الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 194 ] نقل الشيخ علم الدين : أن الشيخ - قدس الله روحه - قال : - في مجلس نائب السلطنة الأفرم - لما سأله عن اعتقاده وكان الشيخ أحضر عقيدته " الواسطية " قال - هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام ; فقرئت في المجلس .

                ثم نقل علم الدين عن الشيخ أنه قال : كان سبب كتابتها أن بعض قضاة واسط من أهل الخير والدين شكا ما الناس فيه - ببلادهم في دولة التتر - من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم ; وسألني أن أكتب له " عقيدة " فقلت له : قد كتب الناس عقائد أئمة السنة ; فألح في السؤال ، وقال : ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت . فكتبت له هذه العقيدة - وأنا قاعد بعد العصر فأشار الأمير لكاتبه فقرأها على الحاضرين حرفا حرفا فاعترض بعضهم على قولي فيها : ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه ، ووصفه به رسوله : من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل .

                ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره : إما وجوبا وإما جوازا .

                [ ص: 195 ] فقلت : إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف ; لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه ; وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة فنفيت ما ذمه الله من التحريف ولم أذكر فيها لفظ التأويل ; لأنه لفظ له عدة معان ; كما بينته في موضعه من القواعد . فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه . وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف .

                وقلت لهم ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه ; لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال : { ليس كمثله شيء } .

                وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويطنبون في هذا ويعرضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك .

                فقلت قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل ; وإنما اخترت هذين الاسمين : لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة - التي تلقاها العلماء بالقبول - الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا فنفيت ذلك اتباعا لسلف الأمة . وهو أيضا منفي بالنص .

                فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة [ ص: 196 ] الموصوف وحقيقة صفاته غير معلومة وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله كما قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في " التأويل والمعنى " والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله .

                وكذلك التمثيل منفي بالنص والإجماع القديم مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف ; إذ كنه الباري غير معلوم للبشر .

                وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف : وهو " إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها ; إذ الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات : يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف ; فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف " .

                فقال أحد كبراء المخالفين فحينئذ يجوز أن يقال هو جسم ; لا كالأجسام .

                فقلت له أنا وبعض الفضلاء إنما قيل : إنه يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا .

                وأول من قال إن الله جسم : هشام بن الحكم الرافضي .

                وأما قولنا : فهم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم . فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة فقيل لي أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد وأرادوا قطع النزاع لكونه مذهبا متبوعا .

                [ ص: 197 ] فقلت : ما خرجت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ; ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا .

                وقلت : قد أمهلت من خالفني في شيء منها ثلاث سنين فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك وعلي أن آتي بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرته من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث وغيرهم .

                ثم طلب المنازع الكلام في ( مسألة الحرف والصوت فقلت : هذا الذي يحكى عن أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلي كذب مفترى لم يقل ذلك أحمد ولا أحد من علماء المسلمين .

                وأخرجت كراسا وفيه ما ذكره أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " عن الإمام أحمد وما جمعه صاحبه أبو بكر المروذي من كلام أحمد وكلام أئمة زمانه في أن من قال : لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال : غير مخلوق فهو مبتدع .

                قلت : فكيف بمن يقول لفظي أزلي ؟ فكيف بمن يقول صوتي قديم فقال المنازع : إنه انتسب إلى أحمد أناس من الحشوية والمشبهة ونحو هذا الكلام فقلت : المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم : فهؤلاء أصناف الأكراد كلهم شافعية وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر ، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية ; وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم والكرامية المجسمة كلهم حنفية .

                [ ص: 198 ] وقلت له : من في أصحابنا حشوي بالمعنى الذي تريده ؟ الأثرم أبو داود المروذي الخلال ، أبو بكر عبد العزيز أبو الحسن التميمي بن حامد القاضي ، أبو يعلى أبو الخطاب بن عقيل ; ورفعت صوتي وقلت : سمهم قل لي من منهم ؟ . أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة وتندرس معالم الدين كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون : القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين ; وأن الصوت والمداد قديم أزلي . من قال هذا ؟ وفي أي كتاب وجد عنهم هذا ؟ قل : لي . وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه والمقدمة التي نقلها عنهم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية