الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                الوجه الحادي والعشرون أن النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت وأمر بخلاف الأمر والإثبات فإنه يستقل بنفسه وهذا لأن الإنسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم ابتداء ولا يقصد المعدوم ابتداء وقد قررت هذا فيما تقدم وبينت أن الإنسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم إلا بتوسط تصور الموجود فإذا لم يمكنه تصوره لم يمكنه قصده بطريق الأولى ; فإن القصد والإرادة مسبوق بالشعور والتصور والأمر في القصد والإرادة أوكد منه في الشعور والعلم فإن الإنسان يتصور الموجود والمعدوم ويخبر عنهما وأما إرادة المعدوم فلا يتصور من كل وجه وإنما إرادة عدم الشيء هي بغضه وكراهته فإن الإنسان إما أن يريد وجود الشيء أو عدمه أو لا يريد وجوده ولا عدمه فالأول هو أصل الإرادة والمحبة . وأما الثاني وهو إرادة عدمه فهو بغضه وكراهته وذلك مسبوق بتصور المبغض المكروه فصار البغض والكراهة للشيء المقتضي لتركه الذي هو مقصود الناهي وهو المطلوب من المنهي فرعا من جهتين : [ ص: 128 ] من جهة أن تصوره فرع على تصور المحبوب المراد المأمور به وأن قصد عدمه الذي هو بغضه وكراهته فرع على إرادة وجود المأمور به الذي هو حبه وإرادته وذلك لأن الإنسان إذا علم عدم شيء وأخبر عن عدمه مثل قولنا : أشهد أن لا إله إلا الله وقولنا : لا نبي بعد محمد وقولنا : ليس المسيح بإله ولا رب وقولنا : ذلك الكتاب لا ريب فيه إلى أمثال ذلك حتى ينتهي التمثيل إلى قول القائل : ليس الجبل ياقوتا ولا البحر زئبقا ونحو ذلك فإن هذه الجمل الخبرية النافية التي هي قضايا سلبية لولا تصور النفي والمنفي عنه لما أمكنه الإخبار بالنفي والحكم فلا بد أن يتصور النفي والمنفي عنه مثل تصور الجبل والياقوت .

                والمنفي هو عدم محض ونفس الإنسان التي هي الشاعرة العالمة المدركة بقواها وآلاتها لم تجد العدم ولم تفقهه ولم تصادفه ولم تحسه بشيء من حواسها الباطنة ولا الظاهرة ولا شعرت إلا بموجود لكن لما شعرت بموجود أخذ العقل والخيال يقدر في النفس أمورا تابعة لتلك الأمور الموجودة إما أمور مركبة وإما مشابهة لها فإنه أدرك الياقوت وأدرك الجبل ثم ركب في خياله جبل ياقوت وعرف جنس النبوة وعرف الزمان المتأخر عن مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ثم قدر نبيا في هذا الزمان المتأخر وعرف الإله والألوهية الثابتة لله رب [ ص: 129 ] العالمين ثم قدر وجودها بغيره من الموجودات .

                ثم المؤمن ينفي هذا المقدر من ألوهية غير الله تعالى ونبوة أحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم والكافر قد يعتقد ثبوت هذا القدر فيرى ثبوت الألوهية للشمس ; أو القمر ; أو الكواكب أو الملائكة أو النبيين أو بعضهم ; أو الصالحين أو بعضهم ; أو غيرهم من البشر أو الأوثان المصنوعة مثلا لبعض هذه الآلهة المتخذة من دون الله سبحانه فالمقصود أن الإنسان لم يمكنه تصور عدم شيء ولا الإخبار به إلا بعد أن يتصور وجودا قاس به عليه ; وقدر به شيئا آخر ; ثم نفى ذلك المقيس المقدر به ; ثم أثبته والفرع المقيس المقدر تبع للأصل المقيس عليه المقدر به فلا يتصور العدم إلا بطريق القياس والتمثيل والتفريع لا بطريق الاستقلال والحقيقة والتأصيل وإن كان بعض الموجودات لا يمكن الناس أو بعضهم أن يتصوره في الدنيا إلا بطريق القياس أو التمثيل لكن من الموجودات ما يدركه الإنسان حقيقة وتأويلا ; ومنها ما يدركه قياسا أو تمثيلا ; كمدركات المنام .

                وأما المعدوم فلا يدركه إلا قياسا أو تمثيلا ; إذ ليس له حقيقة ينالها الحي المدرك وتباشرها الذوات الشاعرة ; إذ حقيقة كل شيء في الخارج عين ماهيته . وأما ما يقدر في العقل من الماهيات والحقائق فقد يكون له حقيقة في الوجود الخارجي العيني الكوني ; وقد لا يكون [ ص: 130 ] وهكذا الأمر في القصد والحب والإرادة من جهتين : من جهة أن المقصود المحبوب أو المكروه المبغض لا يتصور حبه ولا بغضه إلا بعد نوع من الشعور به والشعور في الموجود أصل ; وفي المعدوم فرع فالحب والبغض الذي يتبعه أولى بذلك .

                ومن جهة أن الإنسان إنما يحب ما يلائمه ويناسبه وله به لذة ونعيم ونفسه لا تلائم العدم المحض والنفي الصرف ; ولا تناسبه ; ولا له في العدم المحض لذة ولا سرور ولا نعمة ولا نعيم ولا خير أصلا ; ولا فائدة قطعا ; بل محبة العدم المحض كعدم المحبة واللذة بالعدم المحض كعدم اللذة وما ليس شيء أصلا كيف يكون فيه منفعة أو لذة أو خير ؟ ولكن نفسه تحب ما لها فيه منفعة ولذة مثل محبة اللبن عند ولادته ; ولغير ذلك من الأغذية ثم لما يلتذ به من منكوح ونحوه ثم ما يلتذ به من شرف ورياسة ونحو ذلك ثم ما يلتذ به من العقل والعلم والإيمان ويحب ما يدفع عنه المضرة من اللباس والمساكن والخير الذي يقيه عدوه من الحر والبرد والآدميين المؤذين ; والدواب المؤذية وغير ذلك فيحب وجود ما ينفعه وعدم ما يضره .

                والنافع له إنما هو أمر موجود كما تقدم وأما الضار له فتارة [ ص: 131 ] يراد به عدم النافع فإن أكثر ما يضره عدم النافع . وعدم النافع إنما يقصد بوجود النافع . وتارة يضره أمر موجود فذلك الذي يضره لم يبغض منه إلا مضرته له ومضرته له إزالة نعيمه أو تحصيل عذابه .

                فإن قيل : ما ذكرته معارض ; فإن القرآن من أوله إلى آخره يأمر بالتقوى ويحض عليها حتى لم يذكر في القرآن شيء أكثر منها وهي وصية الله إلى الأولين والآخرين وهي شعار الأولياء وأول دعوة الأنبياء وأهل أصحاب العاقبة ; وأهل المقعد الصدق إلى غير ذلك من صفاتها . والتقوى هي ترك المنهي عنه وقد قال سهل بن عبد الله : أعمال البر يعملها البر والفاجر ولن يصبر عن الآثام إلا صديق .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية