الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 641 ] سئل شيخ الإسلام عمن يقول : إن بعض المشايخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل الملائكة ترقص معهم أو عليهم .

                وفيهم من يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر معهم .

                فماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد ؟ وما هي صفة رجال الغيب ؟ وهل يكون للتتار خفراء ولهم حال كحال خفراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب : وأما من زعم : أن الملائكة أو الأنبياء تحضر " سماع المكاء والتصدية " محبة ورغبة فيه فهو كاذب مفتر ; بل إنما تحضره الشياطين وهي التي تنزل عليهم وتنفخ فيهم .

                كما روى الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم { أن الشيطان قال : يا رب اجعل لي بيتا .

                قال : بيتك الحمام .

                قال اجعل لي قرآنا .

                قال : قرآنك الشعر .

                قال : يا رب اجعل لي مؤذنا .

                قال : مؤذنك المزمار
                } "

                وقد قال الله تعالى في كتابه مخاطبا للشيطان : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } وقد فسر ذلك طائفة من [ ص: 642 ] السلف بصوت الغناء وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله .

                وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت لهو ولعب ومزامير الشيطان وصوت لطم خدود أو شق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية } كقولهم : وا لهفاه وا كبداه وا نصيراه وقد كوشف جماعات من أهل المكاشفات بحضور الشياطين في مجامع السماعات الجاهلية : ذات المكاء والتصدية وكيف يكر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رءوس الحاضرين ورأى بعض المشايخ المكاشفين أن شيطانه قد احتمله حتى رقص به فلما صرخ بشيطانه هرب وسقط ذلك الرجل .

                وهذه الأمور لها أسرار وحقائق لا يشهدها ; إلا أهل البصائر الإيمانية والمشاهد الإيقانية ; ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة وأعرض عن سبيل المبتدعة فقد حصل له الهدى وخير الدنيا والآخرة .

                وإن لم يعرف حقائق الأمور بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي فإنه يصل إلى مقصوده ويجد الزاد والماء في موطنه وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه .

                ومن سلك خلف غير الدليل [ ص: 643 ] الهادي : كان ضالا عن الطريق .

                فإما أن يهلك وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق .

                و " الدليل الهادي " هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وهاديا إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض .

                وآثار الشيطان تظهر في أهل السماع الجاهلي : مثل الإزباد والإرغاء والصراخات المنكرة ونحو ذلك مما يضارع أهل الصرع الذين يصرعهم الشيطان ولذلك يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت : إما وجد في الهوى المذموم وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية التي تعتري أهل الاجتماع على شرب الخمر إذا سكروا بها ; فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه واتباعه فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله .

                ويوقع بينهم العداوة والبغضاء حتى يقتل بعضهم بعضا بأحواله الفاسدة الشيطانية .

                كما يقتل العائن من أصابه بعينه .

                ولهذا قال من قال من العلماء : إن هؤلاء يجب عليهم القود والدية [ ص: 644 ] والقصاص إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة ; لأنهم ظالمون وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من مراداتهم المحرمة .

                كما يغتبط الظلمة المسلطون .

                ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين والمبتدعين والظالمين فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة كما يكون للمشركين وأهل الكتاب وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية .

                أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة
                } " .

                وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة كما يكون لهم ملكة ظاهرة فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر ولا يكون من أولياء الله إلا من كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون .

                وما فعلوه من الإعانة على الظلم فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب وباب القدرة والتمكن باطنا وظاهرا ليس مستلزما لولاية الله تعالى بل قد يكون ولي الله متمكنا ذا سلطان وقد يكون مستضعفا إلى أن ينصره الله وقد يكون مسلطا إلى أن ينتقم الله منه فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر .

                هؤلاء في العباد بمنزلة هؤلاء في الأجناد .

                [ ص: 645 ] وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة كما يديل المؤمنين على الكافرين .

                كما كان يكون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع عدوهم لكن العاقبة للمتقين ; فإن الله يقول : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } .

                وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهرا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم ; إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنا وظاهرا وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنا وظاهرا .

                قال الله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } وقال تعالى : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقال تعالى : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .




                الخدمات العلمية