الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
[ ص: 37 ] وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن nindex.php?page=treesubj&link=29462رجلين تجادلا في " الأحرف التي أنزلها الله على آدم " فقال أحدهما إنها قديمة ليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث . فقال الآخر ليست بكلام الله وهي مخلوقة بشكلها ونقطها والقديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود منزل غير مخلوق ولكنه كتب بها . وسألا أيهما أصوب قولا وأصح اعتقادا ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . أصل هذه المسألة هو معرفة " كلام الله تعالى " . ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن nindex.php?page=treesubj&link=29453القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ليس ذلك [ ص: 38 ] مخلوقا منفصلا عنه وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته فكلامه قائم بذاته ليس مخلوقا بائنا عنه وهو يتكلم بمشيئته وقدرته لم يقل أحد من سلف الأمة إن كلام الله مخلوق بائن عنه ولا قال أحد منهم إن القرآن أو التوراة أو الإنجيل لازمة لذاته أزلا وأبدا وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته ولا قالوا إن نفس ندائه لموسى أو نفس الكلمة المعينة قديمة أزلية بل قالوا لم يزل الله متكلما إذا شاء فكلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء .
وهذا معنى قول السلف : منه بدأ قال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل رحمه الله منه بدأ أي هو المتكلم به فإن الذين قالوا إنه مخلوق قالوا خلقه في غيره فبدا من ذلك المخلوق فقال السلف : منه بدأ أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلاما لذلك المحل الذي خلقه فيه فإن الله تعالى إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين فإذا خلق طعما أو لونا في محل كان ذلك المحل هو المتحرك المتلون به وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علما أو كلاما في محل كان ذلك المحل هو المريد [ ص: 41 ] القادر العالم المتكلم بذلك الكلام ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين وإنما يتصف الرب تعالى بما يقوم به من الصفات لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات فهو الحي العليم القدير السميع البصير الرحيم المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني .
وقد قيل للإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : إن فلانا يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت : لا أسجد حتى أؤمر فقال : هذا كفر . فأنكر على من قال إن الحروف مخلوقة ; لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقا لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقا وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة مخالف للأدلة العقلية والسمعية كما قد بسط في غير هذا الموضع .
[ ص: 42 ] nindex.php?page=treesubj&link=28744والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعا كثيرا . والطوائف الكبار نحو ست فرق فأبعدها عن الإسلام قول من يقول من المتفلسفة والصابئة إن كلام الله إنما هو ما يفيض على النفوس : إما من العقل الفعال وإما من غيره وهؤلاء يقولون : إنما كلم الله موسى من سماء عقله أي بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج .
وأصل قول هؤلاء أن الأفلاك قديمة أزلية وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء بل يقولون : إن الله لا يعلم الجزئيات فلما جاءت الأنبياء بما جاءوا به من الأمور الباهرة جعلوا يتأولون ذلك تأويلات يحرفون فيها الكلم عن مواضعه ويريدون أن يجمعوا بينها وبين أقوال سلفهم الملاحدة فقالوا مثل ذلك . وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى وهم كثيرو التناقض كقولهم إن الصفة هي الموصوف وهذه الصفة هي الأخرى فيقولون : هو عقل وعاقل ومعقول ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق . وقد يعبرون عن ذلك بأنه حي عالم معلوم محب محبوب ويقولون نفس العلم هو نفس المحبة وهو نفس القدرة . ونفس العلم هو نفس العالم ونفس المحبة هي نفس المحبوب .
ويقولون إنه علة تامة في الأزل ; فيجب أن يقارنها معلولها في [ ص: 43 ] الأزل في الزمن وإن كان متقدما عليها بالعلة لا بالزمان . ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان . ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئا بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير علة للحوادث المتعاقبة ; بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم .
وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح والحوادث لها ابتداء وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث . ولم يهتد الفريقان للقول الوسط وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره التام لا مع التأثير ولا متراخيا عنه كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=82إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان ولا متراخيا عن تكوينه كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخيا عنه ولا مقارنا له في الزمان .
والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى فلزمهم أن [ ص: 44 ] الرب لا يمكنه فعل ذلك فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلما بمشيئته ويمتنع أن يكون لم يزل قادرا على الفعل والكلام بمشيئته . فافترقوا بعد ذلك منهم من قال : كلامه لا يكون إلا حادثا ; لأن الكلام لا يكون إلا مقدورا مرادا وما كان كذلك لا يكون إلا حادثا وما كان حادثا كان مخلوقا منفصلا عنه ; لامتناع قيام الحوادث به وتسلسلها في ظنهم .
ومنهم من قال : بل كلامه لا يكون إلا قائما به وما كان قائما به لم يكن متعلقا بمشيئته وإرادته بل لا يكون إلا قديم العين ; لأنه لو كان مقدورا مرادا لكان حادثا فكانت الحوادث تقوم به ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث ; لامتناع حوادث لا أول لها .
ومنهم من قال : بل هو متكلم بمشيئته وقدرته لكنه يمتنع أن يكون متكلما في الأزل أو أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته ; لأن ذلك يستلزم وجود حوادث لا أول لها وذلك ممتنع .
قالت " هذه الطوائف " : ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم ; فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلوا من الحوادث ولا تسبقها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث .
ثم من هؤلاء من ظن أن هذه [ ص: 45 ] قضية ضرورية ولم يتفطن لإجمالها . ومنهم من تفطن للفرق بين ما لم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة . شيئا بعد شيء . أما الأول فهو حادث بالضرورة ; لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث . وأما جنس الحوادث شيئا بعد شيء فهذا شيء تنازع فيه الناس فقيل إن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل كقول الجهم nindex.php?page=showalam&ids=11922وأبي الهذيل . فقال الجهم : بفناء الجنة والنار . وقال nindex.php?page=showalam&ids=11922أبو الهذيل : بفناء حركات أهلهما وقيل : بل هو جائز في المستقبل دون الماضي ; لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل . وهو قول كثير من طوائف النظار . وقيل : بل هو جائز في الماضي والمستقبل . وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيرهما ممن يقول بأن الله لم يزل متكلما إذا شاء وأن كلمات الله لا نهاية لها وهي قائمة بذاته وهو متكلم بمشيئته وقدرته . وهو أيضا قول أئمة الفلاسفة .
لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك ويقولون إنه قديم أزلي . وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير العقلاء . فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض ; بل هو خالق كل شيء وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن . وإن القديم الأزلي هو الله تعالى بما هو متصف به من صفات [ ص: 46 ] الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ; بل من قال عبدت الله ودعوت الله فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها .
ثم لما تكلم في " النبوات " من اتبع أرسطو - nindex.php?page=showalam&ids=13251كابن سينا وأمثاله - ورأوا ما جاءت به الأنبياء من إخبارهم بأن الله يتكلم وأنه كلم موسى تكليما وأنه خالق كل شيء أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه فيقولون : الحدوث نوعان ذاتي وزماني ونحن نقول إن الفلك محدث الحدوث الزماني ; بمعنى أنه معلول وإن كان أزليا لم يزل مع الله وقالوا إنه مخلوق بهذا الاعتبار والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام والقديم الأزلي لا يكون في أيام .
وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق كل شيء وأنه خلق كذا إنما أرادوا بذلك أنه خلق المخلوق وأحدثه بعد أن لم يكن كما قال : { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=9وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } والعقول الصريحة توافق ذلك وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان ولا يكون إلا بعده وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث المفعول .
[ ص: 47 ] وقالوا لهؤلاء قولكم : " إنه مؤثر تام في الأزل " لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره ; فإن أردتم " الأول " لزم أن لا يحدث في العالم حادث وهذا خلاف المشاهدة وإن أردتم " الثاني " لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقا حادثا كائنا بعد أن لم يكن وكان الرب لم يزل متكلما بمشيئته فعالا لما يشاء وهذا يناقض قولكم ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق ويوافق ما أخبرت به الرسل وعلى هذا يدل العقل الصريح . فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء وإن أردتم " الثالث " فسد قولكم ; لأنه يستلزم أنه يشاء [ حدوثها ] بعد أن لم يكن فاعلا لها من غير تجدد سبب يوجب الإحداث وهذا يناقض قولكم . فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثا لشيء وإن لم يصح هذا بطل فقولكم باطل على التقديرين .
وحقيقة قولكم أن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن ; وحينئذ فيلزمكم أن لا يحدث شيء ويلزمكم أن كل ما حدث حدث بدون مؤثر ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر وليس لكم أن تقولوا بعض الآثار يقارن المؤثر التام وبعضها يتراخى عنه .
[ ص: 48 ] وأيضا فكونه فاعلا لمفعول معين مقارن له أزلا وأبدا باطل في صريح العقل وأيضا فأنتم وسائر العقلاء موافقون على أن الممكن الذي لا يكون [ إلا ] ممكنا يقبل الوجود والعدم وهو الذي جعلتموه الممكن الخاص الذي قسيمه الضروري الواجب والضروري الممتنع لا يكون إلا موجودا تارة ومعدوما أخرى وأن القديم الأزلي لا يكون إلا ضروريا واجبا يمتنع عدمه . وهذا مما اتفق عليه أرسطو وأتباعه حتى nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وذكره في كتبه المشهورة " كالشفا " وغيره . ثم تناقض فزعم أن الفلك ممكن مع كونه قديما أزليا لم يزل ولا يزال وزعم أن الواجب بغيره القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم وزعم أن له ماهية غير وجوده . وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء وتناقضه في غير هذا الموضع .
و " القول الثاني " للناس في كلام الله تعالى قول من يقول : إن الله لم يقم به صفة من الصفات لا حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة ولا رحمة ولا غضب ولا غير ذلك بل خلق كلاما في غيره فذلك المخلوق هو كلامه وهذا قول الجهمية والمعتزلة . وهذا القول أيضا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وهو مناقض لأقوال الأنبياء ونصوصهم ; وليس مع هؤلاء عن الأنبياء قول يوافق قولهم ; بل لهم شبه عقلية فاسدة قد بينا فسادها في غير هذا [ ص: 49 ] الموضع . وهؤلاء زعموا أنهم يقيمون الدليل على حدوث العالم بتلك الحجج وهم لا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا .
و " القول الثالث " قول من يقول : إنه يتكلم بغير مشيئته وقدرته بكلام قائم بذاته أزلا وأبدا وهؤلاء موافقون لمن قبلهم في أصل قولهم لكن قالوا الرب تقوم به الصفات ولا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الصفات الاختيارية .
وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام " nindex.php?page=showalam&ids=13464عبد الله بن سعيد بن كلاب " ثم افترق موافقوه فمنهم من قال : ذلك الكلام . معنى واحد هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل محظور والخبر عن كل مخبر عنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة . وقالوا معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين . وقالوا : الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له . ومن محققيهم من جعل المعنى يعود إلى الخبر والخبر يعود إلى العلم .
وجمهور العقلاء يقولون : قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة . وهؤلاء يقولون تكليمه لموسى ليس إلا خلق إدراك يفهم به موسى ذلك المعنى . فقيل لهم : أفهم كل الكلام أم بعضه ؟ إن كان فهمه كله [ ص: 50 ] فقد علم علم الله وإن كان فهم بعضه فقد تبعض وعندهم كلام الله لا يتبعض ولا يتعدد .
وقيل لهم : قد فرق الله بين تكليمه لموسى وإيحائه لغيره . وعلى أصلكم لا فرق .
وكان بعض هؤلاء ادعى أن القرآن العربي أحدثه جبريل أو محمد فقيل لهم : لو أحدثه أحدهما لم يجز إضافته إلى الآخر . وهو سبحانه أضافه إلى كل منهما باسم الرسول الدال على مرسله لا باسم الملك والنبي فدل ذلك على أنه قول رسول بلغه عن مرسله لا قول ملك أو نبي أحدثه من تلقاء نفسه بل قد كفر من قال إنه قول البشر .
[ ص: 51 ] والطائفة الأخرى التي وافقت nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب على أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته قالت : بل الكلام القديم هو حروف أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب أزلا وأبدا لا يتكلم بها بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بها شيئا بعد شيء . ولم يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام وبين عين حروف قديمة أزلية وهذا أيضا مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة ; فإن الحروف المتعاقبة شيئا بعد شيء يمتنع أن يكون كل منها قديما أزليا وإن كان جنسها قديما ; لإمكان وجود كلمات لا نهاية لها وحروف متعاقبة لا نهاية لها وامتناع كون كل منها قديما أزليا فإن المسبوق بغيره لا يكون أزليا .
وقد فرق بعضهم بين وجودها وماهيتها فقال : الترتيب في ماهيتها لا في وجودها وبطلان هذا القول معلوم بالاضطرار لمن تدبره فإن ماهية الكلام الذي هو حروف لا يكون شيئا بعد شيء والصوت لا يكون إلا شيئا بعد شيء فامتنع أن يكون وجود الماهية المعينة أزليا متقدما عليها به مع أن الفرق بينهما بينه لو قدر الفرق بينهما . ويلزم من هذين الوجهين أن يكون وجودها أيضا مترتبا ترتيبا متعاقبا .
ثم من هؤلاء من يزعم أن ذلك القديم هو ما يسمع من العباد من الأصوات بالقرآن والتوراة والإنجيل أو بعض ذلك وكان أظهر [ ص: 52 ] فسادا مما قبله فإنه يعلم بالضرورة حدوث أصوات العباد .
و " طائفة خامسة " قالت : بل الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره ; لكن لم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها وهؤلاء جعلوا الرب في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته ولا على الفعل كما فعله أولئك ثم جعلوا الفعل والكلام ممكنا مقدورا من غير تجدد شيء أوجب القدرة والإمكان كما قال أولئك في المفعولات المنفصلة .
وأما السلف فقالوا : لم يزل الله متكلما إذا شاء وأن الكلام صفة كمال ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازما لذاته ليس له عليه قدرة ولا له فيه مشيئة والكمال إنما يكون بالصفات القائمة بالموصوف لا بالأمور المباينة له ولا يكون الموصوف متكلما عالما قادرا إلا بما يقوم به من الكلام والعلم والقدرة . وإذا كان كذلك فمن لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل ممن حدثت له بعد أن لم يكن متصفا بها لو كان حدوثها ممكنا فكيف إذا كان ممتنعا ؟ فتبين أن الرب لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال ; ومن أجلها الكلام . فلم يزل متكلما إذا شاء ولا يزال كذلك وهو يتكلم إذا شاء بالعربية كما تكلم بالقرآن [ ص: 53 ] العربي وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقا منفصلا عنه فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة لأن الله تكلم بها .
فصل ثم تنازع بعض المتأخرين في الحروف الموجودة في كلام الآدميين . وسبب نزاعهم أمران : " أحدهما " أنهم لم يفرقوا بين الكلام الذي يتكلم الله به فيسمع منه وبين ما إذا بلغه عنه مبلغ فسمع من ذلك المبلغ فإن nindex.php?page=treesubj&link=29453القرآن كلام الله تكلم به بلفظه ومعناه بصوت نفسه ; فإذا قرأه القراء قرءوه بأصوات أنفسهم . فإذا قال القارئ : { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين } { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=1الرحمن الرحيم } كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله لا كلام نفسه وكان هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=5905زينوا القرآن بأصواتكم } وكان يقول : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597319ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي } وكلا الحديثين ثابت فبين أن الكلام الذي يبلغه كلام ربه وبين أن القارئ [ ص: 54 ] يقرؤه بصوت نفسه وقال صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=33998ليس منا من لم يتغن بالقرآن } قال أحمد والشافعي وغيرهما : هو تحسينه بالصوت . قال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : يحسنه بصوته فبين أحمد أن القارئ يحسن القرآن بصوت نفسه .
و " السبب الثاني " أن السلف قالوا : القرآن كلام الله منزل غير مخلوق وقالوا لم يزل متكلما إذا شاء . فبينوا أن كلام الله قديم أي جنسه قديم لم يزل ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم ولا قال أحد منهم القرآن قديم ; بل قالوا : إنه كلام الله منزل غير مخلوق وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه وكان منزلا منه غير مخلوق ولم يكن مع ذلك أزليا قديما بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلما إذا شاء فجنس كلامه قديم . فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض .
فمن قال إن حروف المعجم كلها مخلوقة وإن كلام الله تعالى [ مخلوق فقد قال قولا ] مخالفا للمعقول الصريح والمنقول الصحيح ومن قال نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئا من ذلك قديم فقد خالف أيضا أقوال السلف وكان فساد قوله ظاهرا لكل أحد وكان مبتدعا قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين ولا قالته طائفة كبيرة من [ ص: 55 ] طوائف المسلمين بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك . ومن قال إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين فقد ابتدع قولا باطلا في الشرع والعقل .
ومن قال : إن جنس الحروف التي تكلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة وإن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقا والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة فقد أصاب .
وإذا قال إن الله هدى عباده وعلمهم البيان فأنطقهم بها باللغات المختلفة وأنعم عليهم بأن جعلهم ينطقون بالحروف التي هي مباني كتبه وكلامه وأسمائه فهذا قد أصاب فالإنسان وجميع ما يقوم به من الأصوات والحركات وغيرها مخلوق كائن بعد أن لم يكن والرب تعالى بما يقوم به من صفاته وكلماته وأفعاله غير مخلوق والعباد إذا قرءوا كلامه فإن كلامه الذي يقرءونه هو كلامه لا كلام غيره وكلامه الذي تكلم به لا يكون مخلوقا وكان ما يقرءون به كلامه من حركاتهم وأصواتهم مخلوقا وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوبا في المصاحف وكلامه غير مخلوق والمداد الذي يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق .
فصل فهذان المتنازعان اللذان تنازعا في " الأحرف التي أنزلها الله على آدم " فقال أحدهما : إنها قديمة وليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث . وقال الآخر : إنها ليست بكلام الله وإنها مخلوقة بشكلها ونقطها وإن القديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود منزل غير مخلوق ولكنه كتب بها . وسؤالهما أن نبين لهما الصواب وأيهما أصح اعتقادا يقال لهما : يحتاج بيان الصواب إلى بيان ما في السؤال من الكلام المجمل [ ص: 57 ] فإن كثيرا من نزاع العقلاء لكونهم لا يتصورون مورد النزاع تصورا بينا وكثير من النزاع قد يكون الصواب فيه في قول آخر غير القولين الذين قالاهما وكثير من النزاع قد يكون مبنيا على أصل ضعيف إذا بين فساده ارتفع النزاع .
فأول ما في هذا السؤال قولهما : الأحرف التي أنزلها الله على آدم فإنه قد ذكر بعضهم أن الله أنزل عليه حروف المعجم مفرقة مكتوبة وهذا ذكره nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة في المعارف وهو ومثله يوجد في التواريخ كتاريخ ابن جرير الطبري ونحوه وهذا ونحوه منقول عمن ينقل الأحاديث الإسرائيلية ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدمين مثل nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه وكعب الأحبار ومالك بن دينار ومحمد بن إسحاق وغيرهم .
وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين إلا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر أو أن يكون منقولا عن خاتم المرسلين وأيضا فهذا النقل قد عارضه نقل آخر وهو : " { إن أول من خط وخاط إدريس } " . فهذا منقول عن بعض السلف وهو مثل ذلك وأقوى فقد ذكروا فيه أن إدريس أول من خاط الثياب وخط بالقلم : وعلى هذا فبنو آدم من قبل إدريس لم يكونوا يكتبون بالقلم ولا يقرءون كتبا . والذي في حديث nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر المعروف عن nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر عن [ ص: 58 ] النبي صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=597321إن آدم كان نبيا مكلما كلمه الله قبلا } " وليس فيه أنه أنزل عليه شيئا مكتوبا فليس فيه أن الله أنزل على آدم صحيفة ولا كتابا ولا هذا معروف عند أهل الكتاب فهذا يدل على أن هذا لا أصل له ولو كان هذا معروفا عند أهل الكتاب لكان هذا النقل ليس هو في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من جنس الأحاديث الإسرائيلية التي لا يجب الإيمان بها ; بل ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " {nindex.php?page=hadith&LINKID=68431إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ; فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه } " .
والله سبحانه علم آدم الأسماء كلها وأنطقه بالكلام المنظوم . وأما تعليم حروف مقطعة لا سيما إذا كانت مكتوبة فهو تعليم لا ينفع ولكن لما أرادوا تعليم المبتدئ بالخط صاروا يعلمونه الحروف المفردة حروف الهجاء ثم يعلمونه تركيب بعضها إلى بعض فيعلم أبجد هوز وليس هذا وحده كلاما .
فهذا المنقول عن آدم من نزول حروف الهجاء عليه لم يثبت به نقل ولم يدل عليه عقل ; بل الأظهر في كليهما نفيه وهو من جنس ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير ا ب ت ث وتفسير أبجد [ ص: 59 ] هوز حطي ويروونه عن المسيح أنه قاله لمعلمه في الكتاب وهذا كله من الأحاديث الواهية بل المكذوبة . ولا يجوز باتفاق أهل العلم بالنقل أن يحتج بشيء من هذه وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في هذا الباب كالشريف المزيدي والشيخ أبي الفرج وابنه عبد الوهاب وغيرهم . وقد يذكر ذلك طائفة من المفسرين والمؤرخين فهذا كله عند أهل العلم بهذا الباب باطل لا يعتمد عليه في شيء من الدين .
وهذا وإن كان قد ذكره أبو بكر النقاش وغيره من المفسرين وعن النقاش ونحوه نقله الشريف المزيدي الحراني وغيره فأجل من ذكر ذلك من المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وقد بين في تفسيره أن كل ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو باطل . فذكر في آخر تفسيره اختلاف الناس في تفسير أبجد هوز حطي وذكر حديثا رواه من طريق محمد بن زياد الجزري عن فرات بن أبي الفرات عن nindex.php?page=showalam&ids=17112معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تعلموا أباجاد وتفسيرها ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد قال : قالوا يا رسول الله وما تفسيرها ؟ قال ؟ أما الألف فآلاء الله وحرف من أسمائه . وأما الباء فبهاء الله وأما الجيم فجلال الله وأما الدال فدين [ ص: 60 ] الله وأما الهاء فالهاوية وأما الواو فويل لمن سها وأما الزاي فالزاوية وأما الحاء فحطوط الخطايا عن المستغفرين بالأسحار } " وذكر تمام الحديث من هذا الجنس .
وذكر حديثا ثانيا من حديث عبد الرحيم بن واقد حدثني الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : " ليس شيء إلا وله سبب وليس كل أحد يفطن له ولا بلغه ذلك أن لأبي جاد حديثا عجيبا أما " أبو جاد " فأبى آدم الطاعة وجد في أكل الشجرة وأما " هوز " فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض وأما " حطي " فحطت عنه خطيئته وأما " كلمن " فأكله من الشجرة ومن عليه بالتوبة " وساق تمام الحديث من هذا الجنس .
وذكر حديثا ثالثا من حديث إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر بن كدام عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم : اكتب بسم الله فقال له عيسى وما بسم الله ؟ فقال له المعلم وما أدري . فقال له عيسى الباء بهاء الله والسين سناؤه والميم ملكه والله إله الآلهة والرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة . أبو جاد : ألف آلاء الله وباء بهاء الله وجيم جمال الله ودال الله الدائم وهوز هاء الهاوية } " وذكر حديثا [ ص: 61 ] من هذا الجنس وذكره عن الربيع بن أنس موقوفا عليه . وروى أبو الفرج المقدسي عن الشريف المزيدي حديثا عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير : ا ب ت ث من هذا الجنس .
ثم قال ابن جرير : ولو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد لم يعدل عن القول بها إلى غيرها ولكنها واهية الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها ; وذلك أن محمد بن زياد الجزري الذي حدث حديث nindex.php?page=showalam&ids=17112معاوية بن قرة عن فرات عنه غير موثوق بنقله وأن عبد الرحيم بن واقد الذي خالفه في رواية ذلك عن الفرات مجهول غير معروف عند أهل النقل وأن إسماعيل بن يحيى الذي حدث عن ابن أبي مليكة غير موثوق بروايته ولا جائز عند أهل النقل الاحتجاج بأخباره .
قلت : إسماعيل بن يحيى هذا يقال له التيمي كوفي معروف بالكذب ورواية إسماعيل بن عياش في غير الشاميين لا يحتج بها بل هو ضعيف فيما ينقله من أهل الحجاز وأهل العراق بخلاف ما ينقله عن شيوخه الشاميين ; فإنه حافظ لحديث أهل بلده كثير الغلط في حديث أولئك وهذا متفق عليه بين أهل العلم بالرجال وعبد الرحمن بن واقد لا يحتج به باتفاق أهل العلم وفرات بن السائب ضعيف أيضا [ ص: 62 ] لا يحتج به فهو فرات بن أبي الفرات ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضا .
وقد تنازع الناس في أبجد هوز حطي فقال طائفة هي أسماء قوم قيل أسماء ملوك مدين أو أسماء قوم كانوا ملوكا جبابرة . وقيل : هي أسماء الستة الأيام التي خلق الله فيها الدنيا . والأول اختيار الطبري . وزعم هؤلاء أن أصلها أبو جاد مثل أبي عاد وهواز مثل رواد وجواب . وأنها لم تعرب لعدم العقد والتركيب .
والصواب : أن هذه ليست أسماء لمسميات وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم ولفظها : أبجد هوز حطي ليس لفظها أبو جاد هواز . ثم كثير من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد فيجعلون الألف واحدا والباء اثنين والجيم ثلاثة إلى الياء ثم يقولون الكاف عشرون . . . وآخرون من أهل الهندسة والمنطق يجعلونها علامات على الخطوط المكتوبة أو على ألفاظ الأقيسة المؤلفة كما يقولون : كل ألف ب وكل ب ج فكل ألف ج . ومثلوا بهذه لكونها ألفاظا تدل على صورة الشكل والقياس لا يختص بمادة دون مادة .
كما جعل أهل التصريف لفظ " فعل " تقابل الحروف الأصلية [ ص: 63 ] والزائدة ينطقون بها . ويقولون : وزن استخرج " استفعل " وأهل العروض يزنون بألفاظ مؤلفة من ذلك ; لكن يراعون الوزن من غير اعتبار بالأصل والزائد : ولهذا سئل بعض هؤلاء عن وزن نكتل فقال نفعل وضحك منه أهل التصريف . ووزنه عندهم نفتل فإن أصله نكتال وأصل نكتال : نكتيل . تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ثم لما جزم الفعل سقطت كما نقول مثل ذلك في نعتد ونفتد من اعتاد يعتاد واقتاد البعير يقتاده . ونحو ذلك في نقتيل فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها .
وجعلت " ثمانية " تكون متحركة : وهي الهمزة وتكون ساكنة وهي حرفان على الاصطلاح الأول وحرف واحد على الثاني والألف تقرن بالواو والياء لأنهن حروف العلة ولهذا ذكرت في آخر حروف المعجم ونطقوا بأول لفظ كل حرف منها إلا الألف فلم يمكنهم أن ينطقوا بها ابتداء فجعلوا اللام قبلها فقالوا : " لا " والتي في الأول هي الهمزة المتحركة فإن الهمزة في أولها . وبعض الناس ينطق بها " لام ألف " والصواب أن ينطق بها " لا " وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا : أن العلم لا بد فيه من نقل مصدق ونظر محقق . وأما النقول الضعيفة لا سيما المكذوبة فلا يعتمد عليها . وكذلك النظريات الفاسدة والعقليات الجهلية الباطلة لا يحتج بها .
فقد نص أحمد وغيره على أن كلام العباد مخلوق وهم إنما [ ص: 65 ] يتكلمون بالأسماء والحروف التي يوجد نظيرها في كلام الله تعالى لكن الله تعالى تكلم بها بصوت نفسه وحروف نفسه وذلك غير مخلوق وصفات الله تعالى لا تماثل صفات العباد ; فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله والصوت الذي ينادي به عباده يوم القيامة والصوت الذي سمعه منه موسى ليس كأصوات شيء من المخلوقات والصوت المسموع هو حروف مؤلفة وتلك لا يماثلها شيء من صفات المخلوقين كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من الصفات وهو سبحانه قد علم العباد من علمه ما شاء كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وهم إذا علمهم الله ما علمهم من علمه فنفس علمه الذي اتصف به ليس مخلوقا ونفس العباد وصفاتهم مخلوقة لكن قد ينظر الناظر إلى مسمى العلم مطلقا فلا يقال : إن ذلك العلم مخلوق لاتصاف الرب به وإن كان ما يتصف به العبد مخلوقا .
وأصل هذا أن nindex.php?page=treesubj&link=29477ما يوصف الله به ويوصف به العباد يوصف الله به على ما يليق به ويوصف به العباد بما يليق بهم من ذلك ; مثل الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فإن الله له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام . فكلامه يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه والعبد له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام [ ص: 66 ] وكلام العبد يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه .
فهذه الصفات لها ثلاث اعتبارات : تارة تعتبر مضافة إلى الرب . وتارة تعتبر مضافة إلى العبد وتارة تعتبر مطلقة لا تختص بالرب ولا بالعبد . فإذا قال العبد : حياة الله وعلم الله وقدرة الله وكلام الله ونحو ذلك فهذا كله غير مخلوق ولا يماثل صفات المخلوقين وإذا قال علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد فهذا كله مخلوق ولا يماثل صفات الرب . وإذا قال العلم والقدرة والكلام فهذا مجمل مطلق لا يقال عليه كله إنه مخلوق ولا إنه غير مخلوق بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق فالصفة تتبع الموصوف . فإن كان الموصوف هو الخالق فصفاته غير مخلوقة وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق . فصفاته مخلوقة .
ثم إذا قرأ بأم القرآن وغيرها من كلام الله فالقرآن في نفسه كلام الله غير مخلوق وإن كان حركات العباد وأصواتهم مخلوقة . ولو قال الجنب : { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين } ينوي به القرآن منع من ذلك وكان قرآنا ولو قاله ينوي به حمد الله لا يقصد به القراءة لم يكن قارئا وجاز له ذلك .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=597324أفضل الكلام بعد [ ص: 67 ] القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر } رواه مسلم في صحيحه . فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن وقال هي من القرآن فهي من القرآن باعتبار وليست من القرآن باعتبار ولو قال القائل : { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=12يا يحيى خذ الكتاب } ومقصوده القرآن كان قد تكلم بكلام الله ولم تبطل صلاته باتفاق العلماء وإن قصد مع ذلك تنبيه غيره لم تبطل صلاته عند جمهور العلماء . ولو قال لرجل اسمه يحيى وبحضرته كتاب : يا يحيى خذ الكتاب لكان هذا مخلوقا ; لأن لفظ يحيى هنا مراد به ذلك الشخص وبالكتاب ذلك الكتاب ليس مرادا به ما أراده الله بقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=12يا يحيى خذ الكتاب } والكلام كلام [ المخلوق ] بلفظه ومعناه .
وقد تنازع الناس في مسمى " الكلام " في الأصل فقيل : هو اسم اللفظ الدال على المعنى وقيل : المعنى المدلول عليه باللفظ وقيل : لكل منهما بطريق الاشتراك اللفظي وقيل : بل هو اسم عام لهما جميعا يتناولهما عند الإطلاق وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة وهذا تارة . هذا قول السلف وأئمة الفقهاء وإن كان هذا القول لا يعرف في كثير من الكتب .
وهذا كما تنازع الناس في مسمى " الإنسان " هل هو الروح فقط أو الجسد فقط ؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعا وإن [ ص: 68 ] كان مع القرينة قد يراد به هذا تارة وهذا تارة فتنازعهم في مسمى النطق كتنازعهم في مسمى الناطق . فمن سمى شخصا محمدا وإبراهيم وقال : جاء محمد وجاء إبراهيم لم يكن هذا محمدا وإبراهيم المذكورين في القرآن . ولو قال : محمد رسول الله وإبراهيم خليل الله . يعني به خاتم الرسل وخليل الرحمن لكان قد تكلم بمحمد وإبراهيم اللذين في القرآن لكن قد تكلم بالاسم وألفه كلاما فهو كلامه لم يتكلم به في القرآن العربي الذي تكلم الله به .
ومما يوضح ذلك أن الفقهاء قالوا في " آداب الخلاء " أنه لا يستصحب ما فيه ذكر الله واحتجوا بالحديث الذي في السنن " { nindex.php?page=hadith&LINKID=597325أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه . وكان خاتمه مكتوبا عليه محمد رسول الله } محمد سطر رسول سطر الله سطر . ولم يمنع أحد من العلماء أن يستصحب ما يكون فيه كلام العباد وحروف الهجاء مثل ورق الحساب الذي يكتب فيه أهل الديوان الحساب ومثل الأوراق التي يكتب فيها الباعة ما يبيعونه ونحو ذلك .
وفي السيرة " { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح غطفان على نصف تمر المدينة أتاه سعد فقال له : أهذا شيء أمر الله به فسمعا وطاعة أم شيء تفعله لمصلحتنا ؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك بوحي بل فعله باجتهاده فقال : لقد كنا في الجاهلية [ ص: 69 ] وما كانوا يأكلون منها تمرة إلا بقرى أو بشراء فلما أعزنا الله بالإسلام يريدون أن يأكلوا تمرنا لا يأكلون تمرة واحدة وبصق سعد في الصحيفة وقطعها } فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يقل هذه حروف فلا يجوز إهانتها والبصاق فيها . وأيضا فقد كره السلف محو القرآن بالرجل ولم يكرهوا محو ما فيه كلام الآدميين .
وأما nindex.php?page=treesubj&link=29462قول القائل : إن الحروف قديمة أو حروف المعجم قديمة فإن أراد جنسها فهذا صحيح وإن أراد الحرف المعين فقد أخطأ فإن له مبدأ ومنتهى وهو مسبوق بغيره وما كان كذلك لم يكن إلا محدثا .
وأيضا فلفظ الحروف مجمل يراد بالحروف الحروف المنطوقة المسموعة التي هي مباني الكلام ويراد بها الحروف المكتوبة ويراد بها الحروف المتخيلة في النفس والصوت لا يكون كلاما إلا بالحروف باتفاق الناس . وأما الحروف فهل تكون كلاما بدون الصوت ؟ فيه نزاع . والحرف قد يراد به الصوت المقطع وقد يراد به نهاية الصوت وحده وقد يراد بالحروف المداد وقد يراد بالحروف شكل المداد فالحروف التي تكلم الله بها غير مخلوقة وإذا كتبت في المصحف قيل كلام الله المكتوب في المصحف غير مخلوق وأما نفس أصوات العباد فمخلوقة والمداد مخلوق وشكل المداد مخلوق فالمداد مخلوق بمادته وصورته وكلام الله المكتوب بالمداد غير مخلوق . ومن كلام الله [ ص: 70 ] الحروف التي تكلم الله بها فإذا كتبت بالمداد لم تكن مخلوقة وكان المداد مخلوقا . وأشكال الحروف المكتوبة مما يختلف فيها اصطلاح الأمم .
والخط العربي قد قيل إن مبدأه كان من الأنبار ومنها انتقل إلى مكة وغيرها والخط العربي تختلف صورته : العربي القديم فيه تكوف وقد اصطلح المتأخرون على تغيير بعض صوره وأهل المغرب لهم اصطلاح ثالث حتى في نقط الحروف وترتيبها وكلام الله المكتوب بهذه الخطوط كالقرآن العربي هو في نفسه لا يختلف باختلاف الخطوط التي يكتب بها .
فإن قيل : فالحرف من حيث هو مخلوق أو غير مخلوق مع قطع النظر عن كونه في كلام الخالق أو كلام المخلوق ؟ فإن قلتم هو من حيث هو غير مخلوق لزم أن يكون غير مخلوق في كلام العباد وإن قلتم مخلوق لزم أن يكون مخلوقا في كلام الله ؟ قيل : قول القائل الحرف من حيث هو هو كقوله الكلام من حيث هو هو والعلم من حيث هو هو والقدرة من حيث هي هي والوجود من حيث هو هو ونحو ذلك .
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور وغيرها إذا أخذت مجردة مطلقة غير مقيدة ولا مشخصة لم يكن لها حقيقة في الخارج عن الأذهان [ ص: 71 ] إلا شيء معين فليس ثم وجود إلا وجود الخالق أو وجود المخلوق ووجود كل مخلوق مختص به وإن كان اسم الوجود عاما يتناول ذلك كله وكذلك العلم والقدرة اسم عام يتناول أفراد ذلك وليس في الخارج إلا علم الخالق وعلم المخلوق وعلم كل مخلوق مختص به قائم به واسم الكلام والحروف يعم كل ما يتناوله لفظ الكلام والحروف وليس في الخارج إلا كلام الخالق وكلام المخلوقين . وكلام كل مخلوق مختص به واسم الكلام يعم كل ما يتناوله هذا اللفظ . وليس في الخارج إلا الحروف التي تكلم الله بها الموجودة في كلام الخالق والحروف الموجودة في كلام المخلوقين . فإذا قيل : إن علم الرب وقدرته بكلامه غير مخلوق وحروف كلامه غير مخلوقة لم يلزم من ذلك أن يكون علم العبد وقدرته وكلامه غير مخلوق وحروف كلامه غير مخلوقة .
وأيضا فلفظ الحرف يتناول الحرف المنطوق والحرف المكتوب وإذا قيل إن الله تكلم بالحروف المنطوقة كما تكلم بالقرآن العربي وبقوله : الم - وحم - وطسم - وطس - ويس - وق - ون ونحو ذلك فهذا كلامه وكلامه غير مخلوق وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقا .
و " أيضا " فإذا قرأ الناس كلام الله فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون [ ص: 72 ] كلام الله ; فإن الكلام كلام من قاله مبتدئا أمرا يأمر به أو خبرا يخبره ليس هو كلام المبلغ له عن غيره ; إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين . وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله فيقال هذا كلام الله مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم وقد يشار إلى نفس صفة العبد كحركته وحياته وقد يشار إليهما فالمشار إليه الأول غير مخلوق والمشار إليه الثاني مخلوق والمشار إليه الثالث فمنه مخلوق ومنه غير مخلوق وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا هو نظير صفة العبد لا نظير صفة الرب أبدا .
قيل : ما تكلم الله به وسمع منه لا يماثل صفة المخلوقين ولكن إذا بلغنا كلام الله فإنما بلغناه بصفاتنا وصفاتنا مخلوقة والمخلوق يماثل المخلوق .
وفي هذا جواب للطائفتين لمن قاس صفة المخلوق بصفة الخالق فجعلها غير مخلوقة فإن الجهمية المعطلة أشباه اليهود والحلولية الممثلة [ ص: 73 ] أشباه النصارى دخلوا في هذا وهذا أولئك مثلوا الخالق بالمخلوق فوصفوه بالنقائص التي تختص بالمخلوق : كالفقر والبخل وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق فوصفوه بخصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله والمسلمون nindex.php?page=treesubj&link=29443يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يثبتون له ما يستحقه من صفات الكمال وينزهونه عن الأكفاء والأمثال فلا يعطلون الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات ; فإن المعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما والله تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .
ومما ينبغي أن يعرف أن كلام المتكلم في نفسه واحد وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به فإذا أنشد المنشد قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه مع أن أصوات المنشدين له تختلف وتلك الأصوات ليست صوت لبيد : وكذلك من روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه كقوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=96591إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } كان هذا الكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه ويقال لمن رواه : أدى الحديث بلفظه [ ص: 74 ] وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه وإذا قرأه القراء فإنما يقرءونه بأصواتهم .
ولهذا كان الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة يقولون : nindex.php?page=treesubj&link=29455_29463من قال اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع وفي بعض الروايات عنه : من قال لفظي بالقرآن مخلوق يعني به القرآن فهو جهمي ; لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظا ومسمى هذا فعل العبد وفعل العبد مخلوق ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ وذلك كلام الله لا كلام القارئ فمن قال إنه مخلوق فقد قال إن الله لم يتكلم بهذا القرآن وإن هذا الذي يقرءوه المسلمون ليس هو كلام الله ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول .
وأما صوت العبد فهو مخلوق وقد صرح أحمد وغيره بأن الصوت المسموع صوت العبد ولم يقل أحمد قط : nindex.php?page=treesubj&link=29455_29463من قال إن صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي وإنما قال من قال لفظي بالقرآن والفرق بين لفظ الكلام وصوت المبلغ له فرق واضح فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الرجل فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه وهو إنما بلغه بصوت نفسه لا بصوت ذلك الغير ونفس اللفظ والتلاوة والقراءة والكتابة ونحو ذلك لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات [ ص: 75 ] العباد وما يحدث عنها من أصواتهم وشكل المداد ويراد به نفس الكلام الذي يقرؤه التالي ويتلوه ويلفظ به ويكتبه منع أحمد وغيره من إطلاق النفي والإثبات الذي يقتضي جعل صفات الله مخلوقة أو جعل صفات العباد ومدادهم غير مخلوق .
وقال أحمد : نقول nindex.php?page=treesubj&link=29455_28742القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف : أي حيث تلي وكتب وقرئ مما هو في نفس الأمر كلام الله فهو كلامه وكلامه غير مخلوق وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرءون ويكتبون بها كلامه كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق ولهذا من لم يهتد إلى هذا الفرق يحار فإنه معلوم أن القرآن واحد ويقرؤه خلق كثير والقرآن لا يكثر في نفسه بكثرة قراءة القراء وإنما يكثر ما يقرءون به القرآن فما يكثر ويحدث في العباد فهو مخلوق والقرآن نفسه لفظه ومعناه الذي تكلم الله به وسمعه جبريل من الله وسمعه محمد من جبريل وبلغه محمد إلى الناس وأنذر به الأمم ; لقوله تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=19لأنذركم به ومن بلغ } قرآن واحد وهو كلام الله ليس بمخلوق .
فعلم أن ما قرأه هو القرآن ليس هو مثل القرآن وأما الحروف الموجودة في القرآن إذا وجد نظيرها في كلام غيره فليس هذا هو ذاك بعينه بل هو نظيره وإذا تكلم الله باسم من الأسماء : كآدم ونوح وإبراهيم وتكلم بتلك الحروف والأسماء التي تكلم الله بها فإذا قرئت في كلامه فقد بلغ كلامه فإذا أنشأ الإنسان لنفسه كلاما لم يكن عين ما تكلم الله به من الحروف والأسماء هو عين ما تكلم به العبد حتى يقال : إن هذه الأسماء والحروف الموجودة في كلام العباد غير مخلوقة ; فإن بعض من قال إن الحروف والأسماء غير مخلوقة في كلام العباد ادعى أن المخلوق إنما هو النظم والتأليف دون المفردات وقائل هذا يلزمه أن يكون أيضا النظم والتأليف غير مخلوق إذا وجد نظيره في القرآن كقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=12يا يحيى خذ الكتاب } وإن أراد بذلك شخصا اسمه يحيى وكتابا بحضرته .
( فإن قيل يحيى هذا والكتاب الحاضر ليس هو يحيى والكتاب المذكور في القرآن وإن كان اللفظ نظير اللفظ ( قيل كذلك [ ص: 77 ] سائر الأسماء والحروف إنما يوجد نظيرها في كلام العباد لا في كلام الله . وقولنا يوجد نظيرها في كلام الله تقريب أي يوجد فيما نقرؤه ونتلوه فإن الصوت المسموع من لفظ محمد ويحيى وإبراهيم في القرآن هو مثل الصوت المسموع من ذلك في غير القرآن وكلا الصوتين مخلوق . وأما الصوت الذي يتكلم الله به فلا مثل له لا يماثل صفات المخلوقين وكلام الله هو كلامه بنظمه ونثره ومعانيه . وذلك الكلام ليس مثل كلام المخلوقين . فإذا قلنا : { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين } وقصد بذلك قراءة القرآن الذي تكلم الله به فذلك القرآن تكلم الله بلفظه ومعناه لا يماثل لفظ المخلوقين ومعناهم وأما إذا قصدنا به الذكر ابتداء من غير أن نقصد قراءة كلام الله فإنما نقصد ذكرا ننشئه نحن يقوم معناه بقلوبنا وننطق بلفظه بألسنتنا وما أنشأناه من الذكر فليس هو من القرآن وإن كان نظيره في القرآن .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=597327أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر } فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات أفضل الكلام بعد القرآن فجعل درجتها دون درجة القرآن وهذا يقتضي أنها ليست من القرآن . ثم قال : " { هي من القرآن } وكلا قوليه حق وصواب ; ولهذا منع أحمد أن يقال : الإيمان مخلوق .
[ ص: 78 ] وقال : لا إله إلا الله من القرآن . وهذا الكلام لا يجوز أن يقال : إنه مخلوق وإن لم يكن من القرآن ولا يقال في التوراة والإنجيل إنهما مخلوقان ولا يقال في الأحاديث الإلهية التي يرويها عن ربه إنها مخلوقة كقوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=43518يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } فكلام الله قد يكون قرآنا وقد لا يكون قرآنا والصلاة إنما تجوز وتصح بالقرآن . وكلام الله كله غير مخلوق .
فإذا فهم هذا في مثل هذا فليفهم في نظائره وأن ما يوجد من الحروف والأسماء في كلام الله ويوجد في غير كلام الله يجوز أن يقال : إنه من كلام الله باعتبار ويقال ليس من كلام الله باعتبار كما أنه يكون من القرآن باعتبار وغير القرآن باعتبار لكن كلام الله القرآن وغير القرآن غير مخلوق وكلام المخلوقين كله مخلوق .
فما كان من كلام الله فهو غير مخلوق وما كان من كلام غيره فهو مخلوق . وهؤلاء الذين يحتجون على نفي الخلق أو إثبات القدم بشيء من صفات العباد وأعمالهم لوجود نظير ذلك فيما يضاف إلى الله وكلامه والإيمان به شاركهم في هذا الأصل الفاسد من احتج على خلق ما هو من كلام الله وصفاته بأن ذلك قد يوجد نظيره فيما يضاف إلى العبد . مثال ذلك : أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله قرءوه بحركاتهم وأصواتهم فقال الجهمي أصوات العباد ومدادهم مخلوقة وهذا [ ص: 79 ] هو المسمى بكلام الله أو يوجد نظيره في المسمى بكلام الله فيكون كلام الله مخلوقا .
وقال الحلولي الاتحادي nindex.php?page=treesubj&link=28712_28717الذي يجعل صفة الخالق هي عين صفة المخلوق الذي : نسمعه من القراء هو كلام الله وإنما نسمع أصوات العباد فأصوات العباد بالقرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق فأصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة والحروف المسموعة منهم غير مخلوقة ثم قالوا : الحروف الموجودة في كلامهم هي هذه أو مثل هذه فتكون غير مخلوقة . وزاد بعض غلاتهم فجعل أصوات كلامهم غير مخلوقة كما زعم بعضهم أن الأعمال من الإيمان وهو غير مخلوق والأعمال غير مخلوقة . وزاد بعضهم أعمال الخير والشر وقال : هي القدر والشرع المشروع وقال عمر : ما مرادنا بالأعمال الحركات بل الثواب الذي يأتي يوم القيامة كما ورد في الحديث الصحيح : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=597329أنه تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من الطير صواف } فيقال له : وهذا الثواب مخلوق . وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على أنه غير مخلوق وبذلك أجابوا من احتج على nindex.php?page=treesubj&link=28742_29455_29453خلق القرآن بمثل هذا الحديث فقالوا له : الذي يجيء يوم القيامة هو ثواب القرآن لا نفس القرآن وثواب القرآن مخلوق إلى أمثال هذه الأقوال التي ابتدعها طوائف والبدع تنشأ شيئا فشيئا وقد بسط الكلام في هذا الباب في مواضع أخر .
[ ص: 80 ] وقد بينا أن الصواب في هذا الباب هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان وهو ما كان عليه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة الإسلام ومن وافق هؤلاء فإن قول nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وقول الأئمة قبله هو القول الذي جاء به الرسول ودل عليه الكتاب والسنة ولكن لما امتحن الناس بمحنة الجهمية وطلب منهم تعطيل الصفات وأن يقولوا بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك ثبت الله nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في تلك المحنة ; فدفع حجج المعارضين النفاة وأظهر دلالة الكتاب والسنة وإن السلف كانوا على الإثبات فآتاه الله من الصبر واليقين ما صار به إماما للمتقين كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=24وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } ولهذا قيل فيه رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه . أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها فلما ظهر به من السنة ما ظهر كان له من الكلام في بيانها وإظهارها أكثر وأعظم مما لغيره فصار أهل السنة من عامة الطوائف يعظمونه وينتسبون إليه .
وقد ذكرت كلامه وكلام غيره من الأئمة ونصوص الكتاب والسنة في هذه الأبواب في غير هذا الموضع وبينا أن كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول وأن العقل الصريح لا يخالف [ ص: 81 ] النقل الصحيح ولكن كثيرا من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفا بالأدلة الشرعية وليس في المعقول ما يخالف المنقول ; ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل قال : معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه أي " معرفته " بالتمييز بين صحيحه وسقيمه . " والفقه فيه " معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية أحب إلي من أن يحفظ من غير معرفة وفقه . وهكذا قال nindex.php?page=showalam&ids=16604علي بن المديني وغيره من العلماء فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول أو بلفظ ثابت عن الرسول ] وحمله على ما لم يدل عليه فإنما أتي من نفسه .
[ ص: 82 ] وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة وحجج الجهمية معطلة الصفات وحجج الدهرية وأمثالها كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنفون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ففيها من الجهل والتناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد . وقد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع أخر .
وكان من أسباب ضلال هؤلاء تقصير الطائفتين أو قصورهم عن معرفة ما جاء به الرسول وما كان عليه السلف ومعرفة المعقول الصريح ; فإن هذا هو الكتاب وهذا هو الميزان وقد قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } وهذه المسألة لا تحتمل البسط على هذه الأمور ; إذ كان المقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء المتنازعين أجمعوا على أصل فاسد ثم تفرقوا فأجمعوا على أن جعلوا عين صفة الرب الخالق هي عين صفة المخلوق . ثم قال هؤلاء : وصفة المخلوق مخلوقة فصفة الرب مخلوقة فقال هؤلاء : صفة الرب قديمة فصفة المخلوق قديمة ثم احتاج كل منهما إلى طرد أصله فخرجوا إلى أقوال ظاهرة الفساد : خرج النفاة إلى أن الله لم يتكلم بالقرآن ولا بشيء من الكتب الإلهية : لا التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما وأنه لم [ ص: 83 ] يناد موسى بنفسه نداء يسمعه منه موسى ولا تكلم بالقرآن العربي ولا التوراة العبرية وخرج هؤلاء إلى أن ما يقوم بالعباد ويتصفون به يكون قديما أزليا وأن ما يقوم بهم ويتصفون به لا يكون قائما بهم حالا فيهم بل يكون ظاهرا عنهم من غير قيام بهم .
ولما تكلموا في " حروف المعجم " صاروا بين قولين : طائفة فرقت بين المتماثلين فقالت الحرف حرفان هذا قديم وهذا مخلوق كما قال ابن حامد nindex.php?page=showalam&ids=14953والقاضي أبو يعلى Multitarajem.php?tid=13371,13372وابن عقيل وغيرهم فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا هذا مخالفة للحس والعقل فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف وقالوا الحرف حرف واحد . وصنف في ذلك القاضي يعقوب البرزبيني مصنفا خالف به شيخه القاضي أبا يعلى مع قوله في مصنفه : وينبغي أن يعلم أن ما سطرته في هذه المسألة أن ذلك مما استفدته وتفرع عندي من شيخنا وإمامنا القاضي أبي يعلى بن الفراء وإن كان قد نصر خلاف ما ذكرته في هذا الباب فهو العالم المقتدى به في علمه ودينه فإني ما رأيت أحسن سمتا منه ولا أكثر اجتهادا منه ولا تشاغلا بالعلم مع كثرة العلم والصيانة والانقطاع عن الناس والزهادة فيما بأيديهم والقناعة في الدنيا باليسير مع حسن التجمل وعظم حشمته عند الخاص والعام ولم يعدل بهذه الأخلاق شيئا من نفر من الدنيا .
[ ص: 84 ] وذكر القاضي يعقوب في مصنفه أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبة قاضي حران يقول : هو مذهب العلوي الحراني وجماعة من أهل حران . وذكره أبو عبد الله بن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا : كأبي محمد الكشفل وإسماعيل الكاوذري في خلق من أتباعهم يقولون إنها قديمة قال nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى : وكذلك حكي لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره وذكر nindex.php?page=showalam&ids=14958القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا . وذكروه عن الشريف أبي علي بن أبي موسى وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب وسائر أتباعه وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله . وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين .
وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له إن سريا السقطي قال : لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أؤمر . فقال أحمد هذا كفر . وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله : كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق وبقوله لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن كما لا تتم بغيره من كلام الناس . وبقول أحمد [ ص: 85 ] لأحمد بن الحسن الترمذي : ألست مخلوقا ؟ قال بلى قال أليس كل شيء منك مخلوقا ؟ قال بلى قال فكلامك منك وهو مخلوق .
( قلت الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضا وليس في كلامه تناقض وهو أنكره على من قال : إن الله خلق الحروف ; فإن nindex.php?page=treesubj&link=29462_29455من قال إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله : أن الله لم يتكلم بقرآن عربي وأن القرآن العربي مخلوق ونص أحمد أيضا على أن كلام الآدميين مخلوق ولم يجعل شيئا منه غير مخلوق وكل هذا صحيح والسري رحمه الله إنما ذكر ذلك عن بكر بن خنيس العابد فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله واستشهدا على ذلك بما بلغهما " { أنه لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أؤمر } وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء ولكن مقصودهما ضرب المثل أن الألف منتصبة في الخط ليست هي مضطجعة كالباء والتاء فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر .
وأحمد أنكر قول القائل إن الله لما خلق الحروف وروي عنه أنه قال : من قال إن حرفا من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي لأنه سلك طريقا إلى البدعة ومن قال إن ذلك مخلوق فقد قال إن القرآن مخلوق . وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلما إذا [ ص: 86 ] شاء وصرح أن الله يتكلم بمشيئته ولكن أتباع nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع ; لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته .
وصرح أحمد وغيره من السلف أن nindex.php?page=treesubj&link=29453القرآن كلام الله غير مخلوق ولم يقل أحد من السلف إن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته ولا قال أحد منهم إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك من كلامه المعين أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال وإن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء مع قولهم إن كلام الله غير مخلوق وإنه منه بدأ ; ليس بمخلوق ابتدأ من غيره ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم مثل ما صنف أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " وغيره وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره وما صنفه أصحابه وأصحاب أصحابه : كابنيه صالح وعبد الله وحنبل وأبي داود السجستاني صاحب " السنن " والأثرم والمروذي وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري صاحب الصحيح nindex.php?page=showalam&ids=14274وعثمان بن سعيد الدارمي وإبراهيم الحربي وعبد الوهاب الوراق [ ص: 87 ] وعباس بن عبد العظيم العنبري وحرب بن إسماعيل الكرماني ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه وأخباره : كعبد الرحمن بن أبي حاتم وأبي بكر الخلال وأبي الحسن البناني الأصبهاني وأمثال هؤلاء ومن كان أيضا يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع : كأبي عيسى الترمذي صاحب الجامع وأبي عبد الرحمن النسائي وأمثالهما ومثل أبي محمد بن قتيبة وأمثاله وبسط هذا له موضع آخر .
وقد ذكرنا في " المسائل الطبرستانية " و " الكيلانية " بسط مذاهب الناس وكيف تشعبت وتفرعت في هذا الأصل .
والمقصود هنا أن كثيرا من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة فمنهم من يعظمهم ويقول إنه متبع لهم مع أنه مخالف لهم من حيث لا يشعر ومنهم من يظن أنهم كانوا لا يعرفون أصول الدين ولا تقريرها بالدلائل البرهانية وذلك لجهله بعلمهم ; بل لجهله بما جاء به الرسول من الحق الذي تدل عليه الدلائل العقلية مع السمعية ; فلهذا يوجد كثير من المتأخرين يشتركون في أصل فاسد ثم يفرع كل قوم عليه فروعا فاسدة يلتزمونها كما صرحوا في تكلم الله تعالى بالقرآن العربي وبالتوراة العبرية وما فيهما من حروف الهجاء مؤلفا أو مفردا لما رأوا أن ذلك بلغ بصفات المخلوقين اشتبه بصفات المخلوقين فلم يهتدوا لموضع [ ص: 88 ] الجمع والفرق فقال هؤلاء : هذا الذي يقرأ ويسمع مثل كلام المخلوقين فهو مخلوق .
وقال هؤلاء : هذا الذي من كلام الآدميين هو مثل كلام الله فيكون غير مخلوق كما ذكر Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل في " كتاب الإرشاد " عن بعض nindex.php?page=treesubj&link=28742_29455القائلين بأن القرآن مخلوق فقال : شبهة اعترض بها على بعض أئمتهم فقال : أقل ما في القرآن من أمارات الحدث كونه مشبها لكلامنا والقديم لا يشبه المحدث ومعلوم أنه لا يمكن دفع ذلك ; لأن قول القائل لغلامه يحيى : يا يحيى خذ الكتاب بقوة يضاهي قوله سبحانه حتى لا يميز السامع بينهما من حيث حسه إلا أن يخبره أحدهما بقصده والآخر بقصده فيميز بينهما بخبر القائل لا بحسه وإذا اشتبها إلى هذا الحد فكيف يجوز دعوى قدم ما يشابه المحدث ويسد مسده مع أنه إن جاز دعوى قدم الكلام مع كونه مشاهدا للمحدث جاز دعوى التشبيه بظواهر الآي والأخبار ولا مانع من ذلك فلما فزعنا نحن وأنتم إلى نفي التشبيه خوفا من جواب دخول القرآن بالحدث علينا كذلك يجب أن تفزعوا من القول بالقدم مع وجود الشبه حتى إن بعض أصحابكم يقول لقوة ما رأى من الشبه بينهما إن الكلام واحد والحروف غير مخلوقة فكيف يجوز أن يقال في الشيء الواحد إنه قديم محدث .
[ ص: 89 ] قلت : وهذا الذي حكى عنه Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البرزبيني ذكره في مصنفه فقال : ( دليل عاشر وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله تعالى وفي أسمائه وصفاته والكتاب بحروفه قديم ; وكذلك هاهنا . قال : فإن قيل : لا نسلم أن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها قيل : لا نسلم بل لها حرمة .
فإن قيل : لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها قيل : قد لا تمنع من قراءتها ومسها ويكون لها حرمة كبعض آية لا تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة وإنما لم تمنع من قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها كما يقال في الصبي يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه .
فإن قيل : فيجب إذا حلف بها حالف أن تنعقد يمينه وإذا خالف يمينه أن يحنث قيل له : كما في حروف القرآن مثله نقول هنا .
فإن قيل : أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله تعالى مثل قوله يا داود يا نوح يا يحيى وغير ذلك ; فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله وإن [ ص: 90 ] كانت في كتاب الله قديمة وفي خطاب الآدمي محدثة ؟ .
قيل : كل ما كان موافقا لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله وإن قصد به خطاب آدمي .
فإن قيل : فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدميا وهو في الصلاة أن لا تبطل صلاته .
قال : فإن قيل : أليس إذا قال : { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=12يا يحيى خذ الكتاب بقوة } ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقا ؟ وإن نوى به القرآن يكون قديما قيل له : في كلا الحالين يكون قديما ; لأن القديم عبارة عما كان موجودا فيما لم يزل والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن والنية لا تجعل المحدث قديما ولا القديم محدثا قال : ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ .
[ ص: 91 ] وقال أيضا : كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض ولا يشبهه من جميع أحواله ; لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها ا هـ .
( قلت : هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله مع أنه أجل من تكلم في هذه المسألة ولما كان جوابه مشتملا على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به .
وأجاب Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل عن سؤال الذين قالوا هذا مثل هذا بأن قال : الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث كما أن كونه عالما هو تبينه للشيء على أصلكم ومعرفته به على قولنا على الوجه الذي يتبينه الواحد منا وليس مماثلا لنا في كوننا عالمين . وكذلك كونه قادرا هو صحة الفعل منه سبحانه وتعالى وليست قدرته على الوجه الذي قدرنا عليها فليس الاشتراك في الحقيقة حاصلا والافتراق في القدم والحدوث حاصل .
قال : " وجواب آخر " لا نقول إن الله يتكلم بكلامه على [ ص: 92 ] الوجه الذي يتكلم به زيد بمعنى أنه يقول : يا يحيى فإذا فرغ من ذلك انتقل إلى قوله خذ الكتاب بقوة وترتب في الوجود كذلك بل هو سبحانه وتعالى يتكلم به على وجه تعجز عن مثله أدواتنا . فما ذكرته من الاشتباه من قول القائل يا يحيى خذ الكتاب يعود إلى اشتباه التلاوة بالكلام المحدث فأما أنه يشابه الكلام القائم بذاته فلا .
قال Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل : قالوا فهذا لا يجيء على مذهبكم ; فإن عندكم التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء . قيل : ليس معنى قولنا هي المتلو أنها هذه الأصوات المقطعة وإنما نريد به ما يظهر من الحروف القديمة في الأصوات المحدثة وظهورها في المحدث لا بد أن يكسبها صفة التقطيع لاختلاف الأنفاس وإدارة اللهوات ; لأن الآلة التي تظهر عليها لا تحمل الكلام إلا على وجه التقطيع وكلام الباري قائم بذاته على خلاف هذا التقطيع والابتداء والانتهاء والتكرار والبعدية والقبلية .
ومن قال ذلك لم يعرف حد القديم وادعى قدم الأعراض وتقطع القديم وتقطع القديم عرض لا يقوم بقديم ومن اعتقد أن كلام الله القائم بذاته على حد تلاوة التالي من القطع والوصل والتقريب والتبعيد والبعدية والقبلية فقد شبه الله بخلقه . ولهذا روي في الخبر " { أن موسى سأله بنو إسرائيل كيف سمعت كلام ربك ؟ قال كالرعد الذي لا يترجع } يعني ينقطع لعدم قطع الأنفاس وعدم الأنفاس والآلات والشفاه [ ص: 93 ] واللهوات ومن قال غير ذلك وتوهم أن الله تكلم على لسان التالي أو الكلام الذي قام بذاته على هذه الصفة من التقطيع والوصل والتقريب والتبعيد : فقد حكم به محدثا ; لأن الدلالة على حدوث العالم هو الاجتماع والافتراق ; ولأن هذه من صفاف الأدوات ا هـ .
( قلت فهذا الذي قاله Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل أقل خطأ مما قاله البرزبيني فإن ذلك مخالف للنص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أن من nindex.php?page=treesubj&link=1588تكلم في الصلاة بكلام الآدميين عامدا لغير مصلحتها عالما بالتحريم بطلت صلاته بالإجماع خلاف ما ذكره القاضي يعقوب ومتى قصد به التلاوة لم تبطل بالإجماع وإن قصد به التلاوة والخطاب ففيه نزاع وظاهر مذهب أحمد لا تبطل كمذهب الشافعي وغيره وقيل تبطل كقول أبي حنيفة وغيره .
وما ذكروه عن الصحابة حجة عليهم ; فإن قول nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب : { nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=60فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } هو كلام الله ولم يقصد علي أن يقول للخارجي : ولا يستخفنك الخوارج ; وإنما قصد أن يسمعه الآية وأنه عامل بها صابر لا يستخفه الذين لا يوقنون وابن مسعود قال لهم وهو بالكوفة : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=99ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } . ومعلوم أن مصر بلا تنوين هي مصر المدينة وهذه لم تكن بالكوفة . وابن مسعود إنما كان بالكوفة ; فعلم أنه قصد تلاوة الآية وقصد مع [ ص: 94 ] ذلك تنبيه الحاضرين على الدخول ; فإنهم سمعوا قوله ادخلوا فعلموا أنه أذن لهم في الدخول وإن كان هو تلا الآية فهذا هذا .
[ ص: 95 ] وهذا الأصل هو مما أنكره nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد على nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وأصحابه حتى على الحارث المحاسبي مع جلالة قدر الحارث وأمر أحمد بهجره وهجر الكلابية وقال : احذروا من حارث الآفة كلها من حارث فمات الحارث وما صلى عليه إلا نفر قليل بسبب تحذير nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد عنه مع أن فيه من العلم والدين ما هو أفضل من عامة من وافق nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب على هذا الأصل وقد قيل إن الحارث رجع عن ذلك وأقر بأن الله يتكلم بصوت كما حكى عنه ذلك صاحب " التعرف لمذهب التصوف " أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي .
وكثير من المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وافقوا nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب على هذا الأصل كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر .
واختلف كلام Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل في هذا الأصل فتارة يقول بقول nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وتارة يقول بمذهب السلف وأهل الحديث أن الله تقوم به الأمور الاختيارية ويقول إنه قام به أبصار متجددة حين تجدد المرئيات لم تكن قبل ذلك وقام به علم بأن كل شيء وجد غير العلم الذي كان أولا أنه سيوجد كما دل على ذلك عدة آيات في القرآن كقوله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143لنعلم من يتبع الرسول } وغير ذلك . وكلامه في هذا الأصل وغيره يختلف تارة يقول بهذا وتارة يقول بهذا فإن هذه المواضع مواضع [ ص: 96 ] مشكلة كثر فيها غلط الناس ; لما فيها من الاشتباه والالتباس .
والجواب الحق : أن nindex.php?page=treesubj&link=28743كلام الله لا يماثل كلام المخلوقين كما لا يماثل في شيء من صفاته صفات المخلوقين وقول القائل : إن الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث لفظ مجمل فإنا إذا قلنا : لله علم ولنا علم أو له قدرة ولنا قدرة أو له كلام ولنا كلام أو تكلم بصوت ونحن نتكلم بصوت وقلنا صفة الخالق وصفة المخلوق اشتركتا في الحقيقة - فإن أريد بذلك أن حقيقتهما واحدة بالعين فهذا مخالف للحس والعقل والشرع وإن أريد بذلك أن هذه مماثلة لهذه في الحقيقة وإنما اختلفتا في الصفات العرضية كما قال ذلك طائفة من أهل الكلام - وقد بين فساد ذلك في الكلام على " الأربعين " للرازي وغير ذلك - فهذا أيضا من أبطل الباطل وذلك يستلزم أن تكون حقيقة ذات الباري عز وجل مماثلة لحقيقة ذوات المخلوقين .
وإن أريد بذلك أنهما اشتركا في مسمى العلم والقدرة والكلام فهذا صحيح كما أنه إذا قيل : إنه موجود أو إن له ذاتا فقد اشتركا في مسمى الوجود والذات لكن هذا المشترك أمر كلي لا يوجد كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان فليس في الخارج شيء اشترك فيه مخلوقان كاشتراك الجزئيات في كلياتها بخلاف اشتراك الأجزاء في الكل فإنه يجب الفرق بين قسمة الكلي إلى جزئياته كقسمة الحيوان إلى [ ص: 97 ] ناطق وغير ناطق وقسمة الإنسان إلى مسلم وكافر وقسمة الاسم إلى معرب ومبني وقسمة الكل إلى أجزائه كقسمة العقار بين الشركاء وقسمة الكلام إلى اسم وفعل وحرف ففي الأول إنما اشتركت الأقسام في أمر كلي فضلا عن أن يكون الخالق والمخلوقون مشتركين في شيء موجود في الخارج وليس في الخارج صفة لله يماثل بها صفة المخلوق بل كل ما يوصف به الرب تعالى فهو مخالف بالحد والحقيقة ; لما يوصف به المخلوق أعظم مما يخالف المخلوق المخلوق وإذا كان المخلوق مخالفا بذاته وصفاته لبعض المخلوقات في الحد والحقيقة فمخالفة الخالق لكل مخلوق في الحقيقة أعظم من مخالفة أي مخلوق فرض لأي مخلوق فرض ولكن علمه ثبت له حقيقة العلم ولقدرته حقيقة القدرة ولكلامه حقيقة الكلام كما ثبت لذاته حقيقة الذاتية ولوجوده حقيقة الوجود وهو أحق بأن تثبت له صفات الكمال على الحقيقة من كل ما سواه .
فهذا هو المراد بقولنا : علمه يشارك علم المخلوق في الحقيقة فليس ما يسمع من العباد من أصواتهم مشابها ولا مماثلا لما سمعه موسى من صوته إلا كما يشبه ويماثل غير ذلك من صفاته لصفات المخلوقين فهذا في نفس تكلمه سبحانه وتعالى بالقرآن والقرآن عند nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كلامه تكلم به وتكلم بالقرآن العربي بصوت نفسه وكلم موسى بصوت نفسه الذي لا يماثل شيئا من أصوات العباد .
[ ص: 98 ] ثم إذا قرأنا القرآن فإنما نقرؤه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب فالقرآن الذي نقرؤه هو كلام الله مبلغا عنه لا مسموعا منه وإنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا الكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع العقل قال الله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=6وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=5905زينوا القرآن بأصواتكم } وقال nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في قول النبي صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=33998ليس منا من لم يتغن بالقرآن } قال يزينه ويحسنه بصوته كما قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=5905زينوا القرآن بأصواتكم } فنص أحمد على ما جاء به الكتاب والسنة إنا نقرأ القرآن بأصواتنا والقرآن كلام الله كله لفظه ومعناه سمعه جبريل من الله وبلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه محمد منه وبلغه محمد إلى الخلق والخلق يبلغه بعضهم إلى بعض ويسمعه بعضهم من بعض ومعلوم أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فبلغوه عنه كما قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=597332نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه } فهم سمعوا اللفظ من الرسول بصوت نفسه بالحروف التي تكلم بها وبلغوا لفظه بأصوات أنفسهم وقد علم الفرق بين من يروي الحديث بالمعنى لا باللفظ واللفظ المبلغ هو لفظ الرسول وهو كلام الرسول ; فإن كان صوت [ ص: 99 ] المبلغ ليس صوت الرسول وليس ما قام بالرسول من الصفات والإعراض فارقته وما قامت بغيره ; بل ولا تقوم الصفة والعرض بغير محله . وإذا كان هذا معقولا في صفات المخلوقين فصفات الخالق أولى بكل صفة كمال وأبعد عن كل صفة نقص والتباين الذي بين صفة الخالق والمخلوق أعظم من التباين الذي بين صفة مخلوق ومخلوق وامتناع الاتحاد والحلول بالذات للخالق وصفاته في المخلوق أعظم من الاتحاد والحلول بالذات للمخلوق وصفاته في المخلوق وهذه جمل قد بسطت في مواضع أخر .
هذا مع أن احتجاج الجهمية والمعتزلة بأن كلام المخلوق بقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=12يا يحيى خذ الكتاب بقوة } مثل كلام الخالق غلط باتفاق الناس حتى عندهم فإن الذين يقولون هو مخلوق يقولون إنه خلقه في بعض الأجسام إما الهواء أو غيره كما يقولون : إنه خلق الكلام في نفس الشجرة فسمعه موسى .
ومعلوم أن تلك الحروف والأصوات التي خلقها الله ليست مماثلة لما يسمع من العبد وتلك هي كلام الله المسموع منه عندهم ; كما أن أهل السنة يقولون الذي تكلم هو الله بمشيئته وليس ذلك مماثلا لصوت العبد .
[ ص: 100 ] وأما القائلون بقدم الكلام المعين سواء كان معنى أو حروفا أو أصواتا فيقولون : خلق لموسى إدراكا أدرك به ذلك القديم وبكل حال فكلام المتكلم إذا سمع من المبلغ عنه [ غير ما قام بنفس المتكلم المنشئ ] فكيف [ لا ] يكون ذلك في كلام الله تعالى ؟ .
فيجب على الإنسان في " مسألة الكلام " أن يتحرى أصلين : ( أحدهما nindex.php?page=treesubj&link=28743تكلم الله بالقرآن وغيره هل تكلم به بمشيئته وقدرته أم لا ؟ وهل تكلم بكلام قائم بذاته أم خلقه في غيره ؟ ( والثاني تبليغ ذلك الكلام عن الله وأنه ليس مما يتصف به الثاني وإن كان المقصود بالتبليغ الكلام المبلغ . وبسط هذا له موضع آخر .
ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها وكانوا يعملون ذلك بالحمرة ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف والكسرة بنقطة حمراء تحته والضمة بنقطة حمراء [ ص: 102 ] أمامه . ثم مدوا النقطة وصاروا يعملون الشدة بقولك " شد " ; ويعملون المدة بقولك " مد " وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين ; لأن الهمزة أخت العين ثم خففوا ذلك حتى صارت علامة الشدة مثل رأس السين وعلامة المدة مختصرة كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك وكما يختصر المحدثون أخبرنا وحدثنا فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل " أنا " وعلى شكل " ثنا " .
وتنازع العلماء هل يكره nindex.php?page=treesubj&link=24945_29576تشكيل المصاحف وتنقيطها ؟ على قولين معروفين وهما روايتان عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد لكن لا نزاع بينهم أن المصحف إذا شكل ونقط وجب احترام الشكل والنقط كما يجب احترام الحرف ولا تنازع بينهم أن مداد النقطة والشكل مخلوق كما أن مداد الحرف مخلوق ولا نزاع بينهم أن الشكل يدل على الإعراب والنقط يدل على الحروف وأن الإعراب من تمام الكلام العربي ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا : حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه . ولا ريب أن النقطة والشكلة بمجردهما لا حكم لهما ولا حرمة ولا ينبغي أن يجرد الكلام فيهما ولا ريب أن إعراب القرآن العربي من تمامه ويجب الاعتناء بإعرابه والشكل يبين إعرابه كما تبين الحروف المكتوبة للحرف المنطوق كذلك يبين الشكل المكتوب للإعراب المنطوق .
[ ص: 103 ] فهذه المسائل إذا تصورها الناس على وجهها تصورا تاما ظهر لهم الصواب وقلت الأهواء والعصبيات وعرفوا موارد النزاع فمن تبين له الحق في شيء من ذلك اتبعه ومن خفي عليه توقف حتى يبينه الله له وينبغي له أن يستعين على ذلك بدعاء الله ومن أحسن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة { nindex.php?page=hadith&LINKID=597334أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم } .
وقول القائل الآخر كلامه كتب بها : يقتضي أنه أراد بالحروف ما يتناول المنطوق والمكتوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=37063من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف } قال الترمذي : حديث صحيح . فهنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف نفس المداد وشكل المداد وإنما أراد الحرف المنطوق . وفي مراده بالحرف قولان : قيل هذا اللفظ المفرد . وقيل أراد صلى الله عليه وسلم بالحرف الاسم كما قال : ألف حرف ولام حرف وميم حرف .
ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ الكلمة إلا [ ص: 105 ] والمراد به الجملة التامة . فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك ; بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف هو لغة العرب والفاضل منهم يقول :
وكلمة بها كلام قد يؤم
ويقولون : العرب قد تستعمل الكلمة في الجملة التامة وتستعملها في المفرد وهذا غلط لا يوجد قط في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة .
ولهذا يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=597339فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا } " وفي لفظ : " { فأتموا } " فيظنون أن بين اللفظين خلافا وليس الأمر كذلك ; بل قوله : " فاقضوا " كقوله : " فأتموا " لم يرد بأحدهما الفعل بعد الوقت ; بل لا يوجد في كلام الشارع أمر بالعبادة في غير وقتها لكن الوقت وقتان : وقت عام ووقت خاص لأهل الأعذار : كالنائم والناسي إذا صليا بعد الاستيقاظ والذكر فإنما صليا في الوقت الذي أمر الله به فإن هذا ليس وقتا في حق غيرهما .
ومن أعظم nindex.php?page=treesubj&link=28962أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل [ ص: 107 ] على اصطلاح حادث فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها .
وما ذكر في مسمى " الكلام " ما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب فقال : واعلم " أن " في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكى وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما قولا ; وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء ; ولهذا سأل الخليل أصحابه : كيف تنطقون بالزاي من زيد ؟ فقالوا : زاي فقال نطقتم بالاسم وإنما الحرف زه ; فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء .
وكثيرا ما يوجد في كلام المتقدمين هذا " حرف من الغريب " يعبرون بذلك عن الاسم التام فقوله صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=597340فله بكل حرف } " مثله بقوله : " ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " . وعلى نهج ذلك : وذلك حرف والكتاب حرف ونحو ذلك . وقد قيل : إن ذلك أحرف والكتاب أحرف وروي ذلك مفسرا في بعض الطرق .
والنحاة اصطلحوا اصطلاحا خاصا فجعلوا لفظ " الكلمة " يراد [ ص: 108 ] به الاسم أو الفعل أو الحرف الذي هو من حروف المعاني ; لأن سيبويه قال في أول كتابه : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل . فجعل هذا حرفا خاصا وهو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ; لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب وقد عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفا فقيد كلامه بأن قال : وقسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل وأراد سيبويه أن الكلام ينقسم إلى ذلك قسمة الكل إلى أجزائه لا قسمة الكلي إلى جزئياته كما يقول الفقهاء بأن القسمة كما يقسم العقار والمنقول بين الورثة فيعطى هؤلاء قسم غير قسم هؤلاء كذلك الكلام هو مؤلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني فهو مقسوم إليها وهذا التقسيم غير تقسيم الجنس إلى أنواعه كما يقال : الاسم ينقسم إلى معرب ومبني .
وجاء الجزولي وغيره فاعترضوا على النحاة في هذا ولم يفهموا كلامهم فقالوا : كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له وأرادوا بذلك الاعتراض على قول الزجاج : الكلام اسم وفعل وحرف . والذي ذكره الزجاج هو الذي ذكره سيبويه وسائر أئمة النحاة وأرادوا بذلك القسمة الأولى المعروفة وهي قسمة الأمور الموجودة إلى أجزائها كما يقسم العقار والمال ولم يريدوا بذلك قسمة الكليات - التي لا توجد كليات [ ص: 109 ] إلا في الذهن - كقسمة الحيوان إلى ناطق وبهيم وقسمة الاسم إلى المعرب والمبني . فإن المقسم هنا هو معنى عقلي كلي لا يكون كليا إلا في الذهن .