كما في قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وأنت تعلم بعده لفظا بناء على تعلق سرا وعلانية بالأمر بالإنفاق ثم إن ما ذكر من الوجهين في الآية هو الذي ذكره بعض المحققين واقتصر الزمخشري فيها على الوجه الثاني وكلامه في تقريره ظاهر في أن فائدة التقييد الحث على الإنفاق حسبما بينه في الكشف وفيه في تقرير الحاصل أن قوله تعالى : لا بيع فيه ولا خلال أي لا انتفاع بهما كناية عن الانتفاع بما يقابلهما وهو ما أنفق لوجه الله تعالى فهو حث على الإنفاق لوجهه سبحانه كأنه قيل : لينفقوا له من قبل أن يأتي يوم ينتفع بإنفاقهم المنفقون له ولا ينفع الندم لمن أمسك والعدول إلى ما في النظم الجليل ليفيد الحصر وإن ذلك وحده هو المنتفع به وليفيد المضادة بين ما ينفع عاجليا وما ينفع آجليا وذكر في آية البقرة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة أن المعنى من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع حتى تبتاعوا ما تنفقونه ولا خلة حتى يسامحكم أخلاؤكم به وبين المدقق وجه اختصاص كل من المعنيين بموضعه مع صحة جريانهما جميعا في [ ص: 223 ] كل من الموضعين بأن الأول خطاب عام فكان الحث فيه على الإنفاق مطلقا وتصوير أن الإنفاق نفسه هو المطلوب فليغتنم قبل أن يأتي يوم يفوت فيه ولا يدركه الطالب هو الموافق لمقتضى المقام وأن الثاني لما اختص بالخلص كان الموافق للمقام تحريضهم على ما هم عليه من الإنفاق ليدوموا عليه فقيل : دوموا عليه وتمسكوا به تغتبطوا يوم لا ينفع إلا من دام عليه ولو قيل : دوموا عليه قبل أن يفوتكم ولا تدركوه لم يكن بتلك الوكادة لأن الأول بالحث على طلب أصل الفعل أشبه والثاني بطلب الدوام فتفطن له . اهـ . ولا يخلو عن دغدغة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويعقوب ( لا بيع فيها ولا خلال ) بفتح الاسمين تنصيصا على استغراق النفي ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابي هو على ما قيل وقوعه في جواب هل فيه بيع أو خلال

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية