الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام وعيد لصنف من الكفرة ، وحسن عطف المضارع على الماضي لما أنه لم يرد بالمضارع حال أو استقبال كما في قولهم : فلان يحسن إلى الفقراء فإن المراد به استمرار وجود الإحسان ، وقيل ( يصدون ) بمعنى صدوا إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية تهويلا لأمر الصد ، وقيل لا عطف بل الجملة خبر مبتدأ محذوف والمجموع في موضع الحال من فاعل ( كفروا ) أي وهم يصدون ، وجوز أن تكون الجملة حالا من غير تقدير مبتدأ لشبهها بالجملة الاسمية معنى وخبر إن محذوف للدلالة آخر الآية الكريمة عليه أي نذيقهم من عذاب أليم ، وقدره الزمخشري بعد ( المسجد الحرام ) وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لما فيه من الفصل بين الصفة وهو ( المسجد ) والموصوف وهو ( الذي ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب باحتمال أنه جعل ( الذي ) نعتا مقطوعا ، وقدره ابن عطية بعد والباد هو أولى إلا أنه قدر خسروا أو هلكوا وتقدير نذيقهم إلخ أولى منه ، وقيل الواو في ( ويصدون ) زائدة والجملة بعده خبر إن .

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقبه ابن عطية بأنه مفسد للمعنى المراد وغيره بأن البصريين لا يجيزون زيادة الواو والقول بجواز زيادتها قول كوفي مرغوب عنه ، والظاهر أن ( المسجد ) عطف على ( سبيل ) وجوز أن يكون معطوفا على الاسم الجليل ، والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم عام الحديبية عن المسجد الحرام فكره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل ، والمراد بالمسجد الحرام مكة وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها ، ويدل على ذلك قوله تعالى : الذي جعلناه للناس أي كائنا من كان من غير فرق بين مكي وآفاقي سواء العاكف فيه والباد أي المقيم فيه والطارئ فإن الإقامة لا تكون في المسجد نفسه بل في منازل مكة وفي وصفه بذلك زيادة التشنيع على الصادين عنه ، وقد استشهد بعض الأئمة بالآية على عدم جواز بيع دور مكة وإجارتها وإلا لما استوى العاكف فيها والباد ، وقد ورد التصريح بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة ، فروي من عدة طرق أنه عليه الصلاة والسلام قال : «مكة حرمها الله تعالى لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها » وذكر ابن سابط أن دور أهل مكة كانت بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر رضي الله تعالى عنه قال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله تعالى ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه فاتخذ الناس الأبواب ، وأخرج ابن ماجه وابن أبي شيبة عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن ، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل نارا في بطنه لأن الناس في الانتفاع بها سواء ، وجاء صدره من رواية الدارقطني مرفوعا وفي النهاية لا بأس ببيع بناء مكة ويكره بيع أرضها وهذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال : لا بأس ببيع أرضها وهو رواية عنه أيضا وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة وعليه الفتوى . وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار وجاز بيع بناء بيوت مكة وأرضها بلا كراهة وبه قال الشافعي وبه يفتي عيني . وفي البرهان في باب العشر ولا يكره بيع أرضها كبنائها وبه يعمل . وفي مختارات النوازل لصاحب الهداية لا بأس ببيع بنائها وإجارتها [ ص: 139 ] لكن في الزيلعي وغيره يكره إجارتها ، وفي آخر الفصل الخامس من التاتارخانية وإجارة الوهبانية قال أبو حنيفة : أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم وكان يفتي لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى : سواء العاكف فيه والباد ورخص فيها في غير أيام الموسم انتهى فليحفظ ، قلت : وبهذا يظهر الفرق والتوفيق انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يفهم من غاية البيان أن القول بكراهة إجارة بيوتها أيام الموسم مما لم ينفرد به الإمام بل وافقه عليه صاحباه حيث نقل عن تقريب الإمام الكرخي ما نصه وروى هشام عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه كره إجارة بيوت مكة في الموسم ورخص في غيره ، وكذا قال أبو يوسف ، وقال هشام : أخبرني محمد عن أبي حنيفة أنه يكره كراء بيوت مكة في الموسم ويقول لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إن كان فيها فضل وإن لم يكن فلا وهو قول محمد انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      والذي تحرر مما رأيناه من أكثر معتبرات كتب ساداتنا الحنفية أن جواز بيع بناء البيوت متفق عليه لأنه ملك لمن بناه كمن بنى في أرض الوقف بإذن المتولي ، ولا يقال : إنه بناء غاصب كمن بنى بيتا في جامع لظهور الإذن هنا دونه ثمة ، وكذا كراهة الإجارة في أيام الموسم وأما بيع الأرض فعند الإمامين جائز بلا كراهة قولا واحدا وعن الإمام روايتان الجواز وعدمه والمفتى به الجواز ، ومستند من يجوز من الكتاب الجليل هذه الآية . وأجاب أصحاب الشافعي عنها أن المسجد الحرام في المطاف والعاكف في المعتكف للعبادة المعدود من أهل المسجد لملازمته له أظهر ، وكذلك المساواة في أنه من شعائر الله تعالى المنصوبة لكل عاكف وباد أوضح وهو المقابل للموصوف بالصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام خاصة فما كانوا يصدون عن مكة ولا أن الصد عنها لغير مريد النسك معصية وأي مدخل لحديث التمليك وعدمه في هذا المساق .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستدراك بأن له مدخلا على سبيل الإدماج وإشارة النص كلام لا طائل تحته ، وقد فسر ( سواء ) بما فسر كذا في الكشف ، وقد جرت مناظرة بمكة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه الحنظلي وكان إسحاق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق [الحج : 4] فأضيفت الديار إلى مالكيها وقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن » وبأنه قد اشترى عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن أترى أنه اشترى من مالكيها أو غير مالكيها قال إسحاق : فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي ، وأجاب بعضهم أن الإضافة إلى مالكي منفعة السكنى وأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى البناء دون الأرض وأرضى بالثمن من أنفق مالا فيه لحاجة العامة وللإمام من ذلك ما ليس لغيره . وتعقب بأن الاستدلال بالظاهر والعدول عن الظاهر دون سند أقوى غير ملتفت إليه ، ولذا قال ابن راهويه : وهو أحد أركان المسلمين وعلم من أعلام الدين ما قال .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن الأخبار المصرحة بتحريم البيع والإجارة لم تصح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعند من قال بمثل قوله ونصب ( سواء ) على أنه مفعول ثان لجعلنا ، والأول الضمير الغائب المتصل و ( العاكف ) مرتفع به لأنه بمعنى مستو وإن كان في الأصل مصدرا ، ومن كلامهم مررت برجل سواء هو والعدم ، واللام ظرف لما عنده .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون ( للناس ) في موضع المفعول الثاني أي جعلناه مباحا للناس أو معبدا لهم وسواء حالا من الهاء وكذا يكون حالا إذا لم يعد الجعل إلى مفعولين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 140 ] وقرأ الجمهور «سواء » بالرفع على أنه خبر «والعاكف » مبتدأ ، وضعف العكس لما فيه من الإخبار بالمعرفة عن النكرة ، والجملة في موضع المفعول الثاني أو الحال ، وجوز أن تكون تفسيرية لجعله للناس وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي «سواء » بالنصب «العاكف » فيه بالجر ، ووجه النصب ما تقدم ، ووجه جر «العاكف » أنه بدل تفصيل من الناس ، وقيل : هو عطف بيان . وقرئ «والبادي » بإثبات الياء وصلا ووقفا ، وقرئ بتركها فيهما وبإثباتها وصلا وحذفها وقفا ومن يرد فيه مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول أي ومن يرد فيه شيئا ما أو مرادا ما ، وقدر ابن عطية المفعول الناس أي ومن يرد فيه الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : بإلحاد أي عدول عن القصد أي الاستقامة المعنوية ، وأصله إلحاد الحافر بظلم بغير حق حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار والباء فيهما للملابسة ، أو الأول حال والثاني متعلق به والباء فيه للسببية أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام ، وقال أبو عبيدة : الباء زائدة و «إلحاد » مفعول ( يرد ) وأنشد عليه قول الأعشى :

                                                                                                                                                                                                                                      ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

                                                                                                                                                                                                                                      وأيد بقراءة الحسن «ومن يرد إلحاده بظلم » وهي على معنى إلحادا فيه إلا أنه توسع فقيل إلحاده ، وقال أبو حيان : الأولى أن يضمن ( يرد ) معنى يتلبس وتجعل الباء للتعدية . وقرأت فرقة يرد بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء أي من أتى فيه بإلحاد إلخ ، وتفسير الإلحاد بما ذكر هو الظاهر فيشمل سائر الآثام لأن حاصل معناه الميل عن الحق إلى الباطل وهو محقق في جميع الآثام ، وكذا المراد بالظلم عند جمع وجمعهما على هذا للتأكيد ، وقيل : المراد بذلك الشرك ولم يرتضه ابن أبي مليكة ، فقد أخرج عبد بن حميد أنه سئل عن قوله تعالى : ومن يرد إلخ فقال : ما كنا نشك أنها الذنوب حتى جاء أعلاج من أهل البصرة إلى أعلاج من أهل الكوفة فزعموا أنها الشرك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود وغيره عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه " ، وهو من ذكر بعض الأفراد لاقتضاء الحال إياه ، وجعل بعضهم من ذلك دخوله من غير إحرام ، وروي عن عطاء تفسير الإلحاد به .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد قال : كان لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم وإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الذي في الحل فقيل له فقال : نحدث أن من الإلحاد فيه لا والله بلى والله نذقه من عذاب أليم جواب لمن الشرطية . والظاهر أن الوعيد على إرادة ذلك مطلقا فيفيد أن من أراد سيئة في مكة ولم يعملها يحاسب على مجرد الإرادة وهو قول ابن مسعود وعكرمة وأبي الحجاج ، وقال الخفاجي : الوعيد على الإرادة المقارنة للفعل لا على مجرد الإرادة لكن في التعبير بها إشارة إلى مضاعفة السيئات هناك والإرادة المصممة مما يؤاخذ عليها أيضا وإن قيل إنها ليست كبيرة ، وقد روي عن مالك كراهة المجاورة بمكة انتهى . وإلى مضاعفة السيئة في مكة ذهب مجاهد ، فقد أخرج عنه ابن المنذر وغيره أنه قال : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات ، وقال رحمه الله تعالى . سألت ابن عمر وكان منزله في الحل ومسجده في الحرم لم تفعل هذا؟ فقال : لأن العمل في الحرم أفضل والخطيئة فيه أعظم فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد في جميع ما يهم به ويقصده .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن هذه الإذاقة في الآخرة ، وقيل كان قبل أن يستحله أهله تعجل العقوبة في الدنيا لمن قصده [ ص: 141 ] بسوء : وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية . حدثنا رجل سمعه من عقب المهاجرين والأنصار أنهم أخبروه أن أيما أحد أراد به ما أراد أصحاب الفيل عجل لهم العقوبة في الدنيا وقال : إنما يوفى استحلاله من قبل أهله ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما ينفعك في هذا المطلب ، وحد بعضهم الحرم بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      وللحرم التحديد من أرض طيبة     ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
                                                                                                                                                                                                                                      وسبعة أميال عراق وطائف     وجدة عشر ثم

                                                                                                                                                                                                                                      تسع جعرانه

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يمن سبع بتقديم سينه     وقد كملت فاشكر لربك إحسانه



                                                                                                                                                                                                                                      وأما المسجد الحرام فيطلق على الحرم كله عند عطاء فيكون حده ما ذكره . وفي البحر العميق عن أبي هريرة قال : إنا لنجد في كتاب الله تعالى أن حد المسجد الحرام إلى آخر المسعى ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزوة إلى مخرج مسيل جياد ، وقد ذكروا أن طول المسجد اليوم أربعمائة ذراع وأربعة أذرع وعرضه ثلاثمائة ذراع . وحكي أنه لم يكن كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له جدار يحيط به فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وسع المسجد واشترى دورا فهدمها وأدخلها فيه ثم أحاط عليه جدارا قصيرا دون القامة وكانت المصابيح توضع عليه ، ثم لما استخلف عثمان اشترى دورا أيضا ووسع بها وبنى المسجد والأروقة ، ثم إن عبد الله بن الزبير زاد سنة بضع وستين في المسجد زيادة كثيرة في خلافته ، ومن ذلك بعض دار الأزرقي اشتراه بسبعة آلاف دينار ، ثم عمره بعد ذلك عبد الملك بن مروان ولم يزد فيه لكن رفع جدار المسجد وحمل إليه أعمدة الحجارة والرخام ، ثم إن المنصور زاد في شقه الشامي وبناه وجعل فيه أعمدة من الرخام ، ثم زاد المهدي بعده مرتين وكانت الكعبة في جانب المسجد فأحب أن تكون في الوسط فاشترى دورا وزاد في المسجد ووسطها كذا ذكره النووي .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي البحر العميق أن زيادة المهدي هي التي تلي دار الندوة خلف مقام الحنفي ، ثم لما انتهت الدولة إلى سلاطين آل عثمان أبقى الله تعالى دولتهم ما دام الدوران لم يألوا جهدا في خدمته والسعي في مرمته .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية