الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 106 ] فصل وقوله تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } فقد فصله بعد إحكامه ; بخلاف من تكلم بكلام لم يحكمه وقد يكون في الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره ; فهو سبحانه أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده كما قال : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } وقال : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } فهو سبحانه بينه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علم .

                وقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق والباطل فقال : { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } إلى قوله : { فهل أنتم مسلمون } فلما تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات هم وجميع من يستطيعون من دونه : كان في مضمون تحديه أن هذا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله من دون الله كما قال : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } .

                وحينئذ : فعلم أن [ ذلك ] من خصائص من أرسله الله وما كان [ ص: 107 ] مختصا بنوع فهو دليل عليه ; فإنه مستلزم له وكل ملزوم دليل على لازمه كآيات الأنبياء كلها فإنها مختصة بجنسهم .

                وهذا القرآن مختص بجنسهم ومن بين الجنس خاتمهم لا يمكن أن يأتي به غيره وكان ذلك برهانا بينا على أن الله أنزله وأنه نزل بعلم الله ; هو الذي أخبر بخبره وأمر بما أمر به كما قال : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه } الآية . وثبوت الرسالة ملزوم لثبوت التوحيد وأنه لا إله إلا الله من جهة أن الرسول أخبر بذلك ومن جهة أنه لا يقدر أحد على الإتيان بهذا القرآن إلا الله فإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله إلى غير ذلك من وجوه البيان فيه كما قد بسط ونبه عليه في غير هذا الموضع ; ولا سيما هذه السورة فإن فيها من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله وفيها من المواعظ والحكم والترغيب والترهيب ما لا يقدر قدره إلا الله .

                و " المقصود هنا " هو الكلام على قوله : { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد } حيث سأل السائل عن تفسيرها وذكر ما في التفاسير من كثرة الاختلاف فيها وأن ذلك الاختلاف يزيد الطالب عمى عن معرفة المراد الذي يحصل به الهدى والرشاد فإن الله تعالى إنما نزل القرآن ليهتدى به لا ليختلف فيه والهدى إنما يكون إذا عرفت معانيه فإذا حصل الاختلاف المضاد لتلك المعاني التي لا يمكن الجمع بينه [ ص: 108 ] وبينها لم يعرف الحق ولم تفهم الآية ومعناها ولم يحصل به الهدى والعلم الذي هو المراد بإنزال الكتاب .

                قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا .

                وقال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت وماذا عني بها . وقد قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } وتدبر الكلام إنما ينتفع به إذا فهم . وقال : { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } .

                فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ المبين ; والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل والعقل يتضمن العلم والعمل فمن عرف الخير والشر فلم يتبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلا ; ولهذا لا يعد عاقلا إلا من فعل ما ينفعه واجتنب ما يضره فالمجنون الذي لا يفرق بين هذا وهذا قد يلقي نفسه في المهالك وقد يفر مما ينفعه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية