الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 203 ] وللشيخ رحمه الله في قوله تعالى { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } هذا هو الصواب الذي عليه جمهور المفسرين : كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي ; وأهل اللغة كالفراء وابن قتيبة والزجاج وابن الأنباري وعبارة الفراء : يخوفكم بأوليائه كما قال : { لينذر بأسا شديدا من لدنه } ببأس شديد . وقوله : { لينذر يوم التلاق } وعبارة الزجاج : يخوفكم من أوليائه .

                قال ابن الأنباري : والذي نختاره في الآية يخوفكم أولياءه . تقول العرب : أعطيت الأموال : أي أعطيت القوم الأموال فيحذفون المفعول الأول ويقتصرون على ذكر الثاني . وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا ليس له في تخويف ناس بناس ضرورة فحذف الأول ليس مقصودا وهذا يسمى حذف اختصار كما يقال : فلان يعطي الأموال والدراهم .

                وقد قال بعض المفسرين : يخوف أولياءه المنافقين ونقل هذا [ ص: 204 ] عن الحسن والسدي وهذا له وجه سنذكره ; لكن الأول أظهر لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار كما قال قبلها : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا } الآيات . ثم قال : { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } فهي إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس .

                وقد قال : { يخوف أولياءه } ثم قال : { فلا تخافوهم } والضمير عائد إلى أولياء الشيطان الذين قال فيهم : { فاخشوهم } قبلها . وأما ذلك القول فالذي قاله فسرها من جهة المعنى وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه بالمؤمنين ; لأن سلطانه على أوليائه بخوف يدخل عليهم المخاوف دائما فالمخاوف منصبة إليهم محيطة بقولهم وإن كانوا ذوي هيئات وعدد وعدد فلا تخافوهم .

                وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم الكفار أو أنهم أرادوا المفعول الأول : أي يخوف المنافقين أولياءه وإلا فهو يخوف الكفار كما يخوف المنافقين ولو أنه أريد أنه يخوف أولياءه : أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه وهو قوله : { فلا تخافوهم } . وأيضا فهذا فيه نظر ; فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم كما قال : [ ص: 205 ] تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } وقال تعالى : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا }

                . ولكن الكفار يلقي الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين والشيطان لا يختار ذلك . قال تعالي : { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } وقال : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وقال : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله } . وفي حديث قرطبة أن جبريل قال : " إني ذاهب إليهم فمزلزل بهم الحصن " فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابهم هو من الله نصرة للمؤمنين . ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام فهم يوالون العدو فصاروا بذلك منافقين وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم كما قال تعالى : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } وقال تعالى { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت } الآيات . إلى قوله : { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم } فكلا القولين صحيح من حيث المعنى ; لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين كما دل عليه سياق [ ص: 206 ] الآية ولفظها . والله أعلم .

                وإذا جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم فجعله خائفا . فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين ويجعل ناسا خائفين منهم .

                ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان ولا يخاف الناس . كما قال تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون } بل يجب عليه أن يخاف الله فخوف الله أمر به وخوف الشيطان وأوليائه نهى عنه . وقال تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني } فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته والذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله .

                وقال : { وإياي فارهبون } . وبعض الناس يقول : يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك وهذا كلام ساقط لا يجوز ; بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدا لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله ; فإن من لا يخاف الله أخس وأذل أن يخاف فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان فالخوف منه قد نهى الله عنه والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية