الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين

                                                                                                                                                                                                يا آدم وقلنا : يا آدم ، وقرئ : هذي الشجرة ، والأصل الياء ، والهاء بدل منها ، ويقال : "وسوس" ، إذا تكلم كلاما خفيا يكرره ، ومنه وسوس الحلي ، وهو فعل غير متعد ، كولولت المرأة ووعوع الذئب ، ورجل موسوس بكسر الواو ، ولا يقال موسوس بالفتح ، ولكن موسوس له ، وموسوس إليه ، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة ، ومعنى : وسوس له : فعل الوسوسة لأجله ، ووسوس إليه : ألقاها إليه ، "ليبدي" : جعل ذلك غرضا له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره وألا يطلع عليه مكشوفا ; وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنه لم يزل مستهجنا في الطباع مستقبحا في العقول .

                                                                                                                                                                                                [ ص: 432 ] فإن قلت : ما للواو المضمومة في : "ووري" لم تقلب همزة كما قلت في أويصل؟

                                                                                                                                                                                                قلت : لأن الثانية مدة كألف وارى ، وقد جاء في قراءة عبد الله : "أورى" ، بالقلب إلا أن تكونا ملكين : إلا كراهة أن تكونا ملكين ، وفيه دليل على أن الملكية بالمنظر الأعلى ، وأن البشرية تلمح مرتبتها كلا ولا ، وقرئ : "ملكين" ، بكسر اللام ; كقوله : وملك لا يبلى : [طه : 120] . من الخالدين : من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين ، وقرئ : "من سوأتهما" ، بالتوحيد ، "وسواتهما" ، بالواو المشددة ، "وقاسمهما" : وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين .

                                                                                                                                                                                                فإن قلت : المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك ، تقول : قاسمت فلانا حالفته ، وتقاسما تحالفا ، ومنه قوله تعالى : تقاسموا بالله لنبيتنه [النمل : 49] .

                                                                                                                                                                                                قلت : كأنه قال لهما : أقسم لكما إني لمن الناصحين ، وقالا له : أتقسم بالله إنك لمن الناصحين؟ فجعل ذلك مقاسمة بينهم ، أو أقسم لهما بالنصحية ، وأقسما له بقبولها ، أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة ، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم ، " فدلاهما " فنزلهما إلى الأكل من الشجرة ، " بغرور " : بما غرهما به من القسم بالله ، وعن قتادة : وإنما يخدع المؤمن بالله ، وعن ابن عمر - رضي الله عنه - : أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه ، فكان عبيده يفعلون ذلك ; طلبا للعتق ، فقيل له : إنهم يخدعونك ، فقال : [ ص: 433 ] من خدعنا بالله انخدعنا له فلما ذاقا الشجرة : وجدا طعمها آخذين في الأكل منها ، وقيل : "الشجرة" هي "السنبلة" ، وقيل : "شجرة الكرم" بدت لهما سوآتهما أي : تهافت عنهما اللباس ، فظهرت لهما عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ، ولا أحدهما من الآخر ، وعن عائشة - رضي الله عنها - : ما رأيت منه ، ولا رأى مني .

                                                                                                                                                                                                وعن سعيد بن جبير : كان لباسهما من جنس الأظفار .

                                                                                                                                                                                                وعن وهب : كان لباسهما نورا يحول بينهما وبين النظر ، ويقال : طفق بفعل كذا ، [ ص: 434 ] بمعنى : جعل يفعل كذا ، وقرأ أبو السمال : و “ طفقا" بالفتح يخصفان : ورقة فوق ورقة على عوراتهما ليستترا بها ، كما يخصف النمل ، بأن تجعل طرقة على طرقة ، وتوثق بالسيور ، وقرأ الحسن : "يخصفان" ، بكسر الخاء وتشديد الصاد ، وأصله "يختصفان" ، وقرأ الزهري : "يخصفان" ، من أخصف ، وهو منقول من خصف ، أي : يخصفان أنفسهما ، وقرئ : "يخصفان" ، من خصف بالتشديد من ورق الجنة : قيل : كان ورق التين ألم أنهكما : عتاب من الله - تعالى - وتوبيخ ، وتنبيه على الخطأ ; حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس ، وروي : أنه قال لآدم : "ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟" فقال : بلى وعزتك ، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا . قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كدا ، فأهبط وعلم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث فحرث ، وسقى ، وحصد ، وداس ، وذرى ، وطحن ، وعجن ، وخبز .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية