الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 906 ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا .وأضل عن سواء السبيل وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات [ ص: 907 ] النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون

                                                                                                                                                                                                                                      نصوص هذا الدرس كله تؤيد ما ذهبنا إليه في تقديم السورة ، من أن هذه السورة لم تنزل كلها بعد سورة الفتح التي نزلت في الحديبية في العام السادس الهجري ; وأن مقاطع كثيرة فيها يرجح أن تكون قد نزلت قبل ذلك ; وقبل إجلاء بني قريظة في العام الرابع - عام الأحزاب - على الأقل ، إن لم يكن قبل هذا التاريخ أيضا . . قبل إجلاء بني النضير بعد أحد ، وبني قينقاع بعد بدر . .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه النصوص تشير إلى أحداث ، وإلى حالات واقعة في الجماعة المسلمة بالمدينة ، وإلى ملابسات ومواقف لليهود وللمنافقين ، لا تكون أبدا بعد كسر شوكة اليهود ; وآخرها كان في وقعة بني قريظة .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا النص عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء . وهذا التحذير - بل التهديد - بأن من يتولهم فهو منهم . وهذه الإشارة إلى أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم ، ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر . وتنفير المسلمين من الولاء لمن يتخذون دينهم هزوا ولعبا ، والإشارة إلى أن هؤلاء يتخذون صلاة المسلمين - إذا قام المسلمون إلى الصلاة - هزوا ولعبا . . . كل أولئك لا يكون إلا ولليهود في المدينة من القوة والنفوذ والتمكن ، ما يجعل من الممكن أن تقوم هذه الملابسات ، وأن تقع هذه الحوادث ; وأن يحتاج الأمر إلى هذا التحذير المشدد ، وإلى هذا التهديد المكرر ، ثم إلى بيان حقيقة اليهود ، والتشهير بهم والتنديد ، وإلى كشف كيدهم ومناوراتهم ومداوراتهم على هذا النحو ، المنوع الأساليب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكرت بعض الروايات أسبابا لنزول آيات في هذا الدرس ; ويرجع بعضها إلى حادث بني قينقاع بعد غزوة بدر . وموقف عبد الله بن أبى بن سلول . وقوله في ولائه لليهود وولاء اليهود له : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي !

                                                                                                                                                                                                                                      وحتى بدون هذه الروايات ، فإن الدراسة الموضوعية لطبيعة النصوص وجوها ، ومراجعتها على أحداث السيرة ومراحلها وأطوارها في المدينة ، تكفي لترجيح ما ذهبنا إليه في تقديم السورة عن الفترة التي نزلت فيها . .

                                                                                                                                                                                                                                      وتشير نصوص هذا الدرس إلى طريقة المنهج القرآني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها لدورها الذي قدره الله لها ; كما تشير إلى مقومات هذا المنهج والمبادئ التي يريد تقريرها في النفس المسلمة وفي الجماعة المسلمة في كل حين . وهي مقومات ومبادئ ثابتة ، ليست خاصة بجيل من هذه الأمة دون جيل . إنما هي أساس النشأة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة في كل جيل . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا القرآن يربي الفرد المسلم على أساس إخلاص ولائه لربه ورسوله وعقيدته وجماعته المسلمة ، وعلى ضرورة المفاصلة الكاملة بين الصف الذي يقف فيه وكل صف آخر لا يرفع راية الله ، ولا يتبع قيادة رسول الله ; ولا ينضم إلى الجماعة التي تمثل حزب الله . وإشعاره أنه موضع اختيار الله ، ليكون ستارا لقدرته ، وأداة لتحقيق قدره في حياة البشر وفي وقائع التاريخ . وأن هذا الاختيار - بكل تكاليفه - فضل من الله يؤتيه [ ص: 908 ] من يشاء . وأن موالاة غير الجماعة المسلمة معناه الارتداد عن دين الله ، والنكول عن هذا الاختيار العظيم ، والتخلي عن هذا التفضيل الجميل . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا التوجيه واضح في النصوص الكثيرة في هذا الدرس .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية