الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع الآية (3) .

واختلفت أقاويل المفسرين في معناه:

[ ص: 311 ] فروى الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة -رضي الله عنها- في قول الله تعالى:

وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع قالت:

يا ابن أختي: هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.

قال عروة: قالت عائشة -رضي الله عنها-:

وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله:

وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء .. إلى قوله: وترغبون أن تنكحوهن .

قالت: والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي فيها: وإن خفتم ألا تقسطوا في ..

وقوله في الآية الأخرى: وترغبون أن تنكحوهن ، رغبة أحدكم عن يتيمته التي هي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء، إلا [ ص: 312 ] بالقسط من أجل رغبتهم عنهن،
وهذا ما أورده البخاري في صحيحه، وفيه دلالة على أن اليتيمة يجوز تزويجها.

وروي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع غير هذا التأويل، وهو أن معنى الآية: "كما خفتم في حق اليتامى فخافوا في حق النساء الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن".

وروي عن مجاهد: وإن خفتم ألا تقسطوا ، أي تحرجتم من أكل أموالهم، فتحرجوا من الزنا وانكحوا نكاحا طيبا مثنى وثلاث ورباع.

والمشكل أن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت هذه الآية في ذلك، وذلك لا يقال بالرأي وإنما يقال توقيفا، ولا يمكن أن يحمل على الجد، لأنه لا يجوز له نكاحها، فعلم أن المراد له ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء.

ويمكن أن يحمل على البالغة لأن عائشة رضي الله عنها قالت:

ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى:

ويستفتونك في النساء إلى قوله: في يتامى النساء .

[ ص: 313 ] والصغار لا يسمين نساء.

فإن قيل: قوله: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى حقيقة في الصغيرة بدليل قوله عليه السلام: "لا يتم بعد حلم"، واسم النساء يتناول الصغيرة في قوله:

فانكحوا ما طاب لكم من النساء .

ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء .

وأمهات نسائكم .

ويقال في الجواب عنه:

إن اسم النساء في قبيل الإناث، كاسم الرجال في قبيل الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فاسم النساء والمرأة لا يتناول الصغيرة والصغائر، وفي الإناث التي وقع الاستشهاد بها، يمكن أن يكون اللفظ لغير الصغيرة، ولكن يثبت مثل ذلك الحكم في الصغيرة بدلالة الإجماع.

وقول القائل: اسم اليتيم لا يتناول ما بعد البلوغ، فهو مسلم من حيث الحقيقة، غير أنه يطلق مجازا، بدليل أنه ذكر النساء، ولا يمكن تعطيل لفظ النساء الذي هو حقيقة في البالغات.

[ ص: 314 ] فإن قيل: فالبالغة يجوز التزوج بها بدون مهر المثل برضاها، فأي معنى لذلك الجواب؟

يقال: إن معناه أن يستضعفها الولي ويستولي على مالها، وهي لا تقدر على مقاومته، ولذلك قال:

إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان .

ولما ثبت أن المراد باليتيمة البالغة، ولم يكن في كتاب الله دلالة على جواز تزويج الصغيرة، لا جرم صار ابن شبرمة إلى أن تزويج الآباء للصغار لا يجوز، وهو مذهب الأصم، لأن نكاح الصغيرة يتخير بتفويت من غير تعجيل مصلحة، على ما قررناه في تصانيفنا في مسائل الخلاف، وإذا ثبت ذلك فلا يجوز ذلك تلقيا من القياس ولا توقيفا.

وقد قال قائلون: بل في كتاب الله ما يدل على جواز تزويج الصغيرة، فإن الله تعالى يقول:

واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن .

[ ص: 315 ] فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح، وهذا لا دافع له إلا أن يقال:

النكاح في حق الصغيرة، إن لم يتصور، فالوطء الموجب للعدة متصور، وليس في القرآن ذكر الطلاق في حق الصغيرة، إنما فيه ذكر العدة، والعدة تجب بالوطء، والوطء متصور في النكاح الفاسد، وعلى حكم الشبهة في حق الأمة تزوجها مولاها وهي صغيرة فتوطأ.

والاعتماد على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين، زوجها أبوها أبو بكر.

وربما لا يقولون: لا يحتج بما كان في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى الولاء.

وعماد كلامهم أن تزويج الصغيرة يتخير بتفويت في مقابلة نجح موهوم، ولا يتحقق ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يتوقع فوات مصلحة الصغيرة من نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد يقال في الجواب عن ذلك: إن المرأة ربما أرادت الدنيا بعد البلوغ، وأرادت التفرغ إلى نفسها ولم ترد زوجا فالتوقع قائم.

[ ص: 316 ] ويمكن أن يقال:

إن نكاح الصغيرة ليس بعيدا عن المصلحة، ولذلك اطردت به العادة واستمرت عليه العامة، فإن المقصود منه الألفة، فإذا ألفيت المرأة صغيرة لم تمارس الرجال ولم تعرف الهوى، ترسخت المودة بينهما، فقد قيل في المثل:


ما الحب إلا للحبيب الأول..



والشاعر يقول:


عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى     فصادف قلبا فارغا متمكنا



التالي السابق


الخدمات العلمية