الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا أي السعة والتنعم فيها، وزينتها أي زخرفها، وهو تخصيص بعد تعميم، فتعالين أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال: أقبل يخاصمني، وذهب يكلمني، وقام يهددني، وأصل تعال أمر بالصعود لمكان عال، ثم غلب في الأمر بالمجيء مطلقا والمراد ها هنا ما سمعت، وقال الراغب: قال بعضهم: إن أصله من العلو، وهو ارتفاع المنزلة، فكأنه دعاء إلى ما فيه رفعة كقولك: افعل كذا غير صاغر، تشريفا للمقول له، وهذا المعنى غير مراد هنا، كما لا يخفى، أمتعكن أي أعطكن متعة الطلاق، والمتعة للمطلقة التي لم يدخل بها، ولم يفرض لها في العقد واجبة عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه، ولسائر المطلقات مستحبة، وعن الزهري متعتان أحدهما يقضي بها السلطان ويجبر عليها من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها، والثانية حق على المتقين من طلق بعد ما فرض ودخل. وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة، فقال: متعها إن كنت من المتقين، ولم يجبره، وعن سعيد بن جبير: المتعة حق مفروض، وعن الحسن : لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة درع وحمار وملحفة على حسب السعة، والإقتار، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فيجب لها الأقل منهما، ولا [ ص: 181 ] ينقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم، فلا ينقص من نصفها كذا في الكشاف، وتمام الكلام في الفروع، والفعل مجزوم على أنه جواب الأمر وكذا قوله تعالى: وأسرحكن وجوز أن يكون الجزم على أنه جواب الشرط، ويكون فتعالين اعتراضا بين الشرط وجزائه، والجملة الاعتراضية قد تقترن بالفاء كما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا



                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حميد الخراز «أمتعكن وأسرحكن» بالرفع على الاستئناف، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أمتعكن» بالتخفيف من أمتع، والتسريح في الأصل مطلق الإرسال ثم كنى به عن الطلاق أي وأطلقكن، سراحا أي طلاقا جميلا أي ذا حسن كثير بأن يكون سنيا لا ضرار فيه، كما في الطلاق البدعي المعروف عند الفقهاء. وفي مجمع البيان تفسير السراح الجميل بالطلاق الخالي عن الخصومة والمشاجرة، وكان الظاهر تأخير التمتيع عن التسريح لما أنه مسبب عنه، إلا أنه قدم عليه إيناسا لهن وقطعا لمعاذيرهن من أول الأمر، وهو نظير قوله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم [التوبة: 43]، من وجه، ولأنه مناسب لما قبله من الدنيا، وجوز أن يكون في محله بناء على أن إرادة الدنيا بمنزلة الطلاق، والسراح الإخراج من البيوت، فكأنه قيل: إن أردتن الدنيا وطلقتن فتعالين أعطكن المتعة، وأخرجكن من البيوت إخراجا جميلا بلا مشاجرة ولا إيذاء، ولا يخفى بعده، وسبب نزول الآية على ما قيل: إن أزواجه عليه الصلاة والسلام سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي ، وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال: أقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعله يضحك، فقال: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد يعني امرأته رضي الله تعالى عنه سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدا ناجذه، وقال: هن حولي سألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة ليضربها، وقام عمر رضي الله تعالى عنه إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل الله تعالى الخيار فبدأ بعائشة فقال عليه الصلاة والسلام: (إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: ما هو؟ فتلا عليها يا أيها النبي قل لأزواجك الآية، قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى لم يبعثني متعنتا، ولكن بعثني معلما مبشرا، لا تسألني امرأة منهن عما أخبرتني إلا أخبرتها).

                                                                                                                                                                                                                                      وفي خبر رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، والحسن أنه لما نزلت آية التخيير كان تحته عليه الصلاة والسلام تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وكان تحته صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وبدأ بعائشة، فلما اختارت الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والدار الآخرة رئي الفرح في [ ص: 182 ] وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فتتابعن كلهن على ذلك، فلما خيرهن، واخترن الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، والدار الآخرة شكرهن الله جل شأنه على ذلك، إذ قال سبحانه: لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن [الأحزاب: 52]، فقصره الله تعالى عليهن، وهن التسع اللاتي اخترن الله عز وجل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد، عن عمرو بن سعيد، عن أبيه، عن جده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خير نساءه، فاخترن جميعا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام غير العامرية اختارت قومها.

                                                                                                                                                                                                                                      فكانت بعد تقول: أنا الشقية، وكانت تلقط البعر وتبيعه، وتستأذن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: أنا الشقية.


                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أيضا عن ابن جناح قال: اخترنه جميعا غير العامرية، كانت ذاهبة العقل حتى ماتت. وجاء في بعض الروايات عن ابن جبير : غير الحميرية، وهي العامرية، وكان هذا التخيير كما روي عن عائشة، وأبي جعفر بعد أن هجرهن عليه الصلاة والسلام شهرا تسعة وعشرين يوما. وفي البحر أنه لما نصر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عنه الأحزاب وفتح عليه النضير وقريظة ظن أزواجه عليه الصلاة والسلام أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله، وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى، وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم، فأمره الله تعالى بأن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن، وما أحسن موقع هذه الآيات على هذا بعد انتهاء قصة الأحزاب، وبني قريظة كما لا يخفى، ويفهم من كلام الإمام أنها متعلقة بأول السورة، وذلك أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه عز وجل، فبدأ سبحانه بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسلام إلى ما يتعلق بجانب التعظيم له تعالى، فقال سبحانه: يا أيها النبي اتق الله [الأحزاب: 2] إلخ، ثم أرشده سبحانه إلى ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بذلك، وقدم سبحانه الشرطية المذكورة على قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية