الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      مطلع فريد في القرآن كله. الجديد فيه كلمة "فرضناها" والمقصود بها - فيما نعلم - توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء. ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات. هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة، والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات، فتذكرهم بها تلك الآيات البينات، وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين.

                                                                                                                                                                                                                                      ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا; وتفظيع هذه الفعلة، التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات:

                                                                                                                                                                                                                                      الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساء: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا .. فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير. وكان حد الرجل الأذى بالتعبير.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور. فكان هذا هو "السبيل" الذي أشارت إليه من قبل آية النساء.

                                                                                                                                                                                                                                      والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء. وهو الذي لم يحصن بالزواج. ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا. فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت الرجم بالسنة. وثبت الجلد بالقرآن. ولما كان النص القرآني مجملا وعاما. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رجم الزانيين المحصنين، فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن.

                                                                                                                                                                                                                                      وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن. والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم. كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده. وحول حد الزاني غير الحر.. وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا، يطلب في موضعه من كتب الفقه.. إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع. فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد، وعقوبة المحصن هي الرجم. ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح - وهو مسلم حر بالغ - قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه، فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها، فهو جدير بتشديد العقوبة، بخلاف البكر الغفل الغر، الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير.. وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل. فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر. فهو حري بعقوبة كذلك أشد.

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده - كما سلف - فيشدد في الأخذ به، دون تسامح ولا هوادة:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2488 ] الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                      فهي الصرامة في إقامة الحد; وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما، وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته، تراخيا في دين الله وحقه. وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين، فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها، فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة:

                                                                                                                                                                                                                                      الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك. وحرم ذلك على المؤمنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون. إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان. وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة; لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز. حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة، وبين عفيف وزانية; إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر. وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية، ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني; واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد: وحرم ذلك على المؤمنين .. وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة.

                                                                                                                                                                                                                                      ورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلا يقال له: مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق . وكانت صديقة له. وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله. قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة. قال: فجاءت عناق ، فأبصرت سواد ظل تحت الحائط. فلما انتهت إلي عرفتني. فقالت: مرثد ؟ فقلت: مرثد ! فقالت: مرحبا وأهلا. هلم فبت عندنا الليلة: قال: فقلت: يا عناق حرم الله الزنا. فقالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم. قال: فتبعني ثمانية، ودخلت الحديقة. فانتهيت إلى غار أو كهف، فدخلت، فجاءوا حتى قاموا على رأسي، فبالوا، فظل بولهم على رأسي، فأعماهم الله عني. قال: ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته; وكان رجلا ثقيلا; حتى انتهيت إلى الإذخر ; ففككت عنه أحبله، فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ; فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا ؟ - مرتين - فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد علي شيئا حتى نزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا مرثد . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة. فلا تنكحها".

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب، ونكاح المؤمنة للزاني كذلك. وهو ما أخذ به الإمام أحمد. ورأى غيره غير رأيه. والمسألة خلافية تطلب في كتب الفقه. وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة; وتقطع ما بينه وبينها من روابط. وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2489 ] والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها. فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول، ولا خير لهم في كبتها أو قتلها. ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم، وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر، يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة، وعمارة الأرض، التي استخلف فيها هذا الإنسان.

                                                                                                                                                                                                                                      إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد، أو لا تهدف إلى إقامة بيت، وبناء عش، وإنشاء حياة مشتركة، لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين، وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان.

                                                                                                                                                                                                                                      من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية، تذهب بكل هذه المعاني، وتطيح بكل هذه الأهداف; وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا، لا يفرق بين أنثى وأنثى، ولا بين ذكر وذكر. مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة. فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة، وليس وراءها عمارة في الأرض، وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية، لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار. وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع، الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها، وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان!

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها; إنما ينظمها ويطهرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية. فأما الزنا - وبخاصة البغاء - فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية، والأشواق العلوية; ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل; ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان، بل أشد غلظا من الحيوان. ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة، في حياة زوجية منظمة، بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا - وبخاصة البغاء - في بعض بيئات الإنسان!

                                                                                                                                                                                                                                      دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا.. ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة، من اختلاط الأنساب، وإثارة الأحقاد، وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة.. وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة. ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية، ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس، والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد.. هذا السبب هو الأهم في اعتقادي. وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل، ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها. فالإسلام منهج حياة متكامل، لا يقوم على العقوبة; إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة. ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق..

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 2490 ] "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل. أو اعترافا لا شبهة في صحته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا، لأنها غير قابلة للتطبيق. ولكن الإسلام - كما ذكرنا - لا يقيم بناءه على العقوبة، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة; وعلى تهذيب النفوس، وتطهير الضمائر; وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب، فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة. ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة، الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود. أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية . وقد جاء كل منهما يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطهره بالحد، ويلح في ذلك، على الرغم من إعراض النبي مرارا; حتى بلغ الإقرار أربع مرات. ولم يعد بد من إقامة الحد، لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" فإذا وقع اليقين، وبلغ الأمر إلى الحاكم، فقد وجب الحد ولا هوادة، ولا رأفة في دين الله. فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة، وعلى الآداب الإنسانية، وعلى الضمير البشري. وهي رأفة مصطنعة. فالله أرأف بعباده. وقد اختار لهم. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم. والله أعلم بمصالح العباد، وأعرف بطبائعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية; فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا، وتفسد فيها الفطرة، وترتكس في الحمأة، وتنتكس إلى درك البهيمة الأولى..

                                                                                                                                                                                                                                      والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة، وتطهير الجو الذي تعيش فيه. والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة - كما قلنا - إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة. ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة; فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد:

                                                                                                                                                                                                                                      والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا. وأولئك هم الفاسقون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء; ثم يمضي آمنا! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة; وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام; وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار.. وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث; [ ص: 2491 ] وأن الفعلة فيها شائعة; فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها!

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه; والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      لهذا، وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم.. شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا.. ثمانين جلدة.. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق.. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة; ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم.. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه. فيكون قوله إذن صحيحا. ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة.

                                                                                                                                                                                                                                      والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة. وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت.

                                                                                                                                                                                                                                      وتظل العقوبات التي توقع على القاذف، بعد الحد، مصلتة فوق رأسه، إلا أن يتوب:

                                                                                                                                                                                                                                      إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء: هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها، فيرفع عنه وصف الفسق، ويظل مردود الشهادة؟ أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة.. فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق. وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة. وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته، وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف; فحينئذ تقبل شهادته.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنا أختار هذا الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف. وبذلك يمحي آخر أثر للقذف. ولا يقال: إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة! ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما كان صحيحا; ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود.. بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما، ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية; فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك حكم القذف العام. ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته. فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات. والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه. لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص:

                                                                                                                                                                                                                                      والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم. فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2492 ] وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف. ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته; وليس له من شاهد إلا نفسه. فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وتسمى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد. فإذا فعل أعطاها قدر مهرها، وطلقت منه طلقة بائنة، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم.. ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به; وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة.. بذلك يدرأ عنها الحد، وتبين من زوجها بالملاعنة; ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها. ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير، ومراعاة الأحوال والظروف بقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأن الله تواب حكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات، وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب.. لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا، يتقيه المتقون. والنص يوحي بأنه شر عظيم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم:

                                                                                                                                                                                                                                      روى الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس قال: لما نزلت: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار - رضي الله عنه - : أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟" فقالوا: يا رسول الله لا تلمه، فإنه رجل غيور. والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته.. فقال سعد : والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق، وأنها من الله; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء. فو الله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته.. قال: فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية ، فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني.. فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به; واشتد عليه; واجتمعت عليه الأنصار وقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، إلا أن يضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلال بن أمية، ويبطل شهادته في الناس. فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله منها مخرجا. وقال هلال : يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به، والله يعلم إني لصادق.. فوالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي. وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه. (يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي) فنزلت: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله ... الآية. فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا"..

                                                                                                                                                                                                                                      فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أرسلوا إليها" فأرسلوا إليها فجاءت; فتلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهما، فذكرهما، وأخبرهما أن [ ص: 2493 ] عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا. فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت عليها. فقالت: كذب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لاعنوا بينهما".. فقيل لهلال : اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. فلما كانت الخامسة قيل له. يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب. فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها. فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.. ثم قيل للمرأة. اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. وقيل لها عند الخامسة: اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب. فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف. ثم قالت: والله لا أفضح قومي. فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.. ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما; وقضى أن لا يدعى ولدها لأب; ولا يرمى ولدها; ومن رمى ولدها فعليه الحد; وقضى أن لا بيت لها عليه، ولا قوت لها، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها. وقال: "إن جاءت به، أصيهب أريسح حمش الساقين فهو لهلال .. وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الإليتين فهو الذي رميت به".. فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"..


                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل، وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين قد اشتد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجد منه مخرجا، حتى طفق يقول لهلال بن أمية - كما ورد في رواية البخاري - "البينة أو حد في ظهرك" وهلال يقول: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد يقول قائل: أليس الله - سبحانه - يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف; فلماذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج؟

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب: بلى إنه سبحانه ليعلم. ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه، فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه، وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة. ومن ثم عقب عليه بقوله: ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقف قليلا أمام هذه الواقعة، لنرى كيف صنع الإسلام، وكيف صنعت تربية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس بهذا القرآن.. كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة الانفعال، المتحمسة التي لا تفكر [ ص: 2494 ] طويلا قبل الاندفاع. فهذا حكم ينزل بعقوبة القذف، فيشق على هذه النفوس. يشق عليها حتى ليسأل سعد بن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ يسأل هذا السؤال وهو مستيقن أنها هكذا أنزلت. ولكنه يعبر بهذا السؤال عن المشقة التي يجدها في نفسه من الخضوع لهذا الحكم في حالة معينة في فراشه. وهو يعبر عن مرارة هذا التصور بقوله: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق، وأنها من الله ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله إني لا آتي بهم حتى يكون قد قضى حاجته!

                                                                                                                                                                                                                                      وما يلبث هذا التصور المرير الذي لا يطيقه سعد بن عبادة في خياله.. ما يلبث أن يتحقق.. فهذا رجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن; فيغلب مشاعره، ويغلب وراثاته، ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق; ويكبح غليان دمه، وفوران شعوره، واندفاع أعصابه.. ويربط على هذا كله في انتظار حكم الله وحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جهد شاق مرهق; ولكن التربية الإسلامية أعدت النفوس لاحتماله كي لا يكون حكم إلا لله، في ذات الأنفس وفي شؤون الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      كيف أمكن أن يحدث هذا؟ لقد حدث لأنهم كانوا يحسون أن الله معهم، وأنهم في كنف الله، وأن الله يرعاهم، ولا يكلفهم عنتا ولا رهقا، ولا يتركهم عند ما يتجاوز الأمر طاقتهم، ولا يظلمهم أبدا. كانوا يعيشون دائما في ظل الله، يتنفسون من روح الله، ويتطلعون إليه دائما كما يتطلع الأطفال إلى العائل الكافل الرحيم.. فها هو ذا هلال بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، وهو وحده; فيشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناصا من تنفيذ حد الله، وهو يقول له: "البينة. أو حد في ظهرك" ولكن هلال بن أمية لا يتصور أن الله تاركه للحد، وهو صادق في دعواه. فإذا الله ينزل ذلك الاستثناء في حالة الأزواج; فيبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلالا به; فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل.. فهو الاطمئنان إلى رحمة الله ورعايته وعدله. والاطمئنان أكثر إلى أنه معهم، وأنهم ليسوا متروكين لأنفسهم; إنما هم في حضرته، وفي كفالته.. وهذا هو الإيمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم الله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية