الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى [ ص: 3269 ] طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32) أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير (33) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (35)

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الشوط الأخير جولة جديدة في مجال القضية التي تعالجها السورة; فسياقة قصة النفر من الجن الذين استمعوا لهذا القرآن، فتنادوا بالإنصات، واطمأنت قلوبهم إلى الإيمان، وانصرفوا إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الله ويبشرونهم بالغفران والنجاة، ويحذرونهم الإعراض والضلال. سياقة الخبر في هذا المجال، بهذه الصورة، وتصوير مس القرآن لقلوب الجن هذا المس الذي يتمثل في قولهم: "أنصتوا" عند ما طرق أسماعهم، يتمثل فيما حكوه لقومهم عنه، وفيما دعوهم إليه. كل هذا من شأنه أن يحرك قلوب البشر، الذين جاء القرآن لهم في الأصل. وهو إيقاع مؤثر ولا شك، يلفت هذه القلوب لفتة عنيفة عميقة. وفي الوقت ذاته تجيء الإشارة إلى الصلة بين كتاب موسى وهذا القرآن على لسان الجن، فتعلن هذه الحقيقة التي يدركها الجن ويغفل عنها البشر. ولا يخفى ما في هذه اللفتة من إيحاء عميق متفق مع ما جاء في السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك ما يرد في كلام الجن من الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح، ودلالته على قدرة الله الظاهرة في خلق السماوات والأرض، الشاهدة بقدرته على الإحياء والبعث. وهي القضية التي يجادل فيها البشر وبها يجحدون.

                                                                                                                                                                                                                                      وبمناسبة البعث يعرض مشهدا من مشاهد القيامة ويوم يعرض الذين كفروا على النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الختام تجيء الوصية للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصبر عليهم وعدم الاستعجال لهم. وتركهم للأجل المرسوم. وهو قريب قريب كأنه ساعة من نهار.. للبلاغ.. قبل الهلاك!

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا. فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين. قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى، مصدقا لما بين يديه، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم. ومن لا يجب داعي [ ص: 3270 ] الله فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دونه أولياء، أولئك في ضلال مبين. أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومقالة النفر من الجن - مع خشوعهم عند سماع القرآن - تتضمن أسس الاعتقاد الكامل: تصديق الوحي. ووحدة العقيدة بين التوراة والقرآن. والاعتراف بالحق الذي يهدي إليه. والإيمان بالآخرة وما ينتهي إلى المغفرة وما ينتهي إلى العذاب من الأعمال. والإقرار بقوة الله وقدرته على الخلق وولايته وحده للعباد. والربط بين خلق الكون وإحياء الموتى.. وهي الأسس التي تتضمنها السورة كلها، والقضايا التي تعالجها في سائر أشواطها.. كلها جاءت على لسان النفر من الجن. من عالم آخر غير عالم الإنسان.

                                                                                                                                                                                                                                      ويحسن قبل أن نستعرض هذه المقالة أن نقول كلمة عن الجن وعن الحادثة..

                                                                                                                                                                                                                                      إن ذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكاية ما قالوا وما فعلوا.. هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجن، ولتقرير وقوع الحادث. ولتقرير أن الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق كما يلفظه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران، مستعدون للهدى وللضلال.. وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة; فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها الله - سبحانه - ثبوتا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكنا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني.

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا. ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار. نعرف منها القليل، ونجهل منها الكثير. وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار، وندرك بعض هذه القوى، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها. وتارة بصفاتها. وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا.

                                                                                                                                                                                                                                      ونحن ما نزال في أول الطريق. طريق المعرفة لهذا الكون، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا ويعيش أبناؤنا وأحفادنا، على ذرة من ذراته الصغيرة الصغيرة.. هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه!

                                                                                                                                                                                                                                      وما عرفناه اليوم - ونحن في أول الطريق - يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن. ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم لظنوه مجنونا، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا!

                                                                                                                                                                                                                                      ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية، المعدة للخلافة في هذه الأرض، ووفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سخره الله لنا ليكشف لنا عن أسراره، وليكون لنا ذلولا، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض.. ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها - مهما امتد بنا الأجل - أي بالبشرية - ومهما سخر لنا من قوى الكون وكشف لنا من أسراره - لا تتعدى تلك الدائرة. دائرة ما نحتاجه للخلافة في هذه الأرض. وفق حكمة الله وتقديره.

                                                                                                                                                                                                                                      وسنكشف كثيرا، وسنعرف كثيرا، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته، مما قد تعتبر أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة. وفي حدود قول الله - سبحانه - وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .. قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه. وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله: [ ص: 3271 ] ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ..

                                                                                                                                                                                                                                      فليس لنا - والحالة هذه - أن نجزم بوجود شيء أو نفيه. وبتصوره أو عدم تصوره من عالم الغيب المجهول، ومن أسرار هذا الوجود وقواه، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي أو تجاربنا المشهودة. ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها، فضلا على إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا!

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا. وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده، لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى، عن طريق كلامه - لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضا - فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم. نتلقاها كما هي فلا نزيد عليها ولا ننقص منها. لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة. وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار!

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا النص القرآني، ومن نصوص سورة الجن، والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه، ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن، ومن الآثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث، نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن.. ولا زيادة..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقا اسمه الجن. مخلوق من النار. لقول إبليس في الحديث عن آدم: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .. وإبليس من الجن لقول الله تعالى: إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه .. فأصله من أصل الجن.

                                                                                                                                                                                                                                      وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر. منها خلقته من نار، ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس، لقوله تعالى عن إبليس - وهو من الجن - : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس. للقول السابق: إنه يراكم هو وقبيله ... .

                                                                                                                                                                                                                                      وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي - لا ندري أين - لقوله تعالى: لآدم وإبليس معا: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ..

                                                                                                                                                                                                                                      والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم - غير عباد الله - للنصوص السابقة، ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعين: قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين .. وغير هذا من النصوص المماثلة. ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجن: وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون. فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا .. وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهم [ ص: 3272 ] إلى الإيمان، بعد ما وجدوه في نفوسهم، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو القدر المستيقن في أمر الجن، وهو حسبنا، بلا زيادة عليه ليس عليها من دليل.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الحادث الذي تشير إليه هذه الآيات، كما تشير إليه سورة الجن كلها على الأرجح، فقد وردت فيه روايات متعددة نثبت أصحها:

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج البخاري - بإسناده - عن مسدد، ومسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة. وروى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة وقال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل القاضي، أخبرنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن ولا رآهم. انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك حين رجعوا إلى قومهم: وقالوا: يا قومنا "إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا".. وأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - : "قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن".. وإنما أوحي إليه قول الجن.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي - بإسناده - عن علقمة، قال: قلت لابن مسعود - رضي الله عنه - هل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - منكم أحد ليلة الجن؟ قال: ما صحبه أحد منا ولكنا كنا معه ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير، أو اغتيل. فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا فإذا هو جاء من قبل حراء. فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: "أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن". قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم". فقال - صلى الله عليه وسلم - "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم"..

                                                                                                                                                                                                                                      وقال: ساق ابن إسحاق - فيما رواه ابن هشام في السيرة - خبر النفر من الجن بعد خبر خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، بعد موت عمه أبي طالب، واشتداد الأذى عليه وعلى المسلمين في مكة. ورد ثقيف له ردا قبيحا، وإغرائهم السفهاء والأطفال به، حتى أدموا قدميه - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة. فتوجه إلى ربه بذلك الابتهال المؤثر العميق الكريم: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى. ولا حول ولا قوة إلا بك".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3273 ] قال: ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حين يئس من خير ثقيف. حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى. وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن نصيبين. فاستمعوا له. فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين. قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه - صلى الله عليه وسلم - قال الله عز وجل: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله تعالى: ويجركم من عذاب أليم .. وقال تعالى: قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن
                                                                                                                                                                                                                                      إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعقب ابن كثير في التفسير على رواية ابن إسحاق بقوله: "وهذا صحيح. ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور، وخروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف كان بعد موت عمه. وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره. والله أعلم".

                                                                                                                                                                                                                                      وهناك روايات أخرى كثيرة. ونحن نعتمد من جميع هذه الروايات الرواية الأولى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - لأنها هي التي تتفق تماما مع النصوص القرآنية: قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن .. وهي قاطعة في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما علم بالحادث عن طريق الوحي، وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم. ثم إن هذه الرواية هي الأقوى من ناحية الإسناد والتخريج. وتتفق معها في هذه النقطة رواية ابن إسحاق. كما يقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا غناء في تحقيق الحادث.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية