الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل قال الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وقال فيها : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وقال فيها : { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } فذكر عدد الشهداء وأطلق صفتهم ولم يقيدهم بكونهم منا ولا ممن نرضى ولا من ذوي العدل كما قيد صفة الشهداء في غير هذا الموضع .

                ولهذا تنازع العلماء : هل شهادة الأربعة التي يجب بها الحد على الزاني مثل شهادة أهل الفسوق والعصيان وغيرهم هل تدرأ الحد عن القاذف ؟ على قولين في مذهب أحمد .

                " أحدهما " أنها تدرأ الحد عن القاذف وإن لم توجب حد الزنا على المقذوف كشهادة الزوج على امرأته أربع شهادات بالله فإن ذلك يدرأ حد القذف ولا يجب الحد على امرأته لمجرد ذلك ; لأنها تدفع العذاب عنها بشهادتها أربع شهادات ولو لم تشهد فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن أو يخلى سبيلها ؟ فيه نزاع مشهور بين العلماء فلا يلزم من درء الحد عن القاذف وجوب حد الزنا على المقذوف ; فإن كلاهما حد والحدود تدرأ بالشبهات والأربع شهادات للقاذف شبهة قوية ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثا درئ الحد عن القاذف ولم يجب الحد عنها عند أكثر العلماء ولو كان المقذوف غير محصن - مثل أن يكون مشهورا بالفاحشة - لم يحد قاذفه حد القذف ولم يحد هو حد الزنا لمجرد الاستفاضة [ ص: 352 ] وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد وقد اعتبر نصاب حد الزنا بأربعة شهداء .

                وكذلك تعتبر صفاتهم فلا يقام حد الزنا على مسلم إلا بشهادة مسلمين لكن يقال : لم يقيدهم بأن يكونوا عدولا مرضيين كما قيدهم في آية الدين بقوله : { ممن ترضون من الشهداء } وقال في آية الوصية : { اثنان ذوا عدل منكم } وقال في آية الرجعة { وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله } فقد أمرنا الله سبحانه بأن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا وهؤلاء هم الممتثلون ما أمرهم الله به بقوله { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } الآية . وفي قوله : { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } وقوله : { ولا تكتموا الشهادة } وقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } وقوله : { والذين هم بشهاداتهم قائمون } فهم يقومون بالشهادة بالقسط لله فيحصل مقصود الذي استشهده .

                " الوجه الثاني " أن كون شهادتهم مقبولة مسموعة لأنهم أهل العدل والرضى . فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء وقد نهى سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } الآية لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره [ ص: 353 ] وأما الفاسقان فصاعدا فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخرى وما ذكروه من عدد الشهود لا يعتبر في الحكم باتفاق العلماء في مواضع وعند جمهورهم قد يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك ويحكم بشاهد ويمين كما مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه { قضى بشاهد ويمين } رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة ورواه مسلم من حديث ابن عباس : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين } ورواه غيرهما ويدل على هذا أن الله لم يعتبر عند الأداء هذا القيد : لا في آية الزنا ولا في آية القذف بل قال : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد ولم يأمر به عند خبر الفاسقين فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد ; ولهذا قال العلماء : إذا استراب الحاكم في الشهود فرقهم وسألهم عن مكان الشهادة وزمانها وصفتها وتحملها وغير ذلك مما يتبين به اتفاقهم واختلافهم .

                وقوله تعالى { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } فهذا نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل لهم شهادة أبدا واحدا كانوا أو عددا ; بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل ; لأن الآية نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير وكان الذين قذفوا [ ص: 354 ] عائشة عددا ولم يكونوا واحدا لما رأوها قد قدمت صحبة صفوان بن المعطل السلمي بعد قفول العسكر وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها عدمت فرفع أصحاب الهودج هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ولم تكن فيه فلما رجعت لم تجد أحدا من الجيش فمكثت مكانها وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش فلما رآها أعرض بوجهه عنها وأناخ راحلته حتى ركبتها ثم ذهب بها إلى العسكر فكانت خلوته بها للضرورة كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة : مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة وقصة عائشة .

                وقد دلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين .

                ودلت أيضا على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور فإنه كان من جملتهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت كما في الصحيح عن عائشة وكان منهم حمنة بنت جحش وغيرها ومعلوم أنه لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون بعده شهادة أحد منهم لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن وهؤلاء ما زالوا مسلمين وقد نهى الله عن قطع صلتهم ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة وقصة عائشة كانت أعظم من قصة المغيرة ; لكن من [ ص: 355 ] رد شهادة القاذف بعد التوبة قد يقول : أرد شهادة من حد في القذف وهؤلاء لم يحدوا والأولون يجيبون بأجوبة .

                ( أحدها أنه قد روي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أولئك .

                و ( الثاني أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن وهم لا يقولون به كما هو مقرر في موضعه .

                و ( الثالث أن الذين اعتبروا الحد اعتبروه وقالوا : قد يكون القاذف صادقا وقد يكون كاذبا فإعراض المقذوف عن طلب حد القذف قد يكون لصدق القاذف فإذا طلب الحد ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد ; فإن الله هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سموات يتلى فإذا كانت شهادتهم بعد توبتهم مقبولة فشهادة غيرهم ممن شهد على غيرها بالقذف أولى بالقبول وقصة عمر بن الخطاب التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار في شأن المغيرة لما شهد عليه ثلاثة بالزنا وتوقف الرابع عن الشهادة فجلد أولئك الثلاثة ورد شهادتهم دليل على الفصلين جميعا كما دلت قصة عائشة على قبول شهادتهم بعد التوبة والجلد ; لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل عمر [ ص: 356 ] والمسلمون شهادتهما والثالث وهو أبو بكرة مع كونه من أفضلهم لم يتب فلما لم يتب لم يقبل المسلمون شهادته وكان من صالحي المسلمين وقد قال عمر تب أقبل شهادتك ; لكن إذا كان القرآن قد بين أن القذفة إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبدا ثم قال بعد ذلك : { وأولئك هم الفاسقون } { إلا الذين تابوا } فمعلوم أن قوله : { وأولئك هم الفاسقون } وصف ذم لهم زائد على ما ذكره من رد شهادتهم .

                وأما تفسير " العدالة " المشروطة في هؤلاء الشهداء : فإنها الصلاح في الدين والمروءة والصلاح في أداء الواجبات وترك الكبيرة والإصرار على الصغيرة . و " الصلاح في المروءة " استعمال ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه فإذا وجد هذا في شخص كان عدلا في شهادته وكان من الصالحين الأبرار . وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية أو رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك ; بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين .

                ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها ; بل قد يجب على الإنسان من حقوق الله وحقوق عباده ما لا يحصيه [ ص: 357 ] إلا الله تعالى مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنا ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته ; إما لعدم استشعار كثرة الواجبات وإما لالتفاتهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات وليس الأمر كذلك في الشريعة وبالجملة هذا معتبر في باب الثواب والعقاب والمدح والذم والموالاة والمعاداة وهذا أمر عظيم .

                وأما قول من يقول : الأصل في المسلمين العدالة فهو باطل ; بل الأصل في بني آدم الظلم والجهل كما قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } . ومجرد التكلم بالشهادتين لا يوجب انتقال الإنسان عن الظلم والجهل إلى العدل .

                و ( باب الشهادة مداره على أن يكون الشهيد مرضيا أو يكون ذا عدل يتحرى القسط والعدل في أقواله وأفعاله والصدق في شهادته وخبره وكثيرا ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات ; كما أن الصفات التي اعتبروها كثيرا ما توجد بدون هذا كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيرا ; لكن يقال : إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته : { عليكم بالصدق ; فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة } الحديث إلى آخره .

                [ ص: 358 ] فالصدق مستلزم للبر كما أن الكذب مستلزم للفجور فإذا وجد الملزوم وهو تحري الصدق وجد اللازم وهو البر وإذا انتفى اللازم وهو البر انتفى الملزوم وهو الصدق وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم وإذا انتفى اللازم وهو الفجور انتفى الملزوم وهو الكذب ; فلهذا استدل بعدم بر الرجل على كذبه وبعدم فجوره على صدقه .

                فالعدل الذي ذكره الفقهاء من انتفى فجوره وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة وإذا انتفى ذلك فيه انتفى كذبه الذي يدعوه إلى هذا الفجور والفاسق هو من عدم بره وإذا عدم بره عدم صدقه ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور . فالخطأ كالنسيان والعمد كالكذب . والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية