الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقد ذكر البغوي وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } قولين . أحدهما : أن المستثنى هو الشافع . ومحل " من " الرفع .

                والثاني : هو المشفوع له . قال أبو الفرج : في معنى الآية قولان . أحدهما : أنه أراد بـ { الذين يدعون من دونه } آلهتهم . ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة . فقال { إلا من شهد بالحق } وهو شهادة أن لا إله إلا الله { وهم يعلمون } بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم . قال : وهذا مذهب الأكثرين منهم قتادة . [ ص: 401 ] والثاني أن المراد بـ { الذين يدعون } عيسى وعزيرا والملائكة الذين عبدهم المشركون لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد { إلا من شهد بالحق } وهي كلمة الإخلاص { وهم يعلمون } أن الله خلق عيسى وعزيرا والملائكة .

                وهذا مذهب قوم منهم مجاهد . وقال البغوي { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق } هم عيسى وعزير والملائكة . فإنهم عبدوا من دون الله . ولهم الشفاعة . وعلى هذا تكون " من " في محل رفع . وقيل " من " في محل خفض . وأراد بالذين يدعون : عيسى وعزيرا والملائكة . يعني : أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق . قال : والأول أصح . قلت : قد ذكر جماعة قول مجاهد وقتادة منهم ابن أبي حاتم .

                روى بإسناده المعروف - على شرط الصحيح - عن مجاهد قوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } عيسى وعزير والملائكة يقول : لا يشفع عيسى وعزير والملائكة { إلا من شهد بالحق } يعلم الحق . هذا لفظه . جعل " شفع " متعديا بنفسه وكذلك لفظ . وعلى هذا فيكون منصوبا لا يكون مخفوضا كما قاله البغوي . [ ص: 402 ] فإن الحرف الخافض إذا حذف انتصب الاسم . ويكون على هذا يقال : شفعته وشفعت له كما يقال : نصحته ونصحت له . و " شفع " أي صار شفيعا للطالب . أي لا يشفعون طالبا ولا يعينون طالبا { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } أن الله ربهم . وروي بإسناده عن قتادة { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } الملائكة وعيسى وعزير . أي أنهم قد عبدوا من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة . قلت : كلا القولين معناه صحيح . لكن التحقيق في تفسير الآية : أن الاستثناء منقطع . ولا يملك أحد من دون الله الشفاعة مطلقا . لا يستثنى من ذلك أحد عند الله . فإنه لم يقل : ولا يشفع أحد . ولا قال : لا يشفع لأحد بل قال { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } وكل من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة ألبتة .

                والشفاعة بإذن ليست مختصة بمن عبد من دون الله ; وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم لم يعبد كما عبد المسيح . وهو - مع هذا - له شفاعة ليست لغيره . فلا يحسن أن تثبت الشفاعة لمن دعي من دون الله دون من لم يدع . [ ص: 403 ] فمن جعل الاستثناء متصلا فإن معنى كلامه : أن من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة إلا أن يشهد بالحق وهو يعلم أو لا يشفع إلا لمن شهد بالحق وهو يعلم . ويبقى الذين لم يدعوا من دون الله لم تذكر شفاعتهم لأحد . وهذا المعنى لا يليق بالقرآن ولا يناسبه . وسبب نزول الآية يبطله أيضا . وأيضا فقوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } يتناول كل معبود من دونه . ويدخل في ذلك الأصنام . فإنهم كانوا يقولون : هم يشفعون لنا . قال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض }

                . فإذا قيل : إنه استثنى الملائكة والأنبياء كان في هذا إطماع لمن عندهم أن معبوديهم من دون الله يشفعون لهم . وهذا مما يبين فساد القول المذكور عن قتادة . فإنه إذا كان المعنى : أن المعبودين لا يشفعون إلا إذا كانوا ملائكة أو أنبياء كان في هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم إذا كانوا [ ص: 404 ] صالحين . والقرآن كله يبطل هذا المعنى .

                ولهذا قال تعالى { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } فبين أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الرب . فعلم : أنه لا بد أن يؤذن لهم فيمن يشفعون فيه وأنهم لا يؤذن لهم إذن مطلق . وأيضا فإن في القرآن : إذا نفى الشفاعة من دونه : نفاها مطلقا . فإن قوله { من دونه } إما أن يكون متصلا بقوله يملكون أو بقوله يدعون أو بهما . فالتقدير : لا يملك الذين يدعونهم الشفاعة من دونه . أو لا يملك الذين يدعونهم من دونه أن يشفعوا .

                وهذا أظهر . لأنه قال { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } فأخر " الشفاعة " وقدم " من دونه " . ومثل هذا كثير في القرآن يدعون من دون الله و يعبدون من دون الله كقوله { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } وقوله { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } . بخلاف ما إذا قيل : لا يملك الذين يدعون الشفاعة من دونه . [ ص: 405 ] فإن هذا لا نظير له في القرآن . واللفظ المستعمل في مثل هذا أن يقال : لا يملك الذين يدعون الشفاعة إلا بإذنه أو لمن ارتضى ونحو ذلك لا يقال في هذا المعنى " من دونه " فإن الشفاعة هي من عنده .

                فكيف تكون من دونه ; لكن قد تكون بإذنه وقد تكون بغير إذنه . وأيضا فإذا قيل { الذين يدعون } مطلقا . دخل فيه الرب تعالى . فإنهم كانوا يدعون الله ويدعون معه غيره .

                ولهذا قال { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } . والتقدير الثالث : لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة من دونه وهذا أجود من الذي قبله . لكن يرد عليه ما يرد على الأول . ومما يضعفهما : " أن الشفاعة " لم تذكر بعدها صلة لها . بل قال { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } فنفى ملكهم الشفاعة مطلقا . وهذا هو الصواب . وأن كل من دعي من دون الله : لا يملك الشفاعة . فإن المالك للشيء : هو الذي يتصرف فيه بمشيئته وقدرته .

                والرب تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه . فلا يملك أحد من المخلوقين الشفاعة بحال . ولا يقال في هذا " إلا بإذنه " إنما يقال ذلك في الفعل . فيقال { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } . [ ص: 406 ] وأما في الملك : فلا يمكن أن يكون غيره مالكا لها . فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال ولا يتصور أن يكون نبي فمن دونه مالكا لها . بل هذا ممتنع كما يمتنع أن يكون خالقا وربا .

                وهذا كما قال { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } فنفى الملك مطلقا . ثم قال { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه . لم يثبت أن مخلوقا يملك الشفاعة . بل هو سبحانه له الملك وله الحمد .

                لا شريك له في الملك قال تعالى { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } { الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا } . ولهذا - لما نفى الشفعاء من دونه - نفاهم نفيا مطلقا بغير استثناء . وإنما يقع الاستثناء : إذا لم يقيدهم بأنهم من دونه . كما قال تعالى { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } وكما قال تعالى { وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع } وكما قال تعالى { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } فلما قال " من دونه " نفى الشفاعة مطلقا .

                وإذا ذكر " بإذنه " لم يقل " من دونه " كقوله { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقوله { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية