الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قائله كما سمعت ابن أبي ، وعنى بالأعز نفسه أو ومن يلوذ به ، وبالأذل من أعزه الله عز وجل وهو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو هو عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وإسناد المذكور إلى جميعهم لرضائهم به كما في سابقه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والسبتي في اختياره «لنخرجن » بالنون ، ونصب « الأعز » و « الأذل » على أن « الأعز » مفعول به ، و « الأذل » إما حال بناء على جواز تعريف الحال ، أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك ، وادخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك ، أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل ، أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبها الأذل ، أو مفعول مطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الكسائي والفراء أن قوما قرؤوا « ليخرجن » بالياء مفتوحة وضم الراء . ورفع « الأعز » على الفاعلية . ونصب « الأذل » على ما تقدم ، بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج ، وقرئ « ليخرجن » بالياء مبنيا للمفعول ، ورفع « الأعز » على النيابة عن الفاعل ، ونصب « الأذل » على ما مر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني « لنخرجن » بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء ، ونصب « الأعز » و « الأذل » ، وحكى هذه القراءة أبو حاتم ، وخرجت على أن نصب « الأعز » على الاختصاص كما في قولهم : نحن العرب أقرى الناس للضيف ، ونصب « الأذل » على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي والفراء ، والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل : وهو كما ترى ، ولعل هذه القراءة [ ص: 116 ]

                                                                                                                                                                                                                                      غير ثابتة عن الحسن ، وقوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين رد لما زعموه ضمنا من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل ، وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا للغير ، ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر ، وقيل : إن العطف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الاستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الإيمان ، وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن عبد الله بن أبي - وكان مخلصا - سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة فقال : والله على أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك ، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال : وراءك ، قال : ما لك ويلك ؟ قال : والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل وصح من رواية الشيخين والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه » وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة والسلام : يا نبي الله مر معاذا أن يضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك ، وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها ، ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة : ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام أن رجلا قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيها قال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية ، وأريد بالتيه الكبر ، وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر ، وقد نص على ذلك أبو حفص السهروردي قدس سره فقال : العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع ، وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه ، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة ، وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فإنها أيضا ثابتة لله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن المنافقين لا يعلمون من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازم فلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم ، وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة ، وقيل في وجهه : إن كون العزة لله عز وجل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصدا للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى ، ثم قيل : خص الجملة الأولى بـ لا يفقهون والثانية بـ لا يعلمون لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوتر ما هو أبلغ لما هو أدعى له .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الراغب معنى قوله تعالى : هم الذين يقولون لا تنفقوا إلخ أنهم يأمرون بالإضرار بالمؤمنين وحبس [ ص: 117 ]

                                                                                                                                                                                                                                      النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له ، ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل ، وعندهم أن الأعز من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله تعالى فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده ، ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معز أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز وجل ، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر ، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الإشارة إلى علة الحكم في الموضعين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية