الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز وجل: أرأيت إن كذب وتولى والمفعول الأول للأول الموصول وللثاني والثالث محذوف وهو ضمير يعود عليه أو اسم إشارة يشار به إليه، والمفعول الثاني للثالث قوله سبحانه: ألم يعلم بأن الله يرى والأولان متوجهان إليه أيضا وهو مقدر عندهما، وترك إظهاره اختصارا ونظير ذلك أخبرني عن زيد إن وفدت عليه، أخبرني عنه إن استخبرته، أخبرني عنه إن توسلت إليه، أما يوجب حقي وليس ذلك من التنازع؛ لأن الجمل لا يصح إضمارها وإنما هو من الطلب المعنوي والحذف في غير التنازع، وجواب الشرط في الجملتين محذوف لدلالة «ألم يعلم» عليه ويقدر حسبما تقتضيه الصناعة، وقيل: يدل عليه: ( أرأيت ) مرادا به ما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى ويقدر كذلك، والكلام عليه أيضا نظير ما مر آنفا، والضمائر المستترة في كان وما بعد من الأفعال للناهي والمراد من: «أرأيت» أخبرني؛ [ ص: 184 ] فإن الرؤية لما كانت سببا للعلم أجري الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها والاستفهام الواقع موقع المفعول الثاني هو متعلق الاستخبار هنا، وهذا الإجراء على ما يفهم من كلام بعض الأئمة يكون مع الرؤية البصرية والرؤية القلبية وللنحاة فيه قولان، والخطاب في الكل على ما اختاره جمع لكل من يصلح أن يكون مخاطبا ممن له مسكة. وقيل: للإنسان كالخطاب في إلى ربك .

                                                                                                                                                                                                                                      وتنوين «عبدا» على ما هو ظاهر كلام البعض للتنكير، وتقييد النهي بالظرف يشعر بأن النهي عن الصلاة حال التلبس بها وفصل بين الجمل للاعتناء بأمر التشنيع والوعيد حيث أشعر أن كل جملة مقصودة على حيالها فشنع سبحانه على الناهي أولا بنهيه عن الصلاة، وأوعد عليه مطلقا بقوله تعالى: أرأيت الذي إلخ؛ أي: أخبرني يا من له أدنى تمييز أو أيها الإنسان عمن ينهى عن الصلاة بعض عباد الله تعالى ألم يعلم بأن الله تعالى يرى ويطلع فيجازيه على ذلك النهي. وشنع سبحانه عليه ثانيا بنهيه عن ذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه على زعمه على هدى ورشد في نفس النهي أو أنه أمر بواسطته بالتقوى؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده أو مستلزم له، فقال تعالى شأنه: أرأيت إن كان إلخ؛ أي: أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم أن الله يطلع فيجازيه إن كان على هدى ورشد في نفس النهي أو كان أمرا بواسطته بالتقوى كما يزعم. وشنع جل شأنه عليه ثالثا بذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه في نفس الأمر وفيما يقوله تعالى مكذبا بحقية الصلاة متوليا عنها معرضا عن فعلها بقوله تعالى: أرأيت إن كذب إلخ؛ أي: أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم بأن الله تعالى يطلع على أحواله إن كذب بحقية ما نهى عنه وأعرض عن فعله على ما نقوله نحن، والحاصل أنه تعالى شنع وأوعد على النهي عن الصلاة بدون تعرض لحال الناهي الزعمي أو الحقيقي، ثم شنع وأوعد جل وعلا عليه مع التعرض لحاله الزعمي، ثم شنع عز وجل وأوعد عليه مع التعرض لحاله الحقيقي وهذا كالترقي في التشنيع.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على عدم تقييد ما في حيز الشرطيتين بما ذكرنا حيث قالوا: إن كان على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان أمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم أو كان مكذبا للحق ومتوليا عن الصواب كما نقول، وذكر أن الشرط الثاني تكرار للأول لأن معنى الأول: أنه ليس على الهدى، وأوضح بأن إدخال حرف الشرط في الأول لإرخاء العنان صورة والتهكم حقيقة؛ إذ لا يكون في النهي عن عبادته تعالى والأمر بعبادة الأصنام هدى البتة، وفي الثاني لذلك والتهكم على عكس الأول؛ إذ لا شك أنه مكذب متول فمآلهما إلى واحد. وقيل: إن الرؤية في الجملة الأولى بصرية فلا تحتاج إلى مفعول ثان، وفي الثانية والثالثة قلبية، والمفعول الأول على ما تقدم والمفعول الثاني سد مسده الجملة الشرطية الأولى بجوابها وهو في الأخيرة ألم يعلم إلخ. لمذكور وفيما قبلها محذوف دل هو عليه، ولم تعطف الأخيرة على ما قبلها للإيذان باستقلالها بالوقوع في نفس الأمر وباستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب، وأما قبلها فأمر الشرط فيه ليس إلا لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريده عن الجواب والإحالة به على جواب الشرطية بعده، والخطاب في الكل لمن يصلح له، والتنوين في «عبدا» لتفخيمه عليه الصلاة والسلام واستعظام النهي وتأكيد التعجيب منه والمعنى: أخبرني عن ذلك الناهي إن كان على الهدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى إلخ ما ذكر آنفا ألم يعلم أن الله يرى ويطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل. وقيل: إن «أرأيت» في الجمل الثلاث من الرؤية القلبية، والمفعول الأول للأولى الموصول، ومفعولها الثاني الجملة الشرطية الأولى بجوابها المحذوف اكتفاء عنه بجواب الشرطية الثانية؛ إذ علم من ضرورة التقابل. و «أرأيت» الثانية تكرار للأولى، و «أرأيت» الثالثة ومفعولها الأول محذوف للقرينة مستقلة؛ لأنها تقابل الأولى للتقابل بين الشرطين يعني قوله تعالى: إن كان إلخ، وقوله سبحانه: [ ص: 185 ] إن كذب إلخ. وفي الإتيان بالجملة الأخيرة من دون العطف ترشيح للكلام المبكت وتنبيه على حقية الشرط، ولهذا صرح بجوابه ليتمحض وعيدا والخطاب على ما تقدم أولا والكلام من قبيل الكلام المنصف وإرخاء العنان، ولذا قيل: «عبدا» ولم يقل: نبيا مجتبى فكأنه قيل: أخبرني يا من له أدنى تمييز عن حال هذا الذي ينهى بعض عباد الله تعالى فضلا عن النبي المجتبى عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان آمرا بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأصنام كما يزعم، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما تقول: ألم يعلم إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ( أرأيت ) في الجملتين الثانية والثالثة تكرار للأولى والشرطيتان بجوابهما سادتان مسد المفعول الثاني للأولى، و «ألم يعلم» إلخ جواب الشرط الثاني وجواب الأول محذوف لدلالته عليه، ولم يقل: أوإن كذب إلخ لأنه ليس بقسيم لما قبله على ما قيل. والمعنى على نحو ما سمعت، وأورد على جميع هذه الأقوال أن في تجويز الإتيان بالاستفهام في جزاء الشرط من غير الفاء وإن صرح به الزمخشري في كشافه وارتضاه الرضي واستشهد له بقوله تعالى: قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون بحثا لأن ظاهر نقل الزمخشري نفسه في المفصل ونقل غيره وجوب الفاء إذا كان الجزاء جملة إنشائية والاستفهام وإن لم يبق على الحقيقة لم يخرج على ما في الكشف من الإنشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حيان: إن وقوع جملة الاستفهام جوابا للشرط بغير فاء لا أعلم أحدا أجازه بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبا بوجه ما، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة أو شعر. وقال الدماميني في شرح التسهيل: إن جعل: هل يهلك جزاء مشكل لعدم اقترانه بالفاء، والاقتران بها في مثل ذلك واجب. واعترض أيضا جعل الجملة الشرطية في موضع المفعول الثاني ل «أرأيت» بأن مفعولها الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما نص عليه أبو حيان وجماعة، أو قسمية كما في الإرشاد. وقال الخفاجي: إن جعل الشرطية في موقع المفعول والجملة الاستفهامية في موقع جواب الشرط إما على ظاهره أو على أنهما لدلالتهما على ذلك جعلا كأنهما كذلك لسدهما مسد المفعول والجواب وبما ذكر صرح الرضي والدماميني في شرح التسهيل في باب اسم الإشارة فما قيل من أن المفعول الثاني ل «أرأيت» لا يكون جملة استفهامية مخالف لما صرحوا بأنه مختار سيبويه فلا يلتفت إليه، ولم يجعلوا فيما ذكر الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا للكافر الناهي لأن السياق مقتض لخروج الناهي والمنهي عن مورد الخطاب. واستظهر في البحر جعله للنبي وجوز غيره جعله للكافر. والمراد تصوير الحال بعنوان كلي وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الضميران في «إن كان، وأمر» للعبد المصلي، والضمائر في «كذب وتولى، ويعلم» للذي ينهى. وحاصل المعنى على ما قال الفراء: أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي، والمنهي على الهدى وآمر بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا. والظاهر أن جواب الشرط عليه محذوف وهو: فما أعجب من ذا بقرينة ( أرأيت ) فإنه يفيد التعجب، والرؤية فيه قيل علمية، والمفعول الثاني محذوف نحو هذا الجواب وقيل: بصرية و «ألم يعلم» إلخ جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وتأكيده، وأو تقسيمية بمعنى الواو. وقيل: الخطاب في ( أرأيت ) الثانية للكافر وفي الثانية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو عز وجل كالحاكم الذي حضر الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه سبحانه قال: يا كافر أخبرني إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله تعالى أمرا بالتقوى أتنهاه؟ وأخبرني أيها الرسول إن كان الناهي مكذبا بالحق متوليا عن الدين الصحيح ألم يعلم بأن الله تعالى يجازيه. وسكت هذا القائل عن الخطاب في ( أرأيت ) الأول فقيل: لكل من يصلح له، وقيل: للإنسان، وقيل: للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالخطاب في الثالث. وقوله: أتنهاه يحتمل أنه جعله مفعولا لرأيت، ويحتمل أنه جواب الشرط أو كما في سابقه، ولعل ذكر الأمر بالتقوى في الجملة الثانية لأن [ ص: 186 ] النهي على ما قيل كان عن الصلاة والأمر بها وكان الظاهر عليه أن يذكر في الجملة الأولى أيضا بأن يقال: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أو أمر بالتقوى لكنه حذف اكتفاء بذكره في الثانية، واقتصر على ذكر الصلاة ولم يعكس لأن الأمر بالتقوى دعوة قولية، والصلاة دعوة فعلية، والفعل أقوى من القول. وإنما كانت دعوة وأمرا لأن المقتدى به إذا فعل فعلا كان في قوة قوله: افعلوا هذا. وقيل: المذكور أولا ليس النهي عن الصلاة بل النهي حين الصلاة وهو محتمل أن يكون لها أو لغيرها، وعامة أحوال الصلاة لما انحصرت في تكميل نفس المصلي بالعبادة وتكميل غيره بالدعوة فنهيه في تلك الحالة يكون عن الصلاة والدعوة معا فلذا ذكر في الجملة الثانية انتهى. فلا تغفل.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز الإمام كون الخطاب في الكل له عليه الصلاة والسلام وقال في بيان معنى أرأيت إن كان إلخ أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر نفسه، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة، فلو اختار الرأي الصائب والاهتداء والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله تعالى والنهي عن خدمته سبحانه وطاعته عز وجل؟ كأنه تعالى يقول: تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العلية وقنع بالمراتب الردية.

                                                                                                                                                                                                                                      واعتبر عصام الدين هذه الجملة توبيخا على تفويت ما ينفع وما بعدها توبيخا على كسب ما يضر فقال: إن قوله تعالى: ( أرأيت الذي ) إلخ استشهاد لطغيان الإنسان أن رآه مستغنيا والرؤية بمعنى الإبصار؛ أي: أشاهدت الذي ينهى عبدا إذا صلى وعرفت طغيان الإنسان المستغني وأنه لا يكفي بكفرانه ويتجاوز إلى تكليف العبد الذي أرسل للمنع عن الكفران بالكفران. وقوله سبحانه: أرأيت إن كان إلخ توبيخ له على فوت ما لا يعلم كنهه بفوت الهدى والأمر بالتقوى، يعني: أعلمت أنه على أي فوز إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله عز وجل: أرأيت إن كذب إلخ توبيخ له بما كسب من استحقاق العذاب والبعد عن رب الأرباب؛ أي: أعلمت أنه على أي عقوبة ومؤاخذة. وقوله تعالى: ألم يعلم إلخ تهديد ووعيد شديد بعد التوبيخ على كسب حال الشقي وفوت حال السعيد انتهى. وهو كما ترى فتأمل جميع ما تقدم، والله تعالى بمراده أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن الآية وإن نزلت في أبي جهل عليه اللعنة لكن كل من نهى عن الصلاة ومنع منها فهو شريكه في الوعيد ولا يلزم على ذلك المنع عن النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة؛ لأن المنهي عنه في الحقيقة ليس عن الصلاة نفسها بل عن وصفها المقارن وأشهد الاحتياط تحاشي بعضهم عن النهي مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                                      فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلى أقواما يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك، فقيل له رضي الله تعالى عنه: ألا تنهاهم؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أخشى أن أدخل تحت وعيد قوله تعالى: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى وفي رواية: لا أحب أن أنهى عبدا إذا صلى، ولكن أحدثهم بما رأيت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد سلك نحو هذا المسلك أبو حنيفة عليه الرحمة فقد روي أن أبا يوسف قال له:

                                                                                                                                                                                                                                      أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ فقال: يقول: ربنا لك الحمد ويسجد. ولم يصرح بالنهي، ويقاس على النهي عن الصلاة النهي عن غيرها من أنواع العبادة، ولا فرق بين النهي القالي والنهي الحالي، ومنه أن يشغل المرء المرء عن ذلك وقد ابتلي به كثير من الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية