الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره. وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيرا. وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها، وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا. سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا .

                                                                                                                                                                                                                                      يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين.

                                                                                                                                                                                                                                      لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى.. منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم. ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله. ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء..

                                                                                                                                                                                                                                      والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها، ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا. وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات، دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله.

                                                                                                                                                                                                                                      هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما. محاولة إغرائهم لينحرفوا - ولو قليلا - عن استقامة الدعوة وصلابتها. ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة. ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها!

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق. وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة. لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!

                                                                                                                                                                                                                                      والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها. فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان. فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر. وليس فيها فاضل ومفضول. وليس فيها ضروري ونافلة. وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه. كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره!

                                                                                                                                                                                                                                      وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات. فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها!

                                                                                                                                                                                                                                      والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها; هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة. والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم. ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة، فلن تنقلب الهزيمة نصرا!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2246 ] لذلك امتن الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن ثبته على ما أوحى الله، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه الركون إليهم - ولو قليلا - ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفا، وفقدان المعين والنصير.

                                                                                                                                                                                                                                      وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض - أي مكة - ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة. ولو أخرجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا فهذه هي سنة الله النافذة: سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول، لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم. وهذا الكون تصرفه سنن مطردة، لا تتحول أمام اعتبار فردي. وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون، إنما هي السنن المطردة الثابتة. فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل، لحكمة علوية، لم يرسل الرسول بالخوارق، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة، بل أوحى إليه بالهجرة. ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول..

                                                                                                                                                                                                                                      بعد ذلك يوجه الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الاتصال به، واستمداد العون منه، والمضي في طريقه، يعلن انتصار الحق وزهوق الباطل:

                                                                                                                                                                                                                                      أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا. وقل: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا. وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ودلوك الشمس هو ميلها إلى المغيب. والأمر هنا للرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة. أما الصلاة المكتوبة فلها أوقاتها التي تواترت بها أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتواترت بها سنته العملية. وقد فسر بعضهم دلوك الشمس بزوالها عن كبد السماء، والغسق بأول الليل، وفسر قرآن الفجر بصلاة الفجر، وأخذ من هذا أوقات الصلاة المكتوبة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء - من دلوك الشمس إلى الغسق - ثم الفجر. وجعل التهجد وحده هو الذي اختص رسول الله بأن يكون مأمورا به، وأنه نافلة له. ونحن نميل إلى الرأي الأول. وهو أن كل ما ورد في هذه الآيات مختص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابتة بالسنة القولية والعملية.

                                                                                                                                                                                                                                      أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل .. أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل وظلامه; واقرأ قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا .. ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال الليل. وإدبار الليل وإقبال النهار. ولهما وقعهما العميق في النفس، فإن مقدم الليل وزحف الظلام، كمطلع النور وانكشاف الظلمة.. كلاهما يخشع فيه القلب، وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة. وللقرآن - كما للصلاة - إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته، ونسماته الرخية، وهدوئه السارب، وتفتحه بالنور، ونبضه بالحركة، وتنفسه بالحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2247 ] ومن الليل فتهجد به نافلة لك .. والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل. والضمير في "به" عائد على القرآن، لأنه روح الصلاة وقوامها.

                                                                                                                                                                                                                                      عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا .. بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد به، وبهذه الصلة الدائمة بالله. فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به ، وهو المصطفى المختار، فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم. فهذا هو الطريق. وهذا هو زاد الطريق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقل: رب أدخلني مدخل صدق. وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به. ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه إليه. دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها. بدئها وختامها. أولها وآخرها وما بين الأول والآخر. وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزل الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص. واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين وكلمة من لدنك تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه.

                                                                                                                                                                                                                                      وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله. ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله. لا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله. والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه، فيصبحون لها جندا وخدما فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقل: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ..

                                                                                                                                                                                                                                      بهذا السلطان المستمد من الله، أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته، وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه. فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الباطل كان زهوقا .. حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد. وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة. فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة; ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد; بينما الجمرة الذاكية تدفئ وتنفع وتبقى; وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الباطل كان زهوقا .. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية; فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار. فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده. وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان.. ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء، لأنه من عند الله الذي جعل الحق من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الباطل كان زهوقا .. ومن ورائه الشيطان، ومن ورائه السلطان. ولكن وعد الله أصدق، وسلطان [ ص: 2248 ] الله أقوى. وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد، وصدق العهد. ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثا؟

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية