الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 276 ] سورة المؤمنون قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في قوله تعالى { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون } طال الفصل بين أن واسمها وخبرها فأعاد ( أن لتقع على الخبر لتأكيده بها ; ونظير هذا قوله تعالى { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم } لما طال الكلام أعاد ( أن هذا قول الزجاج وطائفة وأحسن من هذا أن يقال : كل واحدة من هاتين الجملتين جملة شرطية مركبة من جملتين جزائيتين فأكدت الجملة الشرطية " بأن " على حد تأكيدها في قول الشاعر :

                إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء

                ثم أكدت الجملة الجزائية بـ " أن " إذ هي المقصودة على حد تأكيدها في قوله تعالى { والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين } .

                ونظير الجمع بين تأكيد الجملة الكبرى المركبة من الشرط والجزاء [ ص: 277 ] وتأكيد جملة الجزاء قوله تعالى { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فلا يقال في هذا " إن " أعيدت لطول الكلام ونظيره قوله تعالى { إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا } ونظيره : { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } فهما تأكيدان مقصودان لمعنيين مختلفين ألا ترى تأكيد قوله : { غفور رحيم } بـ " إن " غير تأكيد { من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } له بـ " أن " وهذا ظاهر لا خفاء به وهو كثير في القرآن وكلام العرب .

                وأما قوله تعالى { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } فهذا ليس من التكرار في شيء ; فإن قولهم خبر ( كان قدم على اسمها و " أن " قالوا : في تأويل المصدر وهو الاسم فهما اسم كان وخبرها والمعنى : وما كان لهم قول إلا قول : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا } ونظير هذا قوله تعالى { وما كان جواب قومه إلا أن قالوا } والجواب قول ; وتقول : ما لفلان قول إلا قول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " فلا تكرار أصلا .

                وأما قوله تعالى { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين } فهي من أشكل ما أورد ومما أعضل على الناس فهمها فقال كثير من أهل الإعراب والتفسير : إنه على التكرير المحض والتأكيد قال الزمخشري : { من قبله } من باب التوكيد كقوله تعالى : { فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها } ومعنى التوكيد فيه : الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار بذلك على قدر اهتمامهم بذلك . هذا كلامه . وقد اشتمل على دعويين باطلتين : إحداهما : قوله : إنه من باب التكرير .

                والثانية تمثيله ذلك بقوله تعالى : { فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها } فإن " في " الأولى على حد قولك زيد في الدار : أي حاصل أو كائن وأما الثانية فمعمولة للخلود وهو معنى آخر غير معنى مجرد الكون فلما اختلف العاملان ذكر الحرفين فلو اقتصر على أحدهما كان من باب الحذف لدلالة الآخر عليه ومثل هذا لا يقال له تكرار ونظير هذا أن تقول زيد في الدار نائم فيها أو ساكن فيها ونحوه مما هو جملتان مقيدتان بمعنيين .

                وأما قوله : { من قبل أن ينزل عليهم من قبله } فليس من التكرار بل تحته معنى دقيق والمعنى فيه : وإن كانوا من قبل أن ينزل [ ص: 279 ] عليهم الودق من قبل هذا النزول لمبلسين فهنا قبليتان : قبلية لنزوله مطلقا وقبلية لذلك النزول المعين أن لا يكون متقدما على ذلك الوقت فيئسوا قبل نزوله يأسين : يأسا لعدمه مرئيا ويأسا لتأخره عن وقته ; فقبل الأولى ظرف اليأس وقبل الثانية ظرف المجيء والإنزال .

                ففي الآية ظرفان معمولان وفعلان مختلفان عاملان فيهما وهما الإنزال والإبلاس فأحد الظرفين متعلق بالإبلاس والثاني متعلق بالنزول ; وتمثيل هذا : أن تقول إذا كنت معتادا للعطاء من شخص فتأخر عن ذلك الوقت ثم أتاك به قد كنت آيسا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية