الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وقوله { الأكرم } يقتضي اتصافه بالكرم في نفسه وأنه الأكرم وأنه محسن إلى عباده فهو مستحق للحمد لمحاسنه وإحسانه .

                وقوله { ذو الجلال والإكرام } . فيه ثلاثة أقوال . قيل : أهل أن يجل وأن يكرم . كما يقال إنه { أهل التقوى } أي المستحق لأن [ ص: 318 ] يتقى . وقيل : أهل أن يجل في نفسه [ و ] أن يكرم أهل ولايته وطاعته . وقيل : أهل أن يجل في نفسه وأهل أن يكرم .

                ذكر الخطابي الاحتمالات الثلاثة ونقل ابن الجوزي كلامه فقال : قال أبو سليمان الخطابي : الجلال مصدر الجليل يقال : جليل بين الجلالة والجلال والإكرام مصدر أكرم يكرم إكراما . والمعنى أنه يكرم أهل ولايته وطاعته وأن الله يستحق أن يجل ويكرم ولا يجحد ولا يكفر به قال : ويحتمل أن يكون المعنى : يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم .

                ( قلت : وهذا الذي ذكره البغوي فقال : { ذو الجلال } العظمة والكبرياء والإكرام يكرم أنبياءه وأولياءه بلطفه مع جلاله وعظمته .

                قال الخطابي : وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين وهو الجلال مضافا إلى الله بمعنى الصفة له والآخر مضافا إلى العبد بمعنى الفعل كقوله تعالى { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } فانصرف أحد الأمرين إلى الله وهو المغفرة والآخر إلى العباد وهي التقوى .

                قلت : القول الأول هو أقربها إلى المراد مع أن الجلال هنا [ ص: 319 ] ليس مصدر جل جلالا بل هو اسم مصدر أجل إجلالا . كقول النبي صلى الله عليه وسلم { إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه و [ إكرام ] ذي السلطان المقسط } . فجعل إكرام هؤلاء من جلال الله أي من إجلال الله كما قال { والله أنبتكم من الأرض نباتا } . وكما يقال : كلمه كلاما وأعطاه عطاء والكلام والعطاء اسم مصدر التكليم والإعطاء .

                والجلال قرن بالإكرام وهو مصدر المتعدي فكذلك الإكرام . ومن كلام السلف : " أجلوا الله أن تقولوا كذا " . وفي حديث موسى : يا رب إني أكون على الحال التي أجلك أن أذكرك عليها . قال : " اذكرني على كل حال " .

                وإذا كان مستحقا للإجلال والإكرام لزم أن يكون متصفا في نفسه بما يوجب ذلك كما إذا قال : الإله هو المستحق لأن يؤله أي يعبد كان هو في نفسه مستحقا لما يوجب ذلك . وإذا قيل { هو أهل التقوى } كان هو في نفسه متصفا بما يوجب أن يكون هو المتقى .

                ومنه { قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع بعد [ ص: 320 ] ما يقول ربنا ولك الحمد : ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد . اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد } . أي هو مستحق لأن يثنى عليه وتمجد نفسه .

                والعباد لا يحصون ثناء عليه وهو كما أثنى على نفسه كذلك هو أهل أن يجل وأن يكرم . وهو سبحانه يجل نفسه ويكرم نفسه . والعباد لا يحصون إجلاله وإكرامه .

                والإجلال من جنس التعظيم والإكرام من جنس الحب والحمد وهذا كقوله له الملك وله الحمد . فله الإجلال والملك وله الإكرام والحمد .

                والصلاة مبناها على التسبيح في الركوع والسجود والتحميد والتوحيد في القيام والقعود والتكبير في الانتقالات كما قال جابر { كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك } رواه أبو داود .

                وفي الركوع يقول " سبحان ربي العظيم " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 321 ] : { إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا . أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم } .

                وإذا رفع رأسه حمد فقال { سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد } . فيحمده في هذا القيام كما يحمده في القيام الأول إذا قرأ أم القرآن .

                فالتحميد والتوحيد مقدم على مجرد التعظيم . ولهذا اشتملت الفاتحة على هذا أولها تحميد وأوسطها تمجيد . ثم في الركوع تعظيم الرب . وفي القيام يحمده ويثني عليه ويمجده .

                فدل على أن التعظيم المجرد تابع لكونه محمودا وكونه معبودا . فإنه يحب أن يحمد ويعبد ولا بد مع ذلك من التعظيم فإن التعظيم لازم لذلك .

                وأما التعظيم فقد يتجرد على الحمد والعبادة على أصل الجهمية . فليس ذلك بمأمور به ولا يصير العبد به لا مؤمنا ولا عابدا ولا مطيعا .

                وأبو عبد الله ابن الخطيب الرازي يجعل الجلال للصفات السلبية والإكرام للصفات الثبوتية فيسمي هذه " صفات الجلال " وهذه " صفات الإكرام " وهذا اصطلاح له وليس المراد هذا في قوله [ ص: 322 ] { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } .

                وقوله : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } وهو في مصحف أهل الشام تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام وهي قراءة ابن عامر فالاسم نفسه يذوى بالجلال والإكرام . وفي سائر المصاحف وفي قراءة الجمهور { ذي الجلال } فيكون المسمى نفسه .

                وفي الأولى { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } . فالمذوى وجهه سبحانه وذلك يستلزم أنه هو ذو الجلال والإكرام . فإنه إذا كان وجهه ذا الجلال والإكرام كان هذا تنبيها كما أن اسمه إذا كان ذا الجلال والإكرام كان تنبيها على المسمى .

                وهذا يبين أن المراد أنه يستحق أن يجل ويكرم .

                فإن الاسم نفسه يسبح ويذكر ويراد بذلك المسمى والاسم نفسه لا يفعل شيئا لا إكراما ولا غيره . ولهذا ليس في القرآن إضافة شيء من الأفعال والنعم إلى الاسم .

                ولكن يقال : { سبح اسم ربك الأعلى } { تبارك اسم ربك } ونحو ذلك . فإن اسم الله مبارك تنال معه البركة والعبد يسبح اسم ربه الأعلى فيقول " سبحان ربي الأعلى " { ولما نزل قوله { سبح اسم ربك الأعلى } قال : اجعلوها في سجودكم ; فقالوا سبحان ربي الأعلى } .

                فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول " سبحان اسم ربي الأعلى " . لكن قوله " سبحان ربي الأعلى " هو تسبيح لاسمه يراد به تسبيح المسمى لا يراد به تسبيح مجرد الاسم كقوله { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } .

                فالداعي يقول " يا الله " " يا رحمن " ومراده المسمى . وقوله { أيا ما } أي الاسمين تدعو ودعاء الاسم هو دعاء مسماه .

                وهذا هو الذي أراده من قال من أهل السنة : إن الاسم هو المسمى . أرادوا به أن الاسم إذا دعي وذكر يراد به المسمى . فإذا قال المصلي " الله أكبر " فقد ذكر اسم ربه ومراده المسمى .

                لم يريدوا به أن نفس اللفظ هو الذات الموجودة في الخارج . فإن فساد هذا لا يخفى على من تصوره ولو كان كذلك كان من قال " نارا " احترق لسانه . وبسط هذا له موضع آخر .

                والمقصود أن الجلال والإكرام مثل الملك والحمد كالمحبة والتعظيم . وهذا يكون في الصفات الثبوتية والسلبية . فإن كل سلب فهو متضمن [ ص: 324 ] للثبوت . وأما السلب المحض فلا مدح فيه .

                وهذا مما يظهر به فساد قول من جعل أحدهما للسلب والآخر للإثبات لا سيما إذا كان من الجهمية الذين ينكرون محبته ولا يثبتون له صفات توجب المحبة والحمد . بل إنما يثبتون ما يوجب القهر كالقدرة . فهؤلاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض وألحدوا في أسمائه وآياته بقدر ما كذبوا به من الحق كما بسط هذا في غير هذا الموضع .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية