الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل رحمه الله هل الشرع المطهر ينكر ما تفعله الشياطين الجانة من مسها وتخبيطها وجولان بوارقها على بني آدم واعتراضها ؟ فهل لذلك معالجة بالمخرقات والأحراز والعزائم والأقسام والرقى والتعوذات والتمائم ؟ وأن بعض الناس قال : لا يحكم عليهم ; لأن الجن يرجعون إلى الحقائق عند عامرة الأجساد بالبوار وأن هذه الخواتم المتخذة مع كل إنسان من سرياني وعبراني وعجمي وعربي ليس لها برهان وأنها من مختلق الأقاويل وخرافات الأباطيل وأنه ليس لأحد من بني آدم من القوة ولا من القبض بحيث يفعل ما ذكرنا من متولي هذا الشأن على ممر الدهور والأوقات ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله ، وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها . وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة قال الله تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وفي [ ص: 277 ] الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم } . وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قلت لأبي : إن أقواما يقولون : إن الجني لا يدخل في بدن المصروع فقال : يا بني يكذبون هذا يتكلم على لسانه .

                وهذا الذي قاله أمر مشهور فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما . والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله وقد يجر المصروع وغير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول آلات وينقل من مكان إلى مكان ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان .

                وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك .



                وأما معالجة المصروع بالرقى والتعوذات فهذا على وجهين : [ ص: 278 ] فإن كانت الرقى والتعاويذ مما يعرف معناها ومما يجوز في دين الإسلام أن يتكلم بها الرجل داعيا الله ذاكرا له ومخاطبا لخلقه ونحو ذلك فإنه يجوز أن يرقى بها المصروع ويعوذ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه أذن في الرقى ما لم تكن شركا } . { وقال : من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل } .

                وإن كان في ذلك كلمات محرمة مثل أن يكون فيها شرك أو كانت مجهولة المعنى يحتمل أن يكون فيها كفر فليس لأحد أن يرقي بها ولا يعزم ولا يقسم وإن كان الجني قد ينصرف عن المصروع بها فإن ما حرمه الله ورسوله ضرره أكثر من نفعه كالسيما وغيرها من أنواع السحر فإن الساحر السيماوي وإن كان ينال بذلك بعض أغراضه كما ينال السارق بالسرقة بعض أغراضه وكما ينال الكاذب بكذبه وبالخيانة بعض أغراضه وكما ينال المشرك بشركه وكفره بعض أغراضه وهؤلاء وإن نالوا بعض أغراضهم بهذه المحرمات فإنها تعقبهم من الضرر عليهم في الدنيا والآخرة أعظم مما حصلوه من أغراضهم .

                فإن الله بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فكل ما أمر الله به ورسوله فمصلحته راجحة على مفسدته ومنفعته راجحة على المضرة . وإن كرهته النفوس . كما قال تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } الآية .

                فأمر بالجهاد وهو مكروه للنفوس لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من ألمه بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية فإن مصلحة حصول العافية له راجحة على ألم شرب الدواء . وكذلك التاجر الذي يتغرب عن وطنه ويسهر ويخاف ويتحمل هذه المكروهات مصلحة الربح الذي يحصل له راجحة على هذه المكاره . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات } .

                وقد قال تعالى في حق الساحر : { ولا يفلح الساحر حيث أتى } وقال تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } - إلى قوله - { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } فبين سبحانه أن هؤلاء يعلمون أن الساحر ما له في الآخرة من نصيب . وإنما يطلبون بذلك بعض أغراضهم في الدنيا { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } آمنوا واتقوا بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه لكان ما يأتيهم به على ذلك في الدنيا والآخرة خير لهم مما يحصل لهم بالسحر . قال الله تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } . وقال : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } . وقال : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة } [ ص: 280 ] الآيتين . وقال : { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } .

                والأحاديث فيما يثيب الله عبده المؤمن على الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة كثيرة جدا وليس للعبد أن يدفع كل ضرر بما شاء ولا يجلب كل نفع بما شاء بل لا يجلب النفع إلا بما فيه تقوى الله ولا يدفع الضرر إلا بما فيه تقوى الله فإن كان ما يفعله من العزائم والأقسام والدعاء والخلوة والسهر ونحو ذلك مما أباحه الله ورسوله فلا بأس به وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله لم يفعله .

                فمن كذب بما هو موجود من الجن والشياطين والسحر وما يأتون به على اختلاف أنواعه - كدعاء الكواكب وتخريج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية وما ينزل من الشياطين على كل أفاك أثيم فالشياطين التي تنزل عليهم ويسمونها روحانية الكواكب - وأنكروا دخول الجن في أبدان الإنس وحضورها بما يستحضرون به من العزائم والأقسام وأمثال ذلك كما هو موجود فقد كذب بما لم يحط به علما .

                ومن جوز أن يفعل الإنسان بما رآه مؤثرا من هذه الأمور من غير أن يزن ذلك بشريعة الإسلام - فيفعل ما أباحه الله ويترك [ ص: 281 ] ما حرم الله - وقد دخل فيما حرمه الله ورسوله إما من الكفر وإما من الفسوق وإما العصيان بل على كل أحد أن يفعل ما أمر الله به ورسوله ويترك ما نهى الله عنه ورسوله .

                ومما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم من التعوذ ; فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : { من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه لم يزل عليه من الله حافظ . ولم يقربه شيطان حتى يصبح } وفي السنن أنه كان يعلم أصحابه أن يقول أحدهم : { أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون } . { ولما جاءته الشياطين بلهب من نار أمر بهذا التعوذ : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن }

                . فقد جمع العلماء من الأذكار والدعوات التي يقولها العبد إذا أصبح وإذا أمسى وإذا نام وإذا خاف شيئا وأمثال ذلك من الأسباب ما فيه بلاغ . فمن سلك مثل هذه السبيل فقد سلك سبيل أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومن دخل في سبيل أهل الجبت والطاغوت الداخلة في الشرك والسحر فقد خسر الدنيا والآخرة وبذلك [ ص: 282 ] ذم الله من ذمه من مبدلة أهل الكتاب . حيث قال : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } { واتبعوا ما تتلو الشياطين على } - إلى قوله - { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } والله سبحانه وتعالى أعلم .




                الخدمات العلمية