الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 423 ] وكذلك من كفر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم ببدعة ابتدعها ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله فإنه يجب نهيه عن ذلك وعقوبته بما يزجره ولو بالقتل أو القتال .

                فإنه إذا عوقب المعتدون من جميع الطوائف ، وأكرم المتقون من جميع الطوائف ; كان ذلك من أعظم الأسباب التي ترضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

                وتصلح أمر المسلمين .

                ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر ; فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم .

                ( فالأول مثل شرائع الإسلام : وهي الصلوات الخمس في مواقيتها وإقامة الجمعة والجماعات من الواجبات والسنن الراتبات : كالأعياد وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح وصلاة الجنائز وغير ذلك .

                وكذلك الصدقات المشروعة والصوم المشروع وحج البيت الحرام .

                ومثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره ; ومثل الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

                ومثل سائر ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة ومثل إخلاص الدين لله والتوكل على الله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما [ ص: 424 ] سواهما ، والرجاء لرحمة الله ، والخشية من عذابه والصبر لحكم الله والتسليم لأمر الله ومثل : صدق الحديث والوفاء بالعهود وأداء الأمانات إلى أهلها ، وبر الوالدين وصلة الأرحام ، والتعاون على البر والتقوى والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك والعدل في المقال والفعال ; ثم الندب إلى مكارم الأخلاق ; مثل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ; قال الله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين } { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم } { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } .

                وأما " المنكر " الذي نهى الله عنه ورسوله فأعظمه الشرك بالله وهو أن يدعو مع الله إلها آخر ; إما الشمس وإما القمر أو الكواكب ; أو ملكا من الملائكة أو نبيا من الأنبياء ; أو رجلا من الصالحين أو أحدا من الجن أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم أو غير ذلك مما يدعى من دون الله تعالى أو يستغاث به أو يسجد له فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله .

                وقد حرم الله قتل النفس بغير حقها وأكل أموال الناس بالباطل إما [ ص: 425 ] بالغصب وإما بالربا أو الميسر كالبيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وتطفيف المكيال والميزان والإثم والبغي بغير الحق .

                وكذلك مما حرمه الله تعالى أن يقول الرجل على الله ما لا يعلم مثل أن يروي عن الله ورسوله أحاديث يجزم بها وهو لا يعلم صحتها أو يصف الله بصفات لم ينزل بها كتاب من الله ولا أثارة من علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كانت من صفات النفي والتعطيل مثل قول الجهمية : إنه ليس فوق العرش ولا فوق السموات ; وإنه لا يرى في الآخرة ; وإنه لا يتكلم ولا يحب ونحو ذلك مما كذبوا به الله ورسوله أو كانت من صفات الإثبات والتمثيل مثل من يزعم أنه يمشي في الأرض أو يجالس الخلق أو أنهم يرونه بأعينهم أو أن السموات تحويه وتحيط به أو أنه سار في مخلوقاته إلى غير ذلك من أنواع الفرية على الله .

                وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فإن الله شرع لعباده المؤمنين عبادات ; فأحدث لهم الشيطان عبادات ضاهاها بها مثل أنه شرع لهم عبادة الله وحده لا شريك له ; فشرع لهم شركاء ; وهي عبادة ما سواه والإشراك به .

                وشرع لهم الصلوات الخمس وقراءة القرآن فيها والاستماع [ ص: 426 ] له ; والاجتماع لسماع القرآن خارج الصلاة أيضا فأول سورة أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم { اقرأ باسم ربك الذي خلق } أمر في أولها بالقراءة ; وفي آخرها بالسجود بقوله تعالى : { واسجد واقترب } .

                ولهذا كان أعظم الأذكار التي في الصلاة قراءة القرآن ; وأعظم الأفعال السجود لله وحده لا شريك له وقال تعالى : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } وقال تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } .

                وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى رضي الله عنهما ذكرنا ربنا .

                فيقرأ وهم يستمعون { ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى رضي الله عنه وهو يقرأ ; فجعل يستمع لقراءته فقال : يا أبا موسى : مررت بك البارحة فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت لحبرته لك تحبيرا وقال : لله أشد أذنا أي استماعا إلى الرجل يحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } .

                وهذا هو سماع المؤمنين وسلف الأمة وأكابر المشايخ كمعروف الكرخي والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ونحوهم .

                وهو سماع المشايخ [ ص: 427 ] المتأخرين الأكابر كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين وغيرهم من المشايخ - رحمهم الله - .

                وأما المشركون فكان سماعهم كما ذكره الله تعالى في كتابه ; بقوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } .

                قال السلف : المكاء الصفير .

                والتصدية التصفيق باليد فكان المشركون يجتمعون في المسجد الحرام يصفقون ويصوتون يتخذون ذلك عبادة وصلاة فذمهم الله على ذلك وجعل ذلك من الباطل الذي نهى عنه .

                فمن اتخذ نظير هذا السماع عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله فقد ضاهى هؤلاء في بعض أمورهم وكذلك لم تفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله أكابر المشايخ .

                وأما سماع الغناء على وجه اللعب فهذا من خصوصية الأفراح للنساء والصبيان كما جاءت به الآثار فإن دين الإسلام واسع لا حرج فيه .

                وعماد الدين الذي لا يقوم إلا به هو الصلوات الخمس المكتوبات ويجب على المسلمين من الاعتناء بها ما لا يجب من الاعتناء بغيرها .

                كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله : إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة .

                [ ص: 428 ] وهي أول ما أوجبه الله من العبادات والصلوات الخمس تولى الله إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وقت فراق الدنيا جعل يقول : { الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم } وهي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله ; وآخر ما يفقد من الدين .

                فإذا ذهبت ذهب الدين كله ; وهي عمود الدين فمتى ذهبت سقط الدين .

                قال النبي صلى الله عليه وسلم { رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله } وقد قال الله في كتابه : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } .

                قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره : إضاعتها تأخيرها عن وقتها ; ولو تركوها كانوا كفارا .

                وقال تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } والمحافظة عليها : فعلها في أوقاتها وقال تعالى : { فويل للمصلين } { الذين هم عن صلاتهم ساهون } وهم الذين يؤخرونها حتى يخرج الوقت .

                وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجوز تأخير صلاة النهار إلى الليل ولا تأخير صلاة الليل إلى النهار ; لا لمسافر ولا لمريض ولا غيرهما .

                لكن يجوز عند الحاجة أن .

                يجمع المسلم بين صلاتي النهار وهي الظهر والعصر في وقت إحداهما ويجمع بين صلاتي الليل وهي المغرب والعشاء في وقت إحداهما وذلك لمثل المسافر والمريض وعند المطر ونحو ذلك من الأعذار .

                [ ص: 429 ] وقد أوجب الله على المسلمين أن يصلوا بحسب طاقتهم كما قال الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } فعلى الرجل أن يصلي بطهارة كاملة وقراءة كاملة وركوع وسجود كامل فإن كان عادما للماء ; أو يتضرر باستعماله لمرض أو برد أو غير ذلك ; وهو محدث أو جنب يتيمم الصعيد الطيب ; وهو التراب .

                يمسح به وجهه ويديه ويصلي ; ولا يؤخرها عن وقتها باتفاق العلماء .

                وكذلك إذا كان محبوسا أو مقيدا أو زمنا أو غير ذلك صلى على حسب حاله ; وإذا كان بإزاء عدوه صلى أيضا صلاة الخوف قال الله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } إلى قوله : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } إلى قوله : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } .

                ويجب على أهل القدرة من المسلمين أن يأمروا بالصلاة كل أحد من الرجال والنساء حتى الصبيان .

                قال النبي صلى الله عليه وسلم { مروهم بالصلاة لسبع ; واضربوهم على تركها لعشر ; وفرقوا بينهم في المضاجع } .

                والرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، فمن العلماء من [ ص: 430 ] يقول : يكون مرتدا كافرا لا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين .

                ومنهم من يقول يكون كقاطع الطريق وقاتل النفس والزاني المحصن .

                وأمر الصلاة عظيم شأنها أن تذكر ههنا فإنها قوام الدين وعماده وتعظيمه تعالى لها في كتابه فوق جميع العبادات ; فإنه سبحانه يخصها بالذكر تارة ويقرنها بالزكاة تارة وبالصبر تارة وبالنسك تارة كقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } وقوله : { فصل لربك وانحر } وقوله : { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } { لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } .

                وتارة يفتتح بها أعمال البر ويختمها بها ; كما ذكره في سورة { سأل سائل } وفي أول سورة " المؤمنون " .

                قال تعالى : { قد أفلح المؤمنون } { الذين هم في صلاتهم خاشعون } { والذين هم عن اللغو معرضون } { والذين هم للزكاة فاعلون } { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } { والذين هم على صلواتهم يحافظون } { أولئك هم الوارثون } { الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله وحده ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية