الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقوله : { أفمن كان على بينة من ربه } كمن لم يكن قال الزجاج : وترك المعادلة ; لأن فيما بعده دليلا عليه وهو قوله : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } قال ابن قتيبة : لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إلى الدنيا وأرادوها جاء بهذه الآية وتقدير الكلام : أفمن كانت [ هذه ] حاله كمن يريد الدنيا ؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم إذ كان دليلا عليه وقال ابن الأنباري : إنما حذف لانكشاف المعنى وهذا كثير في القرآن .

                قلت : نظير هذه الآية من المحذوف : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } كمن ليس كذلك وقد قال بعد هذا : { ومن يكفر به من الأحزاب } وهذا هو القسم الآخر المعادل لهذا الذي هو على بينة من ربه وعلى هذا يكون معناها { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } ويكون أيضا معناها : { أفمن كان على بينة من ربه } أي بصيرة في دينه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وهذا كقوله : { أومن كان ميتا فأحييناه } الآية . وكقوله { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } وقوله : { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي } الآية .

                والمحذوف في مثل هذا النظم قد يكون غير ذلك كقوله : { أومن ينشأ في الحلية } أي تجعلون له من ينشأ في الحلية ولا بد من دليل على المحذوف وقد يكون المحذوف مثل أن يقال : أفمن هذه حاله يذم أو يطعن عليه أو يعرض عن متابعته أو يفتن أو يعذب كما قال : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } .

                وقد قيل في هذه الآية إن المحذوف : { أفمن زين له سوء عمله } فرأى الباطل حقا ؟ والقبيح حسنا كمن هداه الله فرأى الحق حقا والباطل باطلا والقبيح قبيحا والحسن حسنا ؟ وقيل : جوابه تحت قوله : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } لكن يرد عليه أن يقال : الاستفهام ما معناه إلا أن تقدر . أي : هذا تقدر أن تهديه أو ربك ؟ أو تقدر أن تجزيه كما قال : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } ولهذا قال : { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } وكما قال : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } الآية . وعلى هذا يكون معناها كمعنى قوله : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } .

                وعلى هذا فالمعنى هنا : { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى } يذم ويخالف ويكذب ونحو ذلك كقوله : { قل إني على بينة من ربي وكذبتم به } وحذف جواب [ ص: 80 ] الشرط وكقوله : { أرأيت إن كان على الهدى } { أو أمر بالتقوى } { أرأيت إن كذب وتولى } .

                فقد تبين أن معنى الآية من أشرف المعاني وهذا هو الذي ينتفع به كل أحد وأن الآية ذكرت من كان على بينة من ربه من الإيمان الذي شهد له القرآن فصار على نور من ربه وبرهان من ربه على ما دلت عليه البراهين العقلية والسمعية كما قال : { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } فالنور المبين المنزل يتناول القرآن . قال قتادة : بينة من ربكم وقال الثوري : هو النبي صلى الله عليه وسلم وقال البغوي : هذا قول المفسرين ولم أجده منقولا عن غير الثاني ولا ذكره ابن الجوزي عن غيره .

                وذكر في البرهان ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحجة . والثاني : أنه الرسول وذكر أنه القرآن عن قتادة . والذي رواه ابن أبي حاتم عن قتادة بالإسناد الثابت أنه بينة من الله والبينة والحجة تتناول آيات الأنبياء التي بعثوا بها فكل ما دل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهو برهان . قال تعالى : { فذانك برهانان من ربك } وقال لمن قال : لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى قل : هاتوا برهانكم .

                ومحمد هو الصادق المصدوق قد أقام الله على صدقه براهين كثيرة [ ص: 81 ] وصار محمد نفسه برهانا فأقام من البراهين على صدقه ; فدليل الدليل دليل وبرهان البرهان برهان وكل آية له برهان والبرهان اسم جنس لا يراد به واحد كما في قوله : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } ولو جاءوا بعده ببراهين كانوا ممتثلين .

                و " المقصود " أن ذلك البرهان يعلم بالعقل أنه دال على صدقه وهو بينة من الله كما قال قتادة وحجة من الله كما قال مجاهد والسدي : المؤمن على تلك البينة ويتلوه شاهد من الله وهو النور الذي أنزله مع البرهان . والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية