الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون .

                                                                                                                                                                                                                                      وآمنوا بما أنزلت : أفرد الإيمان بالقرآن بالأمر به؛ لما أنه العمدة القصوى في شأن الوفاء بالعهود. مصدقا لما معكم : من التوراة؛ والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها؛ فإن المعية مئنة لتكرر المراجعة إليها؛ والوقوف على ما في تضاعيفها؛ المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها؛ ومعنى تصديقه للتوراة أنه نازل حسبما نعت فيها؛ أو من حيث إنه موافق لها في القصص؛ والمواعيد؛ والدعوة إلى التوحيد؛ والعدل بين الناس؛ والنهي عن المعاصي والفواحش؛ وأما ما يتراءى من مخالفته لها في بعض جزئيات الأحكام المتفاوتة بسبب تفاوت الأعصار؛ فليست بمخالفة في الحقيقة؛ بل هي موافقة لها من حيث إن كلا منها حق؛ بالإضافة إلى عصره وزمانه؛ متضمن للحكم التي عليها يدور فلك التشريع؛ وليس في التوراة دلالة على أبدية أحكامها المنسوخة؛ حتى يخالفها ما ينسخها؛ وإنما تدل على مشروعيتها مطلقا من غير تعرض لبقائها وزوالها؛ بل نقول: هي ناطقة بنسخ تلك الأحكام؛ فإن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها؛ فإذن مناط المخالفة في الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر؛ حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر؛ ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا؛ ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام -: "لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي"؛ وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر؛ فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تكونوا أول كافر به : أي: لا تسارعوا إلى الكفر به؛ فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به؛ لما أنكم تعرفون شأنه؛ وحقيته؛ بطريق التلقي؛ مما معكم من الكتب الإلهية؛ كما تعرفون أبناءكم؛ وقد كنتم تستفتحون به وتبشرون [ ص: 96 ]

                                                                                                                                                                                                                                      بزمانه؛ كما سيجيء؛ فلا تضعوا موضع ما يتوقع منكم؛ ويجب عليكم ما لا يتوهم صدوره عنكم؛ من كونكم أول كافر به؛ ووقوع "أول كافر به" خبرا من ضمير الجمع بتأويل: "أول فريق" أو "فوج"؛ أو بتأويل: "لا يكن كل واحد منكم أول كافر به"؛ كقولك: "كسانا حلة". ونهيهم عن التقدم في الكفر به - مع أن مشركي العرب أقدم منهم - لما أن المراد به التعريض؛ لا الدلالة على ما نطق به الظاهر؛ كقولك: "أما أنا فلست بجاهل"؛ لأن المراد نهيهم عن كونهم أول كافر من أهل الكتاب؛ أو ممن كفر بما عنده؛ فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه؛ أو مثل من كفر من مشركي مكة؛ و"أول": "أفعل"؛ لا فعل له؛ وقيل: أصله "أوأل"؛ من "وأل إليه"؛ إذا نجا وخلص؛ فأبدلت الهمزة واوا تخفيفا غير قياسي؛ أو "أأول"؛ من "آل"؛ فقلبت همزته واوا؛ وأدغمت.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تشتروا بآياتي : أي لا تأخذوا لأنفسكم بدلا منها؛ ثمنا قليلا ؛ من الحظوظ الدنيوية؛ فإنها وإن جلت قليلة؛ مسترذلة بالنسبة إلى ما فات عنهم من حظوظ الآخرة؛ بترك الإيمان؛ قيل: كانت لهم رياسة في قومهم؛ ورسوم؛ وهدايا؛ فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فاختاروها على الإيمان؛ وإنما عبر عن المشترى - الذي هو العمدة في عقود المعاوضة؛ والمقصود فيها - بالثمن؛ الذي شأنه أن يكون وسيلة فيها؛ وقرنت الآيات التي حقها أن يتنافس فيها المتنافسون بالباء التي تصحب الوسائل؛ إيذانا بتعكيسهم حيث جعلوا ما هو المقصد الأصلي وسيلة؛ والوسيلة مقصدا.

                                                                                                                                                                                                                                      وإياي فاتقون : بالإيمان؛ واتباع الحق؛ والإعراض عن حطام الدنيا؛ ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية؛ فصلت بالرهبة؛ التي هي من مقدمات التقوى؛ أو لأن الخطاب بها لما عم العالم والمقلد أمر فيها بالرهبة؛ المتناولة للفريقين؛ وأما الخطاب بالثانية؛ فحيث خص بالعلماء؛ أمر فيها بالتقوى؛ الذي هو المنتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية