الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات : شروع في تحقيق أن هدى الله هو ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد؛ والإسلام؛ الذي هو ملة إبراهيم - عليه السلام -؛ وأن ما عليه أهل الكتابين أهواء زائغة؛ وأن ما يدعونه من أنهم على ملته - عليه الصلاة والسلام - فرية بلا مرية؛ ببيان ما صدر عن إبراهيم؛ وأبنائه الأنبياء - عليهم السلام -؛ من الأقاويل؛ والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيد؛ والإسلام؛ وبطلان الشرك؛ وبصحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وبكونه ذلك النبي الذي استدعاه إبراهيم؛ وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام -؛ بقولهما: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ؛ الآية.. فـ "إذ" منصوب على المفعولية بمضمر مقدم؛ خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق التلوين؛ أي: واذكر لهم وقت ابتلائه - عليه السلام -؛ ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد؛ الوازعة عن الشرك؛ فيقبلوا الحق؛ ويتركوا ما هم فيه من الباطل. وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت؛ دون ما وقع فيه من الحوادث؛ مع أنها المقصودة بالذات؛ قد مر وجهه في أثناء تفسير قوله - عز وجل -: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ؛ وقيل: على الظرفية؛ بمضمر مؤخر؛ أي: وإذ ابتلاه كان كيت وكيت؛ وقيل: بما سيجيء من قوله (تعالى): قال ؛ إلخ.. والأول هو اللائق بجزالة التنزيل؛ ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على "اذكروا"؛ خوطب به بنو إسرائيل؛ ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم؛ وأبنائه - عليهم السلام -؛ من الأفعال؛ والأقوال؛ فيقتدوا بهم؛ ويسيروا سيرتهم. والابتلاء؛ في الأصل: الاختبار؛ أي: تطلب الخبرة بحال المختبر؛ بتعريضه لأمر يشق عليه غالبا فعله؛ أو تركه؛ وذلك إنما يتصور حقيقة ممن لا وقوف له على عواقب الأمور؛ وأما من العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا؛ من تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين؛ قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية؛ كمن يختبر عبده ليتعرف حاله من الكياسة؛ فيأمره بما يليق بحاله من مصالحه. و"إبراهيم": اسم أعجمي؛ قال السهيلي: كثيرا ما يقع الاتفاق؛ أو التقارب بين [ ص: 155 ] السرياني؛ والعربي؛ ألا يرى أن "إبراهيم" تفسيره: أب راحم؛ ولذلك جعل هو وزوجته سارة كافلين لأطفال المؤمنين؛ الذين يموتون صغارا؛ إلى يوم القيامة؛ على ما روى البخاري؛ في حديث الرؤيا؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في الروضة إبراهيم - عليه السلام - وحوله أولاد الناس. وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره؛ والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له - عليه السلام -؛ وإيذان بأن ذلك الابتلاء تربية له؛ وترشيح لأمر خطير؛ والمعنى: عامله - سبحانه - معاملة المختبر؛ حيث كلفه أوامر ونواهي يظهر بحسن قيامه بحقوقها قدرته على الخروج عن عهدة الإمامة العظمى؛ وتحمل أعباء الرسالة. وهذه المعاملة وتذكيرها للناس لإرشادهم إلى طريق إتقان الأمور؛ ببنائها على التجربة؛ وللإيذان بأن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا مبنية على تلك القاعدة الرصينة؛ واقعة بعد ظهور استحقاقه - عليه السلام - للنبوة العامة؛ كيف لا.. وهي التي أجيب بها دعوة إبراهيم - عليه السلام -؛ كما سيأتي؛ واختلف في الكلمات؛ فقال مجاهد: هي المذكورة بعدها؛ ورد بأنه يأباه الفاء في "فأتمهن"؛ ثم الاستئناف؛ وقال طاوس: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: هي عشر خصال؛ كانت فرضا في شرعه؛ وهن سنة في شرعنا: خمس في الرأس: المضمضة؛ والاستنشاق؛ وفرق الرأس؛ وقص الشارب؛ والسواك؛ وخمس في البدن: الختان؛ وحلق العانة؛ ونتف الإبط؛ وتقليم الأظفار؛ والاستنجاء بالماء. وفي الخبر أن إبراهيم - عليه السلام - أول من قص الشارب؛ وأول من اختتن؛ وأول من قلم الأظفار؛ وقال عكرمة: عن ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين؛ فأقامه كله؛ إلا إبراهيم؛ ابتلاه الله (تعالى) بثلاثين خصلة من خصال الإسلام؛ عشر منها في سورة "براءة": التائبون ؛ إلخ.. وعشر في "الأحزاب": إن المسلمين والمسلمات ؛ إلخ.. وعشر في "المؤمنون": و"سأل سائل"؛ إلى قوله - عز وجل -: والذين هم على صلاتهم يحافظون . وقيل: ابتلاه الله - سبحانه - بسبعة أشياء؛ بالشمس؛ والقمر؛ والنجوم؛ والاختتان على الكبر؛ والنار؛ وذبح الولد؛ والهجرة؛ فوفى بالكل؛ وقيل: هن محاجته قومه؛ والصلاة؛ والزكاة؛ والصوم؛ والضيافة؛ والصبر عليها؛ وقيل: هي مناسك؛ كالطواف؛ والسعي؛ والرمي؛ والإحرام؛ والتعريف؛ وغيرهن؛ وقيل: هي قوله - عليه السلام -: الذي خلقني فهو يهدين .. الآيات؛ ثم قيل: إنما وقع هذا الابتلاء قبل النبوة؛ وهو الظاهر؛ وقيل: بعدها؛ لأنه يقتضي سابقة الوحي؛ وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق؛ وقرئ برفع "إبراهيم"؛ ونصب "ربه"؛ أي: دعاه بكلمات من الدعاء؛ فعل المختبر هل يجيبه إليهن؛ أو لا؛ فأتمهن ؛ أي: قام بهن حق القيام؛ وأداهن أحسن التأدية؛ من غير تفريط؛ وتوان؛ كما في قوله (تعالى): وإبراهيم الذي وفى ؛ وعلى القراءة الأخيرة: فأعطاه الله (تعالى) ما سأله من غير نقص؛ ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه بقوله: رب اجعل .. الآيات.. وقوله - عز وجل -: قال : على تقدير انتصاب "إذ" بمضمر: جملة مستأنفة؛ وقعت جوابا عن سؤال؛ نشأ من الكلام؛ فإن الابتلاء تمهيد لأمر معظم؛ وظهور فضيلة المبتلى من دواعي الإحسان إليه؛ فبعد حكايتهما تترقب النفس إلى ما وقع بعدهما؛ كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال إني جاعلك للناس إماما ؛ أو بيان لقوله (تعالى): ابتلى ؛ على رأي من جعل الكلمات عبارة عما ذكر أثره؛ من الإمامة؛ وتطهير البيت؛ ورفع قواعده؛ وغير ذلك؛ وعلى تقدير انتصاب "إذ" بـ "قال"؛ فالجملة معطوفة على ما قبلها؛ عطف القصة على القصة؛ والواو في المعنى داخلة على "قال"؛ أي: "وقال ابتلى".. إلخ.. والجعل: بمعنى التصيير؛ أحد مفعوليه الضمير؛ والثاني: "إماما"؛ واسم الفاعل بمعنى المضارع؛ وأوكد منه لدلالته على أنه جاعل [ ص: 156 ]

                                                                                                                                                                                                                                      له البتة؛ من غير صارف يلويه؛ ولا عاطف يثنيه؛ و"للناس": متعلق بـ "جاعلك"؛ أي: لأجل الناس؛ أو بمحذوف وقع حالا من "إماما"؛ إذ لو تأخر عنه لكان صفة له؛ والإمام: اسم لمن يؤتم به؛ وكل نبي إمام لأمته؛ وإمامته - عليه السلام - عامة؛ مؤبدة؛ إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته؛ مأمورا باتباع ملته.

                                                                                                                                                                                                                                      قال : استئناف مبني على سؤال مقدر؛ كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم - عليه السلام - عنده؟ فقيل قال ومن ذريتي : عطف على الكاف؛ و"من": تبعيضية متعلقة بـ "جاعل"؛ أي: وجاعل بعض ذريتي؟ كما تقول: وزيدا؟ لمن يقول: "سأكرمك"؛ أو بمحذوف؛ أي: واجعل فريقا من ذريتي إماما؛ وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامة الكل؛ وإن كانوا على الحق؛ وقيل: التقدير: وماذا يكون من ذريتي؟ والذرية: نسل الرجل؛ "فعولة" من "ذروت"؛ أو "ذريت"؛ والأصل: "ذرووة"؛ أو: "ذروية"؛ فاجتمع في الأولى واوان؛ زائدة؛ وأصلية؛ فقلبت الأصلية ياء؛ فصارت كالثانية؛ فاجتمعت واو وياء؛ وسبقت إحداهما بالسكون؛ فقلبت الواو ياء؛ وأدغمت الياء في الياء؛ فصارت "ذرية"؛ أو "فعيلة"؛ منهما؛ والأصل في الأولى "ذريوة"؛ فقلبت الواو ياء لما سبق؛ من اجتماعهما؛ وسبق إحداهما بالسكون؛ فصارت "ذريية" كالثانية؛ فأدغمت الياء في مثلها؛ فصارت "ذرية" أو "فعيلة" من "الذرء"؛ بمعنى "الخلق"؛ والأصل "ذريئة"؛ فخففت الهمزة بإبدالها ياء؛ كهمزة "خطيئة"؛ ثم أدغمت الياء الزائدة في المبدلة؛ أو "فعيلة"؛ من "الذر"؛ بمعنى "التفريق"؛ والأصل: "ذريرة"؛ قلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال؛ كما في "تسري"؛ و"تقضي"؛ و"تظني"؛ فأدغمت الياء في الياء؛ كما مر؛ أو "فعولة" منه؛ والأصل: "ذرورة"؛ فقلبت الراء الأخيرة ياء؛ فجاء الإدغام؛ وقرئ بكسر الذال؛ وهي لغة فيها؛ وقرأ أبو جعفر المدني؛ بالفتح؛ وهي أيضا لغة فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      قال : استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن؛ كما سبق؛ لا ينال عهدي الظالمين : ليس هذا ردا لدعوته - عليه السلام -؛ بل إجابة خفية لها؛ وعدة إجمالية منه (تعالى) بتشريف بعض ذريته - عليه السلام - بنيل عهد الإمامة؛ حسبما وقع في استدعائه - عليه السلام - من غير تعيين لهم بوصف مميز لهم عن جميع من عداهم؛ فإن التنصيص على حرمان الظالمين منه بمعزل من ذلك التمييز؛ إذ ليس معناه أنه ينال كل من ليس بظالم منهم؛ ضرورة استحالة ذلك؛ كما أشير إليه؛ ولعل إيثار هذه الطريقة على تعيين الجامعين لمبادئ الإمامة من ذريته إجمالا؛ أو تفصيلا؛ وإرسال الباقين؛ لئلا ينتظم المقتدون بالأئمة من الأمة في سلك المحرومين؛ وفي تفصيل كل فرقة من الإطناب ما لا يخفى؛ مع ما في هذه الطريقة من تخييب الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة؛ وقطع أطماعهم الفارغة من نيلها؛ وإنما أوثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء - عليهم السلام - من ذريته - عليه السلام - كإسماعيل؛ وإسحاق؛ ويعقوب؛ ويوسف؛ وموسى؛ وهارون؛ وداود؛ وسليمان؛ وأيوب؛ ويونس؛ وزكريا؛ ويحيى؛ وعيسى؛ وسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا -؛ ليست بجعل مستقل؛ بل هي حاصلة في ضمن إمامة إبراهيم - عليه السلام - تنال كلا منهم في وقت قدره الله - عز وجل -؛ وقرئ: "الظالمون"؛ على أن "عهدي" مفعول قدم على الفاعل اهتماما؛ ورعاية للفواصل؛ وفيه دليل على عصمة الأنبياء - عليهم السلام - من الكبائر؛ على الإطلاق؛ وعدم صلاحية الظالم للإمامة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية