الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      على قلبك متعلق بـ(نزل) لا بالأمين، والمراد بالقلب إما الروح، وهو أحد إطلاقاته كما قال الراغب ، وكون الإنزال عليه - على ما قال غير واحد - لأنه المدرك والمكلف دون [ ص: 121 ] الجسد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يقال: لما كان له - صلى الله عليه وسلم - جهتان جهة ملكية يستفيض بها وجهة بشرية يفيض بها جعل الإنزال على روحه - صلى الله عليه وسلم - لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين.

                                                                                                                                                                                                                                      وللإشارة إلى ذلك قيل: ( على قلبك ) دون (عليك) الأخصر. وقيل: إن هذا؛ لأن القرآن لم ينزل في الصحف كغيره من الكتب.

                                                                                                                                                                                                                                      وإما العضو المخصوص وهو الإطلاق المشهور، وتخصيصه بالإنزال عليه قيل للإشارة إلى كمال تعقله - صلى الله عليه وسلم - وفهمه ذلك المنزل؛ حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب الذي هو محل العقل، كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث، ويشهد له العقل على ما لا يخفى (على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) وقد أطال في الانتصار لذلك الإمام في تفسيره، ورد على من ذهب إلى أن الدماغ محل العقل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: للإشارة إلى صلاح قلبه - عليه الصلاة والسلام – وتقدسه؛ حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم منه حال سائر أجزائه - صلى الله عليه وسلم - فإن القلب رئيس جميع الأعضاء وملكها، ومتى صلح الملك صلحت الرعية.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الحديث: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ».

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يقال: يجوز أن يكون التخصيص؛ لأن الله تعالى جعل لقلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر ما يسمعه ويعيه - على حد ما قيل - وذكره النووي في شرح صحيح مسلم في قوله تعالى: ما كذب الفؤاد ما رأى من أن الله - عز وجل - جعل لفؤاده - عليه الصلاة والسلام - بصرا فرآه به سبحانه ليلة المعراج.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كله على القول بأن جبرائيل - عليه السلام - ينزل بالألفاظ القرآنية المحفوظة له بعد أن نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة، أو التي يحفظها من اللوح عند الأمر بالإنزال، أو التي يوحى بها إليه، أو التي يسمعها منه سبحانه - على ما قاله بعض أجلة السلف - عنده فيلقيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما هي عليه من غير تغيير أصلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذا على القول بأن جبرائيل - عليه السلام - ألقى عليه المعاني القرآنية، وأنه عبر عنها بهذه الألفاظ العربية، ثم نزل بها كذلك فألقاها إلى النبي، صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على القول بأنه - عليه السلام - إنما نزل بالمعاني خاصة إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - وأنه - عليه الصلاة والسلام - علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب فقيل: إن القلب بمعنى العضو المخصوص لا غير، وتخصيصه؛ لأن المعاني إنما تدرك بالقوة المودعة فيه، وقيل: يجوز أن يراد به الروح، وروحه - عليه الصلاة والسلام لغاية تقدسها وكمالها في نفسها - تدرك المعاني من غير توسط آلة، ومن الناس من ذهب إلى هذا القول وجعل الآية دليلا له وهو قول مرجوح، ومثله القول بأن جبرائيل - عليه السلام - ألقى عليه المعاني فعبر عنها بألفاظ فنزل بما عبر هو به، والقول الراجح أن الألفاظ منه - عز وجل - كالمعاني لا مدخل لجبرائيل - عليه السلام - فيها أصلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعها ويعيها بقوى إلهية قدسية لا كسماع البشر إياها منه - عليه الصلاة والسلام - وتنفعل عند ذلك قواه البشرية، ولهذا يظهر على جسده الشريف - صلى الله عليه وسلم - ما يظهر، ويقال لذلك برحاء الوحي، حتى يظن في بعض الأحايين أنه أغمي عليه - عليه الصلاة والسلام - وقد يظن أنه - صلى الله عليه وسلم - أغفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا يخرج ما رواه مسلم عن أنس قال: « بينا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ».

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يحتاج من قال: إن الأشبه [ ص: 122 ] أن القرآن كله نزل في اليقظة إلى تأويل هذا الخبر بأنه - عليه الصلاة والسلام - خطر له في تلك الإغفاءة سورة الكوثر التي نزلت قبلها في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي أنزلت فيه السورة فقرأها عليهم، ثم إنه على ما قيل من أن بعض القرآن نزل عليه - عليه الصلاة والسلام - وهو نائم استدلالا بهذا الخبر يبقى ما قلناه من سماعه - عليه الصلاة والسلام - ما ينزل إليه - صلى الله عليه وسلم - ووعيه إياه بقوى إلهية قدسية، ونومه - عليه الصلاة والسلام - لا يمنع من ذلك، كيف وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « تنام عيني ولا ينام قلبي ».

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر بعض المتصدرين في محافل الحكمة من المتأخرين في بيان كيفية نزول الكلام وهبوط الوحي من عند الله تعالى بواسطة الملك على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الروح الإنساني إذا تجرد عن البدن، وخرج عن وثاقه من بيت قالبه وموطن طبعه، مهاجرا إلى ربه سبحانه؛ لمشاهدة آياته الكبرى، وتطهر عن درن المعاصي واللذات والشهوات والوساوس العادية والمتعلقات - لاح له نور المعرفة والإيمان بالله تعالى وملكوته الأعلى، وهذا النور إذا تأكد وتجوهر كان جوهرا قدسيا يسمى في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعال، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي، وبهذا النور الشديد العقلي يتلألأ فيه أسرار ما في الأرض والسماء، ويتراءى منه حقائق الأشياء، كما يتراءى بالنور الحسي البصري الأشباح المثالية في قوة البصر إذا لم يمنع حجاب.

                                                                                                                                                                                                                                      والحجاب هاهنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذه الأولى، فإذا عريت النفس عن دواعي الطبيعة والاشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحس والتخيل وتوجهت بوجهها شطر الحق وتلقاء عالم الملكوت الأعلى اتصلت بالسعادة القصوى، فلاح لها سر الملكوت، وانعكس عليها قدس اللاهوت، ورأت عجائب آيات الله تعالى الكبرى، ثم إن هذه الروح إذا كانت قدسية، شديدة القوى، قوية الآثار لقوة اتصالها بما فوقها - فلا يشغلها شأن عن شأن، ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها، فتضبط الطرفين، وتسع قوتها الجانبين؛ لشدة تمكنها في الحد المشترك بين الملك والملكوت كالأرواح الضعيفة التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر، وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن المشعر الآخر.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا توجهت هذه الروح القدسية - التي لا يشغلها شأن عن شأن، ولا تصرفها نشأة عن نشأة - وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلم بشري - بل من الله تعالى - يتعدى تأثيرها إلى قواها، ويتمثل لروحه البشري صورة ما شاهده بروحه القدسي، وتبرز منها إلى ظاهر الكون فتتمثل للحواس الظاهرة - سيما السمع والبصر - لكونهما أشرف الحواس الظاهرة، فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن والصباحة، ويسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة والفصاحة، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله تعالى الحامل للوحي الإلهي، والكلام هو كلام الله تعالى، وبيده لوح فيه كتاب هو كتاب الله تعالى، وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيل، كما يقوله من لا حظ له من علم الباطن، ولا قدم له في أسرار الوحي والكتاب كبعض أتباع المشائين، معاذ الله تعالى عن هذه العقيدة الناشئة عن الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: إنارة قلبية وإشارة عقلية، عليك أن تعلم أن للملائكة ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن الكائن في النشأة الآخرة، فأما ذواتها الحقيقية فإنما هي أمرية قضائية قولية، وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية، وأعظمهم إسرافيل - عليه السلام - وهؤلاء الملائكة اللوحية يأخذون الكلام الإلهي والعلوم اللدنية من الملائكة القلمية، ويثبتونها في صحائف ألواحهم القدرية الكتابية، وإنما كان [ ص: 123 ] يلاقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في معراجه الصنف الأول من الملائكة، ويشاهد روح القدس في اليقظة، فإذا اتصلت الروح النبوية بعالمهم عالم الوحي الرباني يسمع كلام الله تعالى، وهو إعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقية، وهي الإفاضة والاستفاضة في مقام (قاب قوسين أو أدنى) وهو مقام القرب ومقعد الصدق ومعدن الوحي والإلهام.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذا إذا عاشر النبي الملائكة الأعلين يسمع صريف أقلامهم، وإلقاء كلامهم، وهو كلام الله تعالى النازل في محل معرفتهم، وهي ذواتهم وعقولهم لكونهم في مقام القرب، ثم إذا نزل - عليه الصلاة والسلام - إلى ساحة الملكوت السماوي يتمثل له صورة ما عقله وشاهده في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح القدرية السماوية، ثم يتعدى منه الأثر إلى الظاهر، وحينئذ يقع للحواس شبه دهش ونوم لما أن الروح القدسية - لضبطها الجانبين - تستعمل المشاعر الحسية لكن لا في الأغراض الحيوانية بل في سبيل السلوك إلى الرب سبحانه، فهي تشائع الروح في سبيل معرفته تعالى وطاعته، فلا جرم إذا خاطبه الله تعالى خطابا من غير حجاب خارجي - سواء كان الخطاب بلا واسطة أو بواسطة الملك - واطلع على الغيب فانطبع في فص نفسه النبوية نقش الملكوت وصورة الجبروت - تنجذب قوة الحس الظاهر إلى فوق، ويتمثل لها صورة غير منفكة عن معناها وروحها الحقيقي، لا كصورة الأحلام والخيالات العاطلة عن المعنى، فيتمثل لها حقيقة الملك بصورته المحسوسة بحسب ما يحتملها، فيرى ملكا على غير صورته التي كانت له في عالم الأمر؛ لأن الأمر إذا نزل صار خلقا مقدرا، فيرى صورته الخلقية القدرية، ويسمع كلاما مسموعا بعدما كان وحيا معقولا، أو يرى لوحا بيده مكتوبا، فالموحى إليه يتصل بالملك أولا بروحه العقلي ويتلقى منه المعارف الإلهية، ويشاهد ببصره العقلي آيات ربه الكبرى، ويسمع بسمعه العقلي كلام رب العالمين من الروح الأعظم.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إذا نزل عن هذا المقام الشامخ الإلهي يتمثل له الملك بصورة محسوسة بحسبه، ثم ينحدر إلى حسه الظاهر، ثم إلى الهواء، وهكذا الكلام في كلامه، فيسمع أصواتا وحروفا منظومة مسموعة، يختص هو بسماعها دون غيره، فيكون كل من الملك وكلامه وكتابه قد تأدى من غيبه إلى شهادته، ومن باطن سره إلى مشاعره.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه التأدية ليست من قبيل الانتقال والحركة للملك الموحي من موطنه ومقامه؛ إذ كل له مقام معلوم، لا يتعداه ولا ينتقل عنه، بل مرجع ذلك إلى انبعاث نفسي للنبي - عليه الصلاة والسلام - من نشأة الغيب إلى نشأة الظهور، ولهذا كان يعرض له شبه الدهش والغشي، ثم يرى ويسمع، ثم يقع منه الإنباء والإخبار، فهذا معنى تنزيل الكتاب، وإنزال الكلام من رب العالمين، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه ما تأباه الأصول الإسلامية مما لا يخفى عليك، وقد صرح غير واحد من المحدثين والمفسرين وغيرهم بانتقال الملك - وهو جسم عندهم - ولم يؤول أحد منهم نزوله فيما نعلم، نعم، أولوا نزول القرآن وإنزاله.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأصفهاني في أوائل تفسيره: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله تعالى منزل، واختلفوا في معنى الإنزال ، فمنهم من قال: إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله تعالى ألهم كلامه جبريل - عليه السلام - وهو في السماء، وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان، وفي ذلك طريقتان:

                                                                                                                                                                                                                                      إحداهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية، وأخذه من جبريل، عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وثانيتهما أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - منه، والأولى أصعب الحالين، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطيبي : لعل نزول القرآن على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يتلقفه الملك تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 124 ] وقال القطب في حواشي الكشاف: الإنزال في اللغة الإيواء، وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل، وكلاهما لا يتحققان في الكلام، فهو مستعمل بمعنى مجازي.

                                                                                                                                                                                                                                      فمن قال: القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله أن توجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قال: القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذاته تعالى فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ، وهذا المعنى مناسب لكونه مجازا عن أول المعنيين اللغويين.

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ، وهذا مناسب للمعنى الثاني.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا، أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها، فيلقيها عليهم، انتهى، وفيه بحث لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وعندي أن إنزاله إظهاره في عالم الشهادة بعد أن كان في عالم الغيب، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن جميع القرآن نزل به الروح الأمين على قلبه الشريف - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهذا ينافي ما قيل: إن آخر سورة البقرة كلمه الله تعالى بها ليلة المعراج حيث لا واسطة؛ احتجاجا بما أخرجه مسلم ، عن ابن مسعود : « لما أسري برسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - انتهى إلى سدرة المنتهى» الحديث، وفيه: «فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله تعالى شيئا المقحمات ».

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب - بعد تسليم - أن يكون ما ذكر دليلا لذلك يجوز أن يكون قد نزل جبريل - عليه السلام - بما ذكر أيضا تأكيدا وتقريرا أو نحو ذلك، وقد ثبت نزوله - عليه السلام - بالآية الواحدة مرتين لما ذكر، وجوز أن تكون الآية باعتبار الأغلب، واعتبر بعضهم كونها كذلك لأمر آخر وهو أن من القرآن ما نزل به إسرافيل - عليه السلام - وهو ما كان في أول النبوة، وفيه أن ذلك لم يثبت أصلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الإتقان أخرج الإمام أحمد في تاريخه من طريق داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل - عليه السلام - ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل - عليه السلام - فنزل عليه القرآن على لسانه عشر سنين، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو صريح في خلاف ذلك، وإن كان فيه ما يخالف الصحيح المشهور من أن جبريل - عليه السلام - هو الذي نزل عليه - عليه الصلاة والسلام - بالوحي من أول الأمر، إلا أنه نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - غيره - عليه السلام - من الملائكة أيضا ببعض الأمور، وكثيرا ما ينزلون لتشييع الآيات القرآنية مع جبريل ، عليه وعليهم السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الناس من اعتبر كونها باعتبار الأغلب؛ لأن إنزال جبريل - عليه السلام - قد لا يكون على القلب؛ بناء على ما ذكره الشيخ محيي الدين - قدس سره - في الباب الرابع عشر من الفتوحات من قوله: اعلم أن الملك يأتي النبي - عليه الصلاة والسلام - بالوحي على حالين؛ تارة ينزل بالوحي على قلبه، وتارة يأتيه في صورة جسدية من خارج، فيلقي ما جاء به إلى ذلك النبي على أذنه فيسمعه، أو يلقيه على بصره فيبصره، فيحصل له من النظر ما يحصل من السمع سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب بأنه لا حاجة إلى ما ذكر، وما نقل عن محيي الدين - قدس سره - لا يدل على أن نزول الوحي إلى كل نبي يكون على هذين الحالين، فيجوز أن يكون نزول الوحي إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - على الحال الأولى فقط، سلمنا دلالته على العموم، وأن نزول الوحي إلى نبينا - عليه الصلاة والسلام - قد يكون بتمثل الملك بناء على بعض الأخبار الصحيحة في ذلك، لكن لا نسلم أنه يدل على أن نزول الوحي - إذا كان الموحى قرآنا - يكون على الحال الثانية، سلمنا دلالته على ذلك لكن لا نسلم صحة جعله مبنى لتأويل الآية، وكيف يؤول كلام الله تعالى لكلام [ ص: 125 ] مناف لظاهره صدر من غير معصوم، ويكفي محيي الدين - قدس سره - من علماء الشريعة أن يؤولوا كلامه ليوافق كلام الله - عز وجل - فيسلم من الطعن، ولعل من يؤول في مثل ذلك يحسن الظن بمحيي الدين - قدس سره - ويقول: إنه لم يقل ذلك إلا لدليل شرعي، فقد قال - قدس سره - في الكلام على الإذن من الفتوحات: اعلم أني لم أقرر - بحمد الله تعالى - في كتابي هذا ولا غيره قط أمرا غير مشروع، وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي، وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الكتاب المذكور: جميع ما أتكلم به في مجالسي وتأليفي إنما هو من حضرة القرآن العظيم، فإني أعطيت مفاتيح العلم فيه، فلا أستمد قط في علم من العلوم إلا منه، كل ذلك حتى لا أخرج عن مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه، أو بما تضمنه كلامه سبحانه، إلى غير ذلك، فالداعي للتأويل - في الحقيقة - ذلك الدليل، لا نفس كلامه - قدس سره – العزيز، وهو اللائق بالمسلمين الكاملين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: لتكون من المنذرين متعلق بـ(نزل) أي: نزل به لتنذرهم بما في تضاعيفه من العقوبات الهائلة، وإيثار ما في النظم الكريم للدلالة على انتظامه - صلى الله عليه وسلم - في سلك أولئك المنذرين المشهورين في حقية الرسالة وتقرر العذاب المنذر به، وكذا قوله سبحانه:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية