الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سئل شيخ الإسلام : العالم الرباني " تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية " رحمه الله تعالى . ما قول السادة العلماء أئمة الدين في " آيات الصفات " كقوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } وقوله : { ثم استوى على العرش } وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } إلى غير ذلك من آيات الصفات و " أحاديث الصفات " كقوله : صلى الله عليه وسلم { إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن } وقوله : { يضع الجبار قدمه في النار } إلى غير ذلك وما قالت العلماء فيه وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى .

                التالي السابق


                فأجاب - رضي الله عنه - : الحمد لله رب العالمين . قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 6 ] والسابقون الأولون : من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ; وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره ; فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ; ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا وأمره أن يقول : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } .

                فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأنزل معه الكتاب بالحق ; ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره : أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه .

                فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا [ ص: 7 ] ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة وقال : { تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } وقال فيما صح عنه أيضا : { ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم } .

                وقال أبو ذر : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما . وقال { عمر بن الخطاب : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فذكر بدء الخلق ; حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه } رواه البخاري .

                ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين - وإن دقت - أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب . بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام ثم إذا كان قد وقع ذلك منه : فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه .

                ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - كانوا غير [ ص: 8 ] عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق . وكلاهما ممتنع .

                ( أما الأول : فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه ; أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته .

                وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر . وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي - الذي هو من أقوى المقتضيات - أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضا عن الله وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى ; فكيف يقع في أولئك ؟ وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه : فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم .

                ثم الكلام في هذا الباب عنهم : أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف ; بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها : من أن " طريقة السلف أسلم [ ص: 9 ] وطريقة الخلف أعلم وأحكم " - وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنى صحيحا .

                فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف : إنما أتوا من حيث ظنوا : أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات .

                فهذا الظن الفاسد أوجب " تلك المقالة " التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف ; فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم . وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف .

                وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين ; فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع ; فإن النفي إنما اعتمدوا فيه [ ص: 10 ] على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه .

                فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين : كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة ; لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله .

                ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة ; بل في غاية الضلالة . كيف يكون هؤلاء المتأخرون - لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول :

                لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر
                على ذقن أو قارعا سن نادم

                وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم .

                نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
                وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
                ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

                [ ص: 11 ] لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ; فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن . اقرأ في الإثبات : { الرحمن على العرش استوى } { إليه يصعد الكلم الطيب } واقرأ في النفي : { ليس كمثله شيء } { ولا يحيطون به علما } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ا ه .

                ويقول الآخر منهم : لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان وها أنا أموت على عقيدة أمي ا هـ .

                ويقول الآخر منهم : أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام . ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر : لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضلون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون : أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة [ ص: 12 ] ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة - لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته - من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم ؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم : أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان وإنما قدمت " هذه المقدمة " لأن من استقرت هذه المقدمة عنده عرف طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه وبشهادة الأمة على ذلك وبدلالات كثيرة ; وليس غرضي واحدا معينا وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء .

                وإذا كان كذلك : فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها ثم عامة كلام الصحابة والتابعين ثم كلام سائر الأئمة : مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى وهو فوق كل شيء وهو على كل شيء وإنه فوق العرش وأنه فوق السماء : مثل قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } { إني متوفيك ورافعك إلي } { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } { بل رفعه الله إليه } { تعرج الملائكة والروح إليه } { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } { يخافون ربهم من فوقهم } { ثم استوى على العرش } في ستة مواضع { الرحمن على العرش استوى } { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } { تنزيل من حكيم حميد } { منزل من ربك بالحق } إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة .

                وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه ; وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار : فيخرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم .

                وفي الصحيح في حديث الخوارج : { ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء } وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره { ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل : ربنا الله الذي في السماء } وذكره .

                وقوله في حديث الأوعال { والعرش فوق ذلك والله فوق عرشه وهو يعلم [ ص: 14 ] ما أنتم عليه } رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وقوله في الحديث الصحيح للجارية { أين الله ؟ قالت في السماء قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله قال : أعتقها فإنها مؤمنة } .

                وقوله في الحديث الصحيح : { إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي } وقوله في حديث قبض الروح { حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى } .

                { وقول عبد الله بن رواحة الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه :

                شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا
                وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا

                } وقول { أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه وقال : آمن شعره وكفر قلبه حيث قال : -

                مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
                بالبناء الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريرا
                شرجعا ما يناله بصر العين ترى دونه الملائك صورا

                } وقوله في الحديث الذي في المسند : { إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا } . وقوله في الحديث : { يمد يديه إلى السماء [ ص: 15 ] يقول يا رب يا رب } . إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينا من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين - أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام ; إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته .

                ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مائين أو ألوفا . ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف الأمة - لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف - حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا .

                ولم يقل أحد منهم قط إن الله ليس في السماء ولا إنه ليس على العرش ولا إنه بذاته في كل مكان ولا إن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه و ( لا إنه لا متصل ولا منفصل ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها ; بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن { النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يقول : ألا هل بلغت ؟ فيقولون : نعم . فيرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكبها إليهم ويقول : اللهم اشهد غير مرة } وأمثال ذلك كثيرة .

                فلئن كان الحق ما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في [ ص: 16 ] الكتاب والسنة ; من هذه العبارات ونحوها ; دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا فكيف يجوز على الله تعالى ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم على خير الأمة : أنهم يتكلمون دائما بما هو إما نص وإما ظاهر في خلاف الحق ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط ولا يدلون عليه لا نصا ولا ظاهرا ; حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها .

                لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا ; لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة : أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير ; بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين .

                فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء : إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة .

                ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به - سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن - وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به .

                [ ص: 17 ] ثم هم ههنا فريقان : ( أكثرهم يقولون : ما لم تثبته عقولكم فانفوه - ( ومنهم من يقول : بل توقفوا فيه - وما نفاه قياس عقولكم - الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافا أكثر من جميع من على وجه الأرض - فانفوه وإليه عند التنازع فارجعوا . فإنه الحق الذي تعبدتكم به ; وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبت ما لم تدركه عقولكم - على طريقة أكثرهم - فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه ; لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة ووحشي الألفاظ وغرائب الكلام . أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات ; هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين .

                وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم وهو لازم لجماعتهم لزوما لا محيد عنه ومضمونه : أن كتاب الله لا يهتدي به في معرفة الله وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ; بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة - وهم المشركون - والمجوس وبعض الصابئين .

                وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ; ولا يرتفع الخلاف به ; إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم وقد أمروا أن يكفروا بهم . وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } .

                فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون : إنا قصدنا الإحسان علما وعملا بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية .

                ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل : إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين أو الصابئين أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم مثل فلان وفلان أو عمن قال كقولهم ; لتشابه قلوبهم . قال الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه } الآية .

                ولازم هذه المقالة : أن لا يكون الكتاب هدى للناس ولا بيانا ولا شفاء [ ص: 19 ] لما في الصدور ولا نورا ولا مردا عند التنازع لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون : إنه الحق الذي يجب اعتقاده : لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصا ولا ظاهرا . وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله : { ولم يكن له كفوا أحد } { هل تعلم له سميا } .

                وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السموات ونحو ذلك بقوله : { هل تعلم له سميا } لقد أبعد النجعة وهو إما ملغز وإما مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين .

                ولازم هذه المقالة : أن يكون ترك الناس بلا رسالة : خيرا لهم في أصل دينهم . لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد ; وإنما الرسالة زادتهم عمى وضلالة .

                يا سبحان الله كيف لم يقل الرسول يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة : هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه . ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم أو اعتقدوا كذا وكذا . فإنه الحق وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاقبلوه وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه ؟ .

                ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث [ ص: 20 ] وسبعين فرقة فقد علم ما سيكون . ثم قال : { إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله } .

                وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية { هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي } .

                فهلا قال من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقادات : فهو ضال ؟ وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة - في هذه المقالة - وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين .

                ثم أصل هذه المقالة - مقالة التعطيل للصفات - إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين ; فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام - أعني أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وأن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك - هو الجعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان ; وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه .

                وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم : اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم .

                [ ص: 21 ] وكان الجعد بن درهم هذا - فيما قيل - من أهل حران وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة - بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم - ونمرود هو ملك الصابئة الكلدانيين المشركين كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس وفرعون ملك مصر والنجاشي ملك الحبشة وبطليموس ملك اليونان وقيصر ملك الروم . فهو اسم جنس لا اسم علم .

                فكانت الصابئة - إلا قليلا منهم - إذ ذاك على الشرك وعلماؤهم هم الفلاسفة وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركا ; بل مؤمنا بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .

                وقال : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .

                لكن كثيرا منهم أو أكثرهم كانوا كفارا أو مشركين ; كما أن كثيرا من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفارا أو مشركين فأولئك الصابئون - الذين كانوا إذ ذاك - كانوا كفارا أو مشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل .

                [ ص: 22 ] ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب : أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة .

                وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته وأخذها الجهم أيضا - فيما ذكره الإمام أحمد وغيره - لما ناظر " السمنية " بعض فلاسفة الهند - وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات - فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين .

                ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية : زاد البلاء ; مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم .

                ولما كان في حدود المائة الثالثة : انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية ; بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم : كثير في ذمهم وتضليلهم .

                [ ص: 23 ] وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس - مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه " تأسيس التقديس " ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم - هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه ; وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا ولهم كلام حسن في أشياء .

                فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري صنف كتابا سماه : ( رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته وجهة غيره ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي : علم حقيقة ما كان عليه السلف وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم .

                ثم إذا رأى الأئمة - أئمة الهدى - قد أجمعوا على ذم المريسية وأكثرهم [ ص: 24 ] كفروهم أو ضللوهم وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي : تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب وإنما أشير إشارة إلى مبادئ الأمور والعاقل يسير وينظر . وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر ههنا إلا قليلا منه ; مثل كتاب السنن للالكائي والإبانة لابن بطة والسنة لأبي ذر الهروي والأصول لأبي عمرو الطلمنكي وكلام أبي عمر بن عبد البر والأسماء والصفات للبيهقي وقبل ذلك السنة للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي عبد الله بن منده ولأبي أحمد العسال الأصبهانيين . وقبل ذلك السنة للخلال والتوحيد لابن خزيمة وكلام أبي العباس بن سريج والرد على الجهمية لجماعة : مثل البخاري وشيخه عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي وقبل ذلك السنة لعبد الله بن أحمد والسنة لأبي بكر بن الأثرم والسنة لحنبل وللمروزي ولأبي داود السجستاني ولابن أبي شيبة والسنة لأبي بكر بن أبي عاصم وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري وكتاب الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم .

                وكلام أبي العباس عبد العزيز المكي صاحب الحيدة في الرد على الجهمية وكلام نعيم بن حماد الخزاعي وكلام غيرهم وكلام الإمام أحمد بن حنبل [ ص: 25 ] وإسحاق بن راهويه ويحيى بن سعيد ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم . وقبل : لعبد الله بن المبارك وأمثاله وأشياء كثيرة .

                وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره . وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير .

                فإذا كان أصل هذه المقالة - مقالة التعطيل والتأويل - مأخوذا عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود فكيف تطيب نفس مؤمن - بل نفس عاقل - أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين



                [ ص: 26 ] فصل ثم القول الشامل في جميع هذا الباب : أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون ; الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث قال الإمام أحمد رضي الله عنه لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث .

                ومذهب السلف : أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي ; بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه ; لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول وأفصح الخلق في بيان العلم وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد .

                وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة وله أفعال حقيقة : فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم [ ص: 27 ] عليه واستلزام الحدوث سابقة العدم ; ولافتقار المحدث إلى محدث ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى .

                ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله . فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته .

                وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل : فهو جامع بين التعطيل والتمثيل . أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ; فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل مثلوا أولا وعطلوا آخرا وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى .

                فإنه إذا قال القائل : لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا وكل ذلك من المحال ونحو ذلك من الكلام : فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم . إما استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم من سائر الأجسام وصار هذا مثل قول المثل : إذا كان للعالم صانع فإما أن [ ص: 28 ] يكون جوهرا أو عرضا . وكلاهما محال ; إذ لا يعقل موجود إلا هذان . وقوله : إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك ; إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا فإن كليهما مثل وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين .

                والقول الفاصل : هو ما عليه الأمة الوسط ; من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك .

                ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها .

                واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلا ; لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير .

                ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة - من المتأولين لهذا الباب - في أمر مريج فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل ومن يحيل أن لله علما وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو [ ص: 29 ] ذلك يقول : إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل ; بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة : يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش : يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل .

                ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء : إنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله .

                فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة ؟ فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال : " أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء " .

                وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر وهو من وجوه : - ( أحدها بيان أن العقل لا تحيل ذلك . و ( الثاني أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل .

                و ( الثالث أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها بالاضطرار كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان . فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم وسائر ما جاءت به النبوات .

                ( الرابع : أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص ; وإن [ ص: 30 ] كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك التفصيل وإنما يعلمه مجملا إلى غير ذلك من الوجوه . على أن الوجوه الأساطين من هؤلاء الفحول : معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية .

                وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ; ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأنه بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر .

                والإيمان بالله واليوم الآخر : يتضمن الإيمان بالمبدأ والمعاد وهو الإيمان بالخلق والبعث كما جمع بينهما في قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } وقال تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } وقال تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } وقد بين الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى الله به عباده وكشف به مراده .

                ومعلوم للمؤمنين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من غيره بذلك وأنصح من غيره للأمة وأفصح من غيره عبارة وبيانا بل هو أعلم الخلق بذلك وأنصح الخلق للأمة وأفصحهم فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة .

                ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته : كمل [ ص: 31 ] كلامه وفعله وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه وإما من عجزه عن بيان علمه وإما لعدم إرادته البيان .

                والرسول هو الغاية في كمال العلم والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين والغاية في قدرته على البلاغ المبين - ومع وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة : يجب وجود المراد ; فعلم قطعا أن ما بينه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر : حصل به مراده من البيان وما أراده من البيان فهو مطابق لعلمه وعلمه بذلك أكمل العلوم . فكل من ظن أن غير الرسول أعلم بهذا منه أو أكمل بيانا منه أو أحرص على هدي الخلق منه : فهو من الملحدين لا من المؤمنين .

                والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم في هذا الباب على سبيل الاستقامة . وأما المنحرفون عن طريقهم : فهم " ثلاث طوائف " : أهل التخييل وأهل التأويل وأهل التجهيل .

                ( فأهل التخييل : هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف ومتفقه . فإنهم يقولون : إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور لا أنه بين به الحق ولا هدى به الخلق ولا أوضح به الحقائق .

                ثم هم على قسمين : منهم من يقول : إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه . ويقولون : إن من الفلاسفة الإلهية من علمها وكذلك من الأشخاص [ ص: 32 ] الذين يسمونهم الأولياء من علمها ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين . وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية : باطنية الشيعة وباطنية الصوفية .

                ومنهم من يقول : بل الرسول علمها لكن لم يبينها وإنما تكلم بما يناقضها وأراد من الخلق فهم ما يناقضها ; لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق .

                ويقول هؤلاء : يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل . قالوا : لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريق التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد . فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر .

                ( وأما الأعمال فمنهم من يقرها ومنهم من يجريها هذا المجرى . ويقول : إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض ويؤمر بها العامة دون الخاصة فهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم .

                ( وأما أهل التأويل فيقولون : إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني ولا دلهم عليها ; ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها ومقصوده امتحانهم وتكليفهم [ ص: 33 ] وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه ويعرف الحق من غير جهته وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك .

                والذين قصدنا الرد في هذه الفتيا عليهم : هم هؤلاء ; إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهورا بخلاف هؤلاء فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة وهم - في الحقيقة - لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا ; لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص - نصوص المعاد - نظير ما ادعوه في نصوص الصفات . فقالوا لهم : نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان وقد علمنا فساد الشبه المانعة منه .

                وأهل السنة يقولون لهم : ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات . ونصوص الصفات في الكتب الإلهية : أكثر وأعظم من نصوص المعاد . ويقولون لهم : معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه ; بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئا منها أحد من العرب .

                فعلم أن إقرار العقول بالصفات : أعظم من إقرارها بالمعاد وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به [ ص: 34 ] وأيضا ; فقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات فلو كان هذا مما بدل وحرف لكان إنكار ذلك عليهم أولى فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجبا منهم وتصديقا لها ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة أهل الإثبات مثل لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك ; بل عابهم بقولهم : { يد الله مغلولة } وقولهم : { إن الله فقير ونحن أغنياء } وقولهم : إنه استراح لما خلق السموات والأرض فقال تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } .

                والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث ; وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن . فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل فالأول أولى بالبطلان .

                ( وأما الصنف الثالث وهم ( أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف . يقولون : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات ولا جبريل يعرف معاني الآيات ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك .

                وكذلك قولهم في أحاديث الصفات : إن معناها لا يعلمه إلا الله مع أن الرسول تكلم بها ابتداء فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه .

                [ ص: 35 ] وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } فإنه وقف أكثر السلف على قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } . وهو وقف صحيح لكن لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره ; وبين " التأويل " الذي انفرد الله تعالى بعلمه ; وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو " التأويل " المذكور في كلام المتأخرين وغلطوا في ذلك .

                فإن لفظ " التأويل " يراد به ثلاث معان : " فالتأويل " في اصطلاح كثير من المتأخرين هو : صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلا على اصطلاح هؤلاء ; وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك وأن للنصوص تأويلا يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله ولا يعلمه المتأولون .

                ثم كثير من هؤلاء يقولون : تجري على ظاهرها فظاهرها مراد مع قولهم : إن لها تأويلا بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله . وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة : من أصحاب " الأئمة الأربعة " وغيرهم .

                ( والمعنى الثاني " أن التأويل " هو تفسير الكلام - سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه - وهذا هو " التأويل " في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم . وهذا " التأويل " يعلمه الراسخون في العلم وهو موافق لوقف من وقف من [ ص: 36 ] السلف عند قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم وكلا القولين حق باعتبار . كما قد بسطناه في موضع آخر ; ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا وكلاهما حق .

                ( والمعنى الثالث أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها - وإن وافقت ظاهره - فتأويل ما أخبر الله به في الجنة - من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك - هو الحقائق الموجودة أنفسها ; لا ما يتصور من معانيها في الأذهان ويعبر عنه باللسان وهذا هو " التأويل " في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف أنه قال : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } وقال تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .

                وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله . وتأويل " الصفات " هو الحقيقة التي انفرد الله تعالى بعلمها وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف - كمالك وغيره - : الاستواء معلوم والكيف مجهول ; فالاستواء معلوم - يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة أخرى - وهو من [ ص: 37 ] التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى .

                وقد روي عن ابن عباس ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : - تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل فمن ادعى علمه فهو كاذب .

                وهذا كما قال تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر } . وكذلك علم وقت الساعة ونحو ذلك فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى .

                وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه كما قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } وقال : { أفلم يدبروا القول } فأمر بتدبر القرآن لا بتدبر بعضه .

                وقال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا .

                [ ص: 38 ] وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية وأسأله عنها . وقال الشعبي : ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق : ما سئل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه .

                وهذا باب واسع قد بسط في موضعه .



                والمقصود هنا : التنبيه على أصول " المقالات الفاسدة " التي أوجبت الضلالة في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن من جعل الرسول غير عالم بمعاني القرآن الذي أنزل إليه ولاجبريل - جعله غير عالم بالسمعيات ولم يجعل القرآن هدى ولا بيانا للناس .

                ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية فلا يجعلون عند الرسول وأمته في " باب معرفة الله عز وجل " لا علوما عقلية ولا سمعية ; وهم قد شاركوا الملاحدة في هذه من وجوه متعددة وهم مخطئون فيما نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى السلف من الجهل كما أخطأ في ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة .

                ونحن نذكر من " ألفاظ السلف " بأعيانها " وألفاظ من نقل مذهبهم " - إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع - ما يعلم به مذهبهم . [ ص: 39 ] روى أبو بكر البيهقي في " الأسماء والصفات " بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال : كنا - والتابعون متوافرون - : نقول إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته .

                وقد حكى الأوزاعي - وهو أحد " الأئمة الأربعة " في عصر تابع التابعين : الذين هم " مالك " إمام أهل الحجاز و " الأوزاعي " إمام أهل الشام و " الليث " إمام أهل مصر و " الثوري " إمام أهل العراق - حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية .

                وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته ; ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك .

                وروى أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " عن الأوزاعي قال : سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا : - أمروها كما جاءت .

                وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال : سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي : عن الأخبار التي جاءت في الصفات . فقالوا : أمروها كما جاءت . وفي رواية : فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف .

                فقولهم - رضي الله عنهم - " أمروها كما جاءت " رد على المعطلة وقولهم : " بلا كيف " رد على الممثلة . والزهري ومكحول : هما أعلم التابعين في زمانهم [ ص: 40 ] والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما .

                وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول : قال " عمر بن عبد العزيز " : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا . الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد من خلق الله تعالى تغييرها ولا النظر في شيء خالفها من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا .

                وروى الخلال بإسناد - كلهم أئمة ثقات - عن سفيان بن عيينة . قال : سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله : { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى . قال : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق .

                وهذا الكلام مروي عن " مالك بن أنس " تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه .

                ( منها : ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى ; قال : كنا عند مالك بن أنس ; فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله : [ ص: 41 ] { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . وما أراك إلا مبتدعا ; ثم أمر به أن يخرج .

                فقول ربيعة ومالك : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب موافق لقول الباقين : أمروها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة .

                ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه - على ما يليق بالله - لما قالوا : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ولما قالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم . وأيضا : فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى ; وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات .

                وأيضا : فإن من ينفي الصفات الخبرية - أو الصفات مطلقا - لا يحتاج إلى أن يقول بلا كيف فمن قال : إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول بلا كيف فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف .

                وأيضا : فقولهم : أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان ; فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن [ ص: 42 ] يقال : أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد ; أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ بلا كيف ; إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول .

                وروى الأثرم في " السنة " وأبو عبد الله بن بطة في " الإبانة " وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون - وهو أحد " أئمة المدينة الثلاثة " الذين هم مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب - وقد سئل عما جحدت به الجهمية : " أما بعد : فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها في صفة " الرب العظيم " الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحصرت العقول دون معرفة قدرته وردت عظمته العقول فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة . وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير وإنما يقال " كيف " لمن لم يكن مرة ثم كان . فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو . وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى ؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى - يعرفه عارف أو يحد قدره واصف ؟ - على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه . الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق [ ص: 43 ] صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرا يجول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر ; لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .

                اعرف - رحمك الله - غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها ; إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف ؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته ؟ فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد { استهوته الشياطين في الأرض حيران } فصار يستدل - بزعمه - على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } فقال : لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون . إلى أن قال : - وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة ; لأنه قد [ ص: 44 ] عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا .

                { وقال المسلمون : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب . قالوا : لا . قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا . قال : فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك } .

                وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض } { وقال لثابت بن قيس : لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة } { وقال فيما بلغنا إن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب إن ربنا ليضحك ؟ قال : نعم قال لا نعدم من رب يضحك خيرا } . إلى أشباه لهذا مما لا نحصيه .

                وقال تعالى : { وهو السميع البصير } { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } وقال تعالى : { ولتصنع على عيني } وقال تعالى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وقال تعالى : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .

                فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه وما تحيط به قبضته : إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم [ ص: 45 ] فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه - لا هذا ولا هذا - لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف .

                اعلم - رحمك الله - أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة : فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيبا ; ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرا .

                وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك - من ذكر صفة ربك - فلا تكلفن علمه بعقلك ; ولا تصفه بلسانك ; واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكار ما وصف منها ; فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه : فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها .

                فقد - والله - عز المسلمون ; الذين يعرفون المعروف وبهم يعرف ; وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر ; يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما بلغهم مثله عن نبيه فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن .

                [ ص: 46 ] وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمي وما وصف الرب تعالى من نفسه .

                والراسخون في العلم - الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها - لا ينكرون صفة ما سمي منها جحدا ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا ; لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين " .

                وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام " فتدبره وانظر كيف أثبت الصفات ونفى علم الكيفية - موافقا لغيره من الأئمة - وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا كما تقوله الجهمية - أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون محدثا .



                وفي كتاب " الفقه الأكبر " المشهور عند أصحاب أبي حنيفة ; الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع " الحكم بن عبد الله البلخي " قال : سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال : لا تكفرن أحدا بذنب ولا تنف أحدا به من الإيمان ; وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ; وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا توالي أحدا دون أحد ; وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل . [ ص: 47 ] قال أبو حنيفة : الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم ; ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير . قال أبو مطيع : " الحكم بن عبد الله " قلت : أخبرني عن أفضل الفقه . قال : تعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة . وذكر مسائل " الإيمان " ثم ذكر مسائل " القدر " والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه .

                ثم قال : قلت : فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك ؟ قال لا . قلت : ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة ؟ قال هو كذلك ; لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام . قال : وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة .

                إلى أن قال : قال أبو حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض : فقد كفر لأن الله يقول : { الرحمن على العرش استوى } وعرشه فوق سبع سموات .

                قلت : فإن قال إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال هو كافر ; لأنه أنكر أن يكون في السماء ; لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل - وفي لفظ - سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض . قال قد كفر . قال لأن الله [ ص: 48 ] يقول : { الرحمن على العرش استوى } وعرشه فوق سبع سموات قال فإنه يقول على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء قال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر .

                ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه : أنه كفر الواقف الذي يقول : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ; فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء ; أو ليس في السماء ولا في الأرض ؟ واحتج على كفره بقوله : { الرحمن على العرش استوى } قال : وعرشه فوق سبع سموات .

                وبين بهذا أن قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } يبين أن الله فوق السموات فوق العرش وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش .

                ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال إنه على العرش استوى ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض قال : لأنه أنكر أنه في السماء ; لأن الله في أعلى عليين ; وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل .

                وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء ; واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله [ ص: 49 ] في العلو وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل وقد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك . فقال : إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر .

                وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في " كتاب الفاروق " وروى أيضا ابن أبي حاتم : أن هشام بن عبيد الله الرازي - صاحب محمد بن الحسن - قاضي الري حبس رجلا في التجهم فتاب ; فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال : الحمد الله على التوبة ; فامتحنه هشام ; فقال : أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه ؟ فقال : أشهد أن الله على عرشه ; ولا أدري ما بائن من خلقه . فقال : ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب .

                وروي أيضا عن يحيى بن معاذ الرازي " أنه قال : إن الله على العرش بائن من الخلق وقد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا ; لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان .

                وروي أيضا عن ابن المديني لما سئل ما قول أهل الجماعة ؟ قال : يؤمنون بالرؤية والكلام وأن الله فوق السموات على العرش استوى ; فسئل عن قوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } فقال : اقرأ ما قبلها : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } .

                [ ص: 50 ] وروي أيضا عن أبي عيسى الترمذي قال : هو على العرش كما وصف في كتابه ; وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان .

                وروي عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله : { الرحمن على العرش استوى } فقال : تفسيره كما يقرأ هو على العرش وعلمه في كل مكان ; ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله .

                وروى " أبو القاسم اللالكائي " الحافظ . الطبري ; صاحب أبي حامد الإسفرائيني في كتابه المشهور في " أصول السنة " بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال : اتفق الفقهاء كلهم - من المشرق إلى المغرب - على الإيمان بالقرآن والأحاديث ; التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل : من غير تفسير ; ولا وصف ولا تشبيه ; فمن فسر اليوم شيئا منها فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة ; فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ; ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا ; فمن قال : بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء . محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء .

                وقد حكى هذا الإجماع وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالبا أو دائما . وقوله من غير تفسير : أراد به تفسير " الجهمية المعطلة " الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الأثبات .

                [ ص: 51 ] وروى البيهقي وغيره بإسناد صحيح عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال : هذه الأحاديث التي يقول فيها { ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره } { وإن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه } { والكرسي موضع القدمين } وهذه الأحاديث في " الرؤية " هي عندنا حق حملها الثقات بعضهم عن بعض ; غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها وما أدركنا أحدا يفسرها .

                أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة : الذين هم الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد ; وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل : ما هو أشهر من أن يوصف وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها : أي تفسير الجهمية .

                وروى اللالكائي والبيهقي بإسنادهما عن عبد الله بن المبارك : أن رجلا قال له يا أبا عبد الرحمن إني أكره الصفة - عنى صفة الرب - فقال له عبد الله بن المبارك : وأنا أشد الناس كراهية لذلك ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه ونحو هذا .

                أراد ابن المبارك : أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من تلقاء أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار .

                وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له : [ ص: 52 ] بماذا نعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه ههنا في الأرض - وهكذا قال الإمام أحمد وغيره .

                وروي بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية . فقال : إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء .

                وروى ابن أبي حاتم في كتاب " الرد على الجهمية " عن سعيد بن عامر الضبعي - إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد - أنه ذكر عنده الجهمية فقال : أشر قولا من اليهود والنصارى وقد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش وهم قالوا : ليس على شيء .

                وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة من لم يقل : إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح .

                وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام - الواسطي إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد - قال : كلمت بشرا المريسي وأصحاب بشر ; فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا : ليس في السماء شيء .

                وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال : ليس في أصحاب [ ص: 53 ] الأهواء شر من أصحاب جهم يدورون على أن يقولوا : ليس في السماء شيء أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا .

                وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في " كتاب الرد على الجهمية " عن عبد الرحمن بن مهدي قال : أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا : ليس في السماء شيء وإن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا .

                وعن الأصمعي قال : قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين فقال رجل عندها : الله على عرشه . فقالت : محدود على محدود فقال الأصمعي : كفرت بهذه المقالة .

                وعن عاصم بن علي بن عاصم - شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما - قال : ناظرت جهميا ; فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء ربا .

                وروى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني قال : أخبرنا سريج بن النعمان قال : سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال : سمعت مالك بن أنس يقول : الله في السماء وعلمه في كل مكان ; لا يخلو من علمه مكان .

                وقال الشافعي : خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء وجمع عليه قلوب عباده . [ ص: 54 ] وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول " زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات " . وهذا مثل قول الشافعي .

                وقصة أبي يوسف - صاحب أبي حنيفة - مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه لما أنكر أن يكون الله فوق عرشه قد ذكرها ابن أبي حاتم وغيره .



                وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين " الإمام المشهور من أئمة المالكية في كتابه الذي صنفه في " أصول السنة " قال فيه : ( باب الإيمان بالعرش قال : " ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه في قوله : { الرحمن على العرش استوى } وقوله : { ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض } الآية .

                فسبحان من بعد وقرب بعلمه فسمع النجوى . وذكر حديث { أبي رزين العقيلي ; قلت يا رسول الله أين ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض ؟ [ ص: 55 ] قال : في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء } قال محمد : العماء السحاب الكثيف المطبق - فيما ذكره الخليل - وذكر آثارا أخر .



                ثم قال : - ( باب الإيمان بالكرسي قال محمد بن عبد الله : " ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش وأنه موضع القدمين . ثم ذكر { حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة وفيه فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر ; ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها } . وذكر ما ذكره : يحيى بن سالم " صاحب التفسير المشهور " : حدثني العلاء بن هلال عن عمار الدهني ; عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين ; ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه .

                وذكر من حديث أسد بن موسى ; ثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود قال : ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه .



                ثم قال في ( باب الإيمان بالحجب قال : ومن قول أهل السنة إن الله بائن [ ص: 56 ] من خلقه يحتجب عنهم بالحجب فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } وذكر آثارا في الحجب .



                ثم قال في ( باب الإيمان بالنزول قال : ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا وذكر الحديث من طريق مالك وغيره . إلى أن قال : وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد . قال : ومن أدركت من المشايخ مالك وسفيان وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع : كانوا يقولون : إن النزول حق قال ابن وضاح : وسألت يوسف بن عدي عن النزول قال : نعم أومن به ولا أحد فيه حدا وسألت عنه ابن معين فقال : نعم أقر به ولا أحد فيه حدا .

                قال محمد : وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض وهو أيضا بين في كتاب الله وفي غير حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } وقال تعالى : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } وقال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال : { وهو القاهر فوق عباده } وقال تعالى : { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } وقال : { بل رفعه الله إليه } .

                وذكر من طريق مالك : { قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية : أين الله ؟ [ ص: 57 ] قالت في السماء . قال من أنا ؟ قالت أنت رسول الله . قال : فأعتقها } . قال والأحاديث مثل هذا كثيرة جدا فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض لا إله إلا هو العلي العظيم .

                وقال قبل ذلك في " الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه " قال : واعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علما والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه على لسان نبيه .

                وقد قال - وهو أصدق القائلين - { كل شيء هالك إلا وجهه } وقال : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } وقال : { ويحذركم الله نفسه } وقال : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } وقال : { فإنك بأعيننا } وقال : { ولتصنع على عيني } وقال : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان } وقال : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } الآية . وقال : { إنني معكما أسمع وأرى } وقال : { وكلم الله موسى تكليما } .

                وقال تعالى : { الله نور السماوات والأرض } الآية وقال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } الآية . وقال : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } ومثل هذا في القرآن كثير .

                [ ص: 58 ] فهو تبارك وتعالى نور السموات والأرض كما أخبر عن نفسه وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه ويسمع ويرى ويتكلم هو الأول لا شيء قبله والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده والظاهر العالي فوق كل شيء والباطن بطن علمه بخلقه فقال : { وهو بكل شيء عليم } قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم .

                وذكر : " أحاديث الصفات " ثم قال : فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها نبيه وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } لم تره العيون فتحده كيف هو ؟ ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان ا هـ .

                وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره . وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم . مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في " الغنية عن الكلام وأهله " قال : " فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه .

                [ ص: 59 ] والأصل في هذا : أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله . فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف .

                فإذا قلنا يد وسمع وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ; ولسنا نقول : إن معنى اليد القوة أو النعمة ولا معنى السمع والبصر العلم ; ولا نقول إنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول : إن القول إنما وجب بإثبات الصفات ; لأن التوقيف ورد بها ; ووجب نفي التشبيه عنها لأن الله ليس كمثله شيء ; وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات " هذا كله كلام الخطابي .

                وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك .

                وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحوا منه من العلماء من لا يحصى عددهم مثل أبي بكر الإسماعيلي والإمام يحيى بن عمار السجزي وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب " منازل السائرين " و " ذم الكلام " وهو أشهر من أن يوصف وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب وغيرهم .

                [ ص: 60 ] وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب " الحلية " في عقيدة له قال في أولها : " طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة ; قال فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها ; ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه : لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه " .

                وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه " محجة الواثقين ومدرجة الوامقين " تأليفه : " وأجمعوا أن الله فوق سمواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية إنه بكل مكان ; خلافا لما نزل في كتابه : " { أأمنتم من في السماء } { إليه يصعد الكلم الطيب } { الرحمن على العرش استوى } له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السموات والأرض وهو قوله : { وسع كرسيه السماوات والأرض } .

                وكرسيه جسم والأرضون السبع والسموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة ; وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية ; بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه ; كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأنه - تعالى وتقدس - يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفا صفا ; كما قال تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } وزاد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من [ ص: 61 ] مذنبي الموحدين ويعذب من يشاء . كما قال تعالى : { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } .

                وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني - شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده - قال : أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة ; وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها : " وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول . وأنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون ; بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة ; لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق .

                وإن الله عز وجل سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء : { فيقول : هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ حتى يطلع الفجر } ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل . فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على هذا " ا هـ .

                وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في " كتاب السنة " ثنا أبو بكر الأثرم ثنا إبراهيم بن الحارث يعني العبادي حدثنا الليث [ ص: 62 ] بن يحيى قال : سمعت إبراهيم بن الأشعث - قال أبو بكر هو صاحب الفضيل - قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو ؟ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه .

                وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع ; كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يباهي وكما يشاء أن يضحك وكما يشاء أن يطلع . فليس ( لنا أن نتوهم كيف وكيف ؟ . فإذا قال الجهمي : أنا أكفر برب يزول عن مكانه . فقل : بل أومن برب يفعل ما يشاء .

                ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في " أفعال العباد " . ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه " الفاروق " فقال : ثنا يحيى بن عمار ثنا أبي ثنا يوسف بن يعقوب ثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل .

                وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه " التعرف بأحوال العباد والمتعبدين " قال : ( باب ما يجيء به الشيطان للتائبين وذكر أنه يوقعهم في القنوط ثم في الغرور وطول الأمل ثم في التوحيد . فقال : " من أعظم ما يوسوس في " التوحيد " بالتشكل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه أو بالجحد لها والتعطيل . فقال بعد ذكر حديث الوسوسة : - [ ص: 63 ] واعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو ضياء أو إشراق أو جمال أو سنح مسائل أو شخص متمثل : فالله تعالى بغير ذلك ; بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر ألا تسمع لقوله : { ليس كمثله شيء } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل أولم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته ؟ وشامخ سلطانه ؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك : كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك . فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفؤ .

                فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب - تعالى وتقدس - في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال لك : إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه ; لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى .

                واعلم - رحمك الله تعالى - أن الله تعالى واحد لا كالآحاد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد - إلى أن قال - خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا واسما كان منه بريا تبارك وتعالى ; فكان هاديا سيهدي وخالقا سيخلق ورازقا سيرزق وغافرا سيغفر وفاعلا سيفعل ولم يحدث له [ ص: 64 ] الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل فهو يسمى به في جملة فعله .

                كذلك قال الله تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } بمعنى أنه سيجيء ; فلم يستحدث الاسم بالمجيء وتخلف الفعل لوقت المجيء فهو جاء سيجيء ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه لأن ذلك فعل الربوبية فيستحسر العقل وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود فلا تذهب في أحد الجانبين ; لا معطلا ولا مشبها وارض لله بما رضي به لنفسه وقف عند خبره لنفسه مسلما مستسلما مصدقا ; بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير .

                إلى أن قال : " فهو تبارك وتعالى القائل : أنا الله لا الشجرة الجائي قبل أن يكون جائيا ; لا أمره المتجلي لأوليائه في المعاد ; فتبيض به وجوههم وتفلج به على الجاحدين حجتهم المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان - تبارك وتعالى - الذي كلم موسى تكليما . وأراه من آياته فسمع موسى كلام الله ؟ لأنه قربه نجيا . تقدس أن يكون كلامه مخلوقا أو محدثا أو مربوبا الوارث بخلقه لخلقه السميع لأصواتهم الناظر بعينه إلى أجسامهم يداه مبسوطتان وهما غير نعمته خلق آدم ونفخ فيه من روحه - وهو أمره - تعالى وتقدس أن يحل بجسم أو يمازج بجسم أو يلاصق به تعالى عن ذلك علوا كبيرا الشائي له المشيئة العالم له العلم الباسط يديه بالرحمة النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب [ ص: 65 ] إليه خلقه بالعبادة وليرغبوا إليه بالوسيلة القريب في قربه من حبل الوريد البعيد في علوه من كل مكان بعيد ولا يشبه بالناس .

                إلى أن قال : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } . القائل : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء جل عن ذلك علوا كبيرا " ا هـ .



                وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى " فهم القرآن " قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ وأن النسخ لا يجوز في الأخبار قال : لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وصفاته ولا أسماءه يجوز أن ينسخ منها شيء . إلى أن قال : وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب وأنه لا يبصر ما قد كان ولا يسمع الأصوات ولا قدرة له ولا يتكلم ولا كلام كان منه وأنه تحت الأرض لا على العرش جل وعلا عن ذلك .

                فإذا عرفت ذلك واستيقنته : علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون : { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت } الآيات وقال : { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } [ ص: 66 ] وقال : قد تأول قوم : أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار لأنه آمن عند الغرق وقال : إنما ذكر الله أن قوم فرعون يدخلون النار دونه وقال : { فأوردهم النار } وقال : { وحاق بآل فرعون سوء العذاب } ولم يقل بفرعون . قال : وهكذا الكذب على الله ; لأن الله تعالى يقول : { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } كذلك قوله : { فليعلمن الله الذين صدقوا } فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علما بشيء لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر أن يصنعه - نجده ضرورة - قال : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } قال : وإنما قوله { حتى نعلم المجاهدين } إنما يريد حتى نراه فيكون معلوما موجودا ; لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما من قبل أن يكون ; ويعلمه موجودا كان قد كان ; فيعلم في وقت واحد معدوما موجودا وإن لم يكن وهذا محال .

                وذكر كلاما في هذا في الإرادة . إلى أن قال : وكذلك قوله : { إنا معكم مستمعون } ليس معناه أن يحدث له سمعا ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم وقد ذهب قوم من " أهل السنة " أن الله استماعا في ذاته فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول ; لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقل فهم عما أدركته أذنه من الصوت . وكذلك قوله : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } لا يتحدث بصرا محدثا في ذاته وإنما يحدث الشيء فيراه مكونا كما لم يزل يعلمه قبل كونه . [ ص: 67 ] إلى أن قال : " وكذلك قوله تعالى { وهو القاهر فوق عباده } وقوله : { الرحمن على العرش استوى } وقوله : { أأمنتم من في السماء } وقوله : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } .

                وقال : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } وقال : { تعرج الملائكة والروح إليه } وقال لعيسى : { إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا } الآية وقال : { بل رفعه الله إليه } وقال : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته } .

                وذكر الآلهة : أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا حيث هو فقال : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } أي طلبه وقال : { سبح اسم ربك الأعلى } .

                قال أبو عبد الله : فلن ينسخ ذلك لهذا أبدا .

                كذلك قوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } وقوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وقوله : { وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } وقوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } الآية فليس هذا بناسخ لهذا ولا هذا ضد لذلك .

                واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته فيكون في أسفل الأشياء أو ينتقل فيها لانتقالها ويتبعض فيها على أقدارها ويزول عنها عند فنائها جل وعز عن ذلك وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال ; فزعموا أن الله [ ص: 68 ] تعالى في كل مكان بنفسه كائنا كما هو على العرش ; لا فرقان بين ذلك ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه ; لأن كل من يثبت شيئا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائنا ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا : لا كالشيء في الشيء .

                قال : " أبو عبد الله لنا قوله : { حتى نعلم } { فسيرى الله } { إنا معكم مستمعون } فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودا ويسمعه مسموعا ويبصره مبصرا لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر .

                وأما قوله : { وإذا أردنا } إذا جاء وقت كون المراد فيه . وإن قوله : { على العرش استوى } { وهو القاهر فوق عباده } الآية . { أأمنتم من في السماء } { إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } فهذا وغيره مثل قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه } { إليه يصعد الكلم الطيب } هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش فوق الأشياء كلها منزه عن الدخول في خلقه لا يخفى عليه منهم خافية ; لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده ; لأنه قال : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } يعني فوق العرش والعرش على السماء ; لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء وقد قال مثل ذلك في قوله : { فسيحوا في الأرض } يعني على الأرض ; لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله : { يتيهون في الأرض } يعني على الأرض ; لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله : { لأصلبنكم في جذوع النخل } يعني فوقها عليها .

                [ ص: 69 ] وقال : { أم أمنتم من في السماء } ثم فصل فقال : { أن يخسف بكم الأرض } ولم يصل فلم يكن لذلك معنى - إذا فصل قوله : { من في السماء } ثم استأنف التخويف بالخسف - إلا أنه على عرشه فوق السماء . وقال تعالى : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } وقال : { تعرج الملائكة والروح إليه } .

                فبين عروج الأمر وعروج الملائكة ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } فقال : صعودها إليه وفصله من قوله إليه كقول القائل : أصعد إلى فلان في ليلة أو يوم وذلك أنه في العلو وإن صعودك إليه في يوم فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو قال تعالى : { بل رفعه الله إليه } ولم يقل عنده .

                وقال فرعون : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى } ثم استأنف الكلام فقال : { وإني لأظنه كاذبا } فيما قال لي إن إلهه فوق السموات .

                فبين الله سبحانه وتعالى أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال : وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب ولو أن موسى قال : إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو حشه . فتعالى الله عن ذلك ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح .

                [ ص: 70 ] قال أبو عبد الله : وأما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها - ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه - فقال : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج ثم ختم الآية بالعلم بقوله : { إن الله بكل شيء عليم } .

                فبدأ بالعلم وختم بالعلم : فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا ; لا يخفون عليه ولا يخفى عليه مناجاتهم . ولو اجتمع القوم في أسفل وناظر إليهم في العلو . فقال : إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقا - ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق - فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة وقالوا : هذا منكم دعوى خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة ; لأن من هو مع الاثنين فأكثر ; هو معهم لا فيهم ومن كان مع شيء خلا جسمه وهذا خروج من قولهم .

                وكذلك قوله تعالى { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد . وكذلك قوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } لم يقل في السماء ثم قطع - كما قال : { أأمنتم من في السماء } ثم قطع فقال : { أن يخسف بكم الأرض } - فقال : { وهو الذي في السماء إله } يعني إله أهل السماء وإله أهل الأرض وذلك موجود في " اللغة " تقول : فلان أمير في خراسان وأمير في بلخ وأمير في سمرقند ; وإنما هو في موضع واحد ويخفى عليه ما وراؤه فكيف العالي فوق الأشياء لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره فهو إله فيهما [ ص: 71 ] إذ كان مدبرا لهما وهو على عرشه وفوق كل شيء تعالى عن الأشباه والأمثال " ا هـ .



                وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه " اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات " قال في آخر خطبته : فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه قولا واحدا وشرعا ظاهرا وهم الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال { عليكم بسنتي } وذكر الحديث وحديث { لعن الله من أحدث حدثا } قال : فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف - وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من " الأسماء والصفات " كما اختلفوا في الفروع ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا ; كما نقل سائر الاختلاف - فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم ; حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين ; حتى نقلوا ذلك قرنا بعد قرن ; لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر ولله المنة .

                ثم إني قائل - وبالله أقول - إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين فخاضوا في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار وصار معولهم على أحكام هوى حسن النفس المستخرجة من سوء الظن به على مخالفة السنة والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس فتأولوا على ما وافق هواهم [ ص: 72 ] وصححوا بذلك مذهبهم : احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين ومأخذ المؤمنين ومنهاج الأولين ; خوفا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ومنع المستجيبين له حتى حذرهم .

                ثم ذكر : أبو عبد الله خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتنازعون في القدر وغضبه وحديث { لا ألفين أحدكم } وحديث { ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة } فإن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه ; ثم قال : فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان ; المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة . فيتصل ذلك قرنا بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة . إلى أن قال : فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجلها ذكر " أسماء الله عز وجل " في كتابه وما بين صلى الله عليه وسلم من " صفاته " في سنته وما وصف به عز وجل مما سنذكر قول القائلين بذلك مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك ومما قد أمرنا بالاستسلام له - إلى أن قال : - ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية والإقرار بالألوهية : أن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق بما بدأ من أسمائه وصفاته وأكد عليه السلام بقوله [ ص: 73 ] فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله لا إله إلا الله . إلى أن قال بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل . فقال : لموسى عليه السلام { واصطنعتك لنفسي } وقال : { ويحذركم الله نفسه } .

                ولصحة ذلك واستقرار ما جاء به المسيح عليه السلام فقال : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } وقال عز وجل : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } .

                وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال : { يقول الله عز وجل : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي } وقال : { كتب كتابا بيده على نفسه : إن رحمتي غلبت غضبي } وقال : { سبحان الله رضا نفسه } وقال في محاجة آدم لموسى : { أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه } فقد صرح بظاهر قوله : أنه أثبت لنفسه نفسا وأثبت له الرسول ذلك فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه ويكون ذلك مبنيا على ظاهر قوله : { ليس كمثله شيء } .

                ثم قال : " فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام بنقل العدل عن العدل حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم وإن مما قضى الله علينا في كتابه ووصف به نفسه ووردت السنة بصحة ذلك أن قال : { الله نور السماوات والأرض } ثم قال عقيب ذلك : { نور على نور } وبذلك دعاه صلى الله عليه وسلم [ ص: 74 ] { أنت نور السموات والأرض } ثم ذكر حديث أبي موسى : { حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه } وقال : سبحات وجهه جلاله ونوره نقله عن الخليل وأبي عبيد وقال : قال عبد الله بن مسعود : نور السموات نور وجهه .

                ثم قال : ومما ورد به النص أنه حي وذكر قوله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . والحديث : { يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث } . قال : ومما تعرف الله إلى عباده أن وصف نفسه أن له وجها موصوفا بالجلال والإكرام فأثبت لنفسه وجها - وذكر الآيات .

                ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم فقال في هذا الحديث من أوصاف الله عز وجل لا ينام موافق لظاهر الكتاب : { لا تأخذه سنة ولا نوم } وأن له " وجها " موصوفا بالأنوار وأن له " بصرا " كما علمنا في كتابه أنه سميع بصير .

                ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه وفي إثبات السمع والبصر والآيات الدالة على ذلك . ثم قال : ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين أن قال : له يدان قد بسطهما بالرحمة وذكر الأحاديث في ذلك ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت .

                [ ص: 75 ] ثم ذكر حديث : { يلقى في النار وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع فيها رجله } وهي رواية البخاري وفي رواية أخرى يضع عليها قدمه .

                ثم ما رواه مسلم البطين عن ابن عباس : أن الكرسي موضع القدمين وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله وذكر قول مسلم البطين نفسه وقول السدي وقول وهب بن منبه وأبي مالك وبعضهم يقول : موضع قدميه وبعضهم يقول واضع رجليه عليه .

                ثم قال : " فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم متداولة في الأقوال ومحفوظة في الصدر ولا ينكر خلف عن السلف ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم ممن حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم ومكالمتهم وأمرنا أن لا نعود مرضاهم ولا نشيع جنائزهم فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس وكفر المتقدمين وأنكروا على الصحابة والتابعين ; وردوا على الأئمة الراشدين فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل .

                ثم ذكر : المأثور عن ابن عباس وجوابه لنجدة الحروري ; ثم حديث " الصورة " وذكر أنه صنف فيه كتابا مفردا واختلاف الناس في تأويله .



                [ ص: 76 ] ثم قال : " وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده مما خالفنا فيه أهل الزيغ وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة - إن شاء الله - .

                ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم " الصديق " وأنه أفضل الأمة . ثم قال : وكان الاختلاف في " خلق الأفعال " هل هي مقدرة أم لا ؟ قال : وقولنا فيها أن أفعال العباد مقدرة معلومة وذكر إثبات القدر . ثم ذكر الخلاف في أهل " الكبائر " ومسألة " الأسماء والأحكام " وقال : قولنا فيها إنهم مؤمنون على الإطلاق وأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم .

                وقال : أصل " الإيمان " موهبة يتولد منها أفعال العباد فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه . وقال : قولنا إنه يزيد وينقص . قال : ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقا وغير مخلوق فقولنا وقول أئمتنا إن القرآن كلام الله غير مخلوق وإنه صفة الله منه بدأ قولا وإليه يعود حكما . ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال : قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد أن الله يرى في القيامة وذكر الحجة .

                ثم قال : اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة وقد بدأت أن أذكر أحكام الجمل من العقود . فنقول : ونعتقد : أن الله عز وجل له عرش وهو على عرشه فوق سبع سمواته [ ص: 77 ] بكل أسمائه وصفاته ; كما قال : { الرحمن على العرش استوى } { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } ولا نقول إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه لأنه عالم بما يجري على عباده { ثم يعرج إليه } .

                إلى أن قال : " ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار وإنهما مخلوقتان للبقاء ; لا للفناء . إلى أن قال : ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى . إلى أن قال : " ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال : " هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار " .



                ونعتقد أن للرسول صلى الله عليه وسلم " حوضا " ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع وذكر " الصراط " و " الميزان " و " الموت " وأن المقتول قتل بأجله واستوفى رزقه . إلى أن قال : " ومما نعتقد أنالله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ; فيبسط يده فيقول : " ألا هل من سائل " الحديث وليلة النصف من شعبان وعشية عرفة وذكر الحديث في ذلك . قال : ونعتقد أن الله تعالى كلم موسى تكليما . واتخذ إبراهيم خليلا وأن الخلة غير الفقر ; لا كما قال أهل البدع .

                ونعتقد أن الله تعالى خص محمدا صلى الله عليه وسلم بالرؤية . واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا . ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفتاح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله { إن الله عنده علم الساعة } الآية .



                [ ص: 78 ] ونعتقد المسح على الخفين : ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم ونعتقد الصبر على السلطان من قريش ; ما كان من جور أو عدل . ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد . والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة . والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب ; إذا لم يكن عذر أو مانع والتراويح سنة ; ونشهد أن من ترك الصلاة عمدا فهو كافر والشهادة والبراءة بدعة والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة ; ولا ننزل أحدا جنة ولا نارا حتى يكون الله ينزلهم ; والمراء والجدال في الدين بدعة .

                ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم إلى الله ونترحم على عائشة ونترضى عنها ; والقول في اللفظ والملفوظ ; وكذلك في الاسم والمسمى بدعة ; والقول في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة .

                واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملا من غير استقصاء ; إذ تقدم القول من مشايخنا المعروفين من أهل الإبانة والديانة إلا أني أحببت أن أذكر " عقود أصحابنا المتصوفة " فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه الله تعالى المذهب وأهله من ذلك .

                إلى أن قال : وقرأت لمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه " التبصير " كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم ; وسألوه أن يصنف لهم [ ص: 79 ] ما يعتقده ويذهب إليه ; فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى ; فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة .

                ونسب هذه المقالة إلى " الصوفية " قاطبة لم يخص طائفة . فبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم ; وكان من نسب إليه ذلك القول - بعد أن ادعى على الطائفة - ابن أخت عبد الواحد بن زيد ; والله أعلم بمحله عند المخلصين ; فكيف بابن أخته . وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولا نسب إلى الجملة ; كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولا في الفقه ; وليس فيه حديث يناسب ذلك ; ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين .

                واعلم أن لفظ " الصوفية " وعلومهم تختلف فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم فمن لم يداخلهم على التحقيق ونازل ما هم عليه رجع عنهم وهو خاسئ وحسير .

                ثم ذكر إطلاقهم لفظ " الرؤية " بالتقييد . فقال : كثيرا ما يقولون رأيت الله يقول . وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل : هل رأيت الله حين عبدته ؟ قال رأيت الله ثم عبدته . فقال السائل كيف رأيته ؟ فقال : لم تره الأبصار بتحديد الأعيان ; ولكن رؤية القلوب بتحقيق الإيقان ثم قال : " وإنه تعالى يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم .

                هذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا .



                [ ص: 80 ] وإن مما نعتقده أن الله حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم وذكر ذلك في حجة الوداع فمن زعم أنه يبلغ مع الله إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين - إلا المضطر على حال يلزمه إحياء للنفس لو بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادات - فذلك كفر بالله وقائل ذلك قائل بالإباحة وهم المنسلخون من الديانة .

                وإن مما نعتقده ترك إطلاق تسمية " العشق " على الله تعالى وبين أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه ولعدم ورود الشرع به . وقال : أدنى ما فيه إنه بدعة وضلالة وفيما نص الله من ذكر المحبة كفاية .



                وإن مما نعتقده : أن الله لا يحل في المرئيات وأنه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته بائن من خلقه مستو على عرشه وأن القرآن كلامه غير مخلوق - حيث ما تلي ودرس وحفظ - ونعتقد أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا واتخذ نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خليلا وحبيبا والخلة لهما منه على خلاف ما قاله المعتزلة : إن الخلة الفقر والحاجة . إلى أن قال : " والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليها الكيف ; فأما صفاته تعالى فمعلومة في العلم وموجودة في التعريف قد انتفى عنهما التشبيه فالإيمان به واجب واسم الكيفية عن ذلك ساقط .



                [ ص: 81 ] ومما نعتقده أن الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات وإنما حرم الله الغش والظلم وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع ; إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء إنما حرم الله ورسوله الفساد ; لا الكسب والتجارات ; فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة وإن مما نعتقد أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات ; لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة ; والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال والناس يتقلبون في الحرام ; فهو مبتدع ضال إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع ; لا أنه مفقود من الأرض .

                ومما نعتقده أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه ; جائز أن يؤكل طعامه والمعاملة في تجارته ; فليس علينا الكشف عما قاله . فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط ; جاز إلا من داخل الظلمة .

                ومن ينزع عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك : فالسؤال والتوقي ; كما سأل الصديق غلامه ; فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام إلا أنه مشتبه ; فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق . وأجاز ابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة والناس طبقات والدين الحنيفية السمحة .



                وإن مما نعتقد أن العبد ما دام أحكام الدار جارية ( عليه فلا يسقط عنه [ ص: 82 ] الخوف والرجاء وكل من ادعى " الأمن " فهو جاهل بالله وبما أخبر به عن نفسه : { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } وقد أفردت كشف عورات من قال بذلك .

                ونعتقد : أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه [ فيبقى ] على أحكام القوة والاستطاعة ; إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأحدية المسدية بعلائق الآخرية : فهو كافر لا محالة ; إلا من اعتراه علة أو رأفة ; فصار معتوها أو مجنونا أو مبرسما وقد اختلط عقله أو لحقه غشية يرتفع عنه بها أحكام العقل وذهب عنه التمييز والمعرفة ; فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة .

                ومن زعم الإشراف على الخلق : يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله - بغير الوحي المنزل من قول رسول صلى الله عليه وسلم - فهو خارج عن الملة ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم وعلى ماذا يموتون عليه ويختم لهم - بغير الوحي من قول الله وقول رسوله - فقد باء بغضب من الله .

                و " الفراسة " حق على أصول ما ذكرناه وليس ذلك مما رسمناه في شيء ومن زعم أن صفاته تعالى بصفاته - ويشير في ذلك إلى غير آية العظمة والتوفيق والهداية - وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة : فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام وذلك كفر لا محالة .



                [ ص: 83 ] ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة . ومن قال إنها غير مخلوقة فقد ضاهى قول النصارى - النسطورية - في المسيح وذلك كفر بالله العظيم . ومن قال : إن شيئا من صفات الله حال في العبد ; أو قال بالتبعيض على الله فقد كفر ; والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ولا حال في مخلوق ; وأنه كيفما تلي وقرئ وحفظ : فهو صفة الله عز وجل ; وليس الدرس من المدروس ولا التلاوة من المتلو لأنه عز وجل بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق ومن قال بغير ذلك فهو كافر .



                ونعتقد أن القراءة " الملحنة " بدعة وضلالة . وأن " القصائد " بدعة . ومجراها على قسمين : فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين فذلك جائز وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر واستماع الغناء والربعيات على الله كفر والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين ( على أحكام الدين فسق وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب .

                وحرام على كل من يسمع القصائد والربعيات الملحنة - الجائي بين أهل الأطباع - على أحكام الذكر إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد ومعرفة أسمائه وصفاته وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك ; وما لا يليق به عز وجل مما هو منزه عنه فيكون استماعه كما قال : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } الآية .

                [ ص: 84 ] وكل من جهل ذلك وقصد استماعه على الله على غير تفصيله فهو كفر لا محالة فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى الله فغير جائز إلا لمن عرف بما وصفت من ذكر الله ونعمائه وما هو موصوف به عز وجل مما ليس للمخلوقين فيه نعت ولا وصف ; بل ترك ذلك أولى وأحوط والأصل في ذلك أنها بدعة والفتنة فيها غير مأمونة على استماع الغناء . و " الربعيات " بدعة وذلك مما أنكره المطلبي ومالك والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق والاقتداء بهم أولى من الاقتداء بمن لا يعرفون في الدين ولا لهم قدم عند المخلصين .

                وبلغني أنه قيل لبشر بن الحارث : إن أصحابك قد أحدثوا شيئا يقال له القصائد . قال مثل أيش ؟ قال مثل قوله :

                اصبري يا نفس حتى تسكني دار الجليل

                فقال : حسن وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك ؟ قال قلت ببغداد فقال كذبوا - والله الذي لا إله غيره - لا يسكن ببغداد من يستمع ذلك .

                قال أبو عبد الله : ومما نقول - وهو قول أئمتنا - إن الفقير إذا احتاج وصبر ولم يتكفف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله صلى الله عليه وسلم { لأن يأخذ أحدكم حبله } الحديث ونقول : إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط موسومة من التعفف والاستغناء [ ص: 85 ] عما في أيدي الناس ; ومن جعل السؤال حرفة - وهو صحيح - فهو مذموم في الحقيقة خارج .

                ونقول : إن المستمع إلى " الغناء والملاهي " فإن ذلك كما قال عليه السلام { الغناء ينبت النفاق في القلب } وإن لم يكفر فهو فسق لا محالة .

                والذي نختار : قول أئمتنا : إن ترك المراء في الدين والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم واسط يؤدي وأن المرسل إليهم أفضل : فهو كافر بالله ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة فقد كفر ا هـ .



                ومن متأخريهم الشيخ الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني " قال في كتاب " الغنية " : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد . إلى أن قال : وهو بجهة العلو مستو على العرش محتو على الملك محيط علمه بالأشياء { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان ; بل يقال إنه في السماء على العرش كما قال : { الرحمن على العرش استوى } .

                [ ص: 86 ] وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنه استواء الذات على العرش ( قال : وكونه على العرش : مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف وذكر كلاما طويلا لا يحتمله هذا الموضع وذكر في سائر الصفات نحو هذا .

                ولو ذكرت ما قاله العلماء في هذا لطال الكتاب جدا .

                قال " أبو عمر بن عبد البر " : روينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد " في أحاديث الصفات " أنهم كلهم قالوا : أمروها كما جاءت ; قال أبو عمر : ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات أو جاء عن أصحابه رضي الله عنهم فهو علم يدان به ; وما أحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم فهو بدعة وضلالة .

                وقال في " شرح الموطأ " لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث ثابت النقل صحيح من جهة الإسناد ولا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق - سوى هذه - من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش استوى من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على "المعتزلة " في قولهم : إن الله تعالى في كل مكان بذاته المقدسة .

                قال : والدليل على صحة ما قال أهل الحق قول الله - وذكر بعض الآيات - [ ص: 87 ] إلى أن قال : وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم .

                وقال أبو عمر بن عبد البر أيضا : أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله وقال أبو عمر أيضا : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة ; لا على المجاز إلا إنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة .

                وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج : فكلهم ينكرونها ولا يحملون شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون : بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة .

                هذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب .



                وفي عصره الحافظ " أبو بكر البيهقي " مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري وذبه عنهم قال : في كتابه " الأسماء والصفات " .

                ( باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين - لا من حيث الجارحة - لورود خبر [ ص: 88 ] الصادق به قال الله تعالى : { يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وقال : { بل يداه مبسوطتان } .

                وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب مثل قوله في غير حديث في حديث الشفاعة : { يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده } ومثل قوله في الحديث المتفق عليه : { أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده } وفي لفظ : { وكتب لك التوراة بيده } ومثل ما في صحيح مسلم { أنه سبحانه غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده } ومثل قوله صلى الله عليه وسلم { تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر ; نزلا لأهل الجنة } .

                وذكر أحاديث مثل قوله : { بيدي الأمر } { والخير في يديك } { والذي نفس محمد بيده } و { أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل } وقوله : { المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين } وقوله : { يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ } .

                وقوله : { يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء [ ص: 89 ] وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع } وكل هذه الأحاديث في الصحاح .

                وذكر أيضا قوله : { إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت . قال : اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة } وحديث { إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيده } إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع .

                ثم قال " البيهقي " : أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب ; وكذلك قال في " الاستواء على العرش " وسائر الصفات الخبرية ; مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين .

                وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال التأويل " لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها وأنهاصفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق ; ولا يعتقد التشبيه فيها ; لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة .

                وذكر بعض كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي والأسود بن سالم وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب . وفي حكاية ألفاظهم طول . إلى أن قال : [ ص: 90 ] ويدل على إبطال التأويل : أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها ; ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها ; فلو كان التأويل سائغا لكانوا أسبق إليه ; لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة .



                وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري " المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في " اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين " وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم .

                ثم قال ( مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة . قول أصحاب الحديث وأهل السنة : الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله تعالى ; وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون شيئا من ذلك وأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } وأن له يدين بلا كيف كما قال : { خلقت بيدي } وكما قال : { بل يداه مبسوطتان } وأن له عينين بلا كيف كما قال { تجري بأعيننا } وأن له وجها كما قال : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } .

                وأن أسماء الله تعالى لا يقال : إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج . وأقروا أن لله علما كما قال : { أنزله بعلمه } وكما قال : { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وأثبتوا له السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وذكر مذهبهم في القدر . إلى أن قال : ويقولون : إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون ; لأنهم عن الله محجوبون قال عز وجل : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء . إلى أن قال : ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار . إلى أن قال : وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقولون كيف ولا لم ؟ لأن ذلك بدعة عندهم . إلى أن قال : ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء ; كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } إلى أن قال : ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الآثار ; والنظر في الفقه مع الاستكانة والتواضع ; وحسن الخلق مع بذل المعروف ; وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والشكاية وتفقد المآكل والمشارب . قال : فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب ; وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان .



                وقال الأشعري أيضا في " اختلاف أهل القبلة في العرش " فقال : قال أهل السنة وأصحاب الحديث : إن الله ليس بجسم ; ولا يشبه الأشياء وإنه استوى على العرش ; كما قال : { الرحمن على العرش استوى } ولا نتقدم بين يدي الله في القول ; بل نقول استوى بلا كيف وإن له وجها كما قال : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } .

                وأن له يدين كما قال { خلقت بيدي } وأن له عينين كما قال : { تجري بأعيننا } وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } .

                وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه [ ص: 93 ] في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالت المعتزلة : إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى .



                وقال أيضا أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه " الإبانة في أصول الديانة " وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه - فقال : - ( فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة . فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة ; فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون .

                قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون ولما خالف قوله مخالفون ; لأنه الإمام الفاضل ; والرئيس الكامل ; الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال ; وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين ; فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم .

                " وجملة قولنا " أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاءوا به من عند الله وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا ; [ ص: 94 ] وأن الله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ; وأن " محمدا عبده ورسوله " أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية وأن الله يبعث من في القبور .

                وأن الله مستو على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } وأن له وجها كما قال : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأن له يدين بلا كيف كما قال : { خلقت بيدي } وكما قال : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } وأن له عينين بلا كيف كما قال : { تجري بأعيننا } - وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا وذكر نحوا مما ذكر في الفرق إلى أن قال : ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . إلى أن قال : " وإن الإيمان " قول وعمل يزيد وينقص ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال : ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول { هل من سائل ؟ هل من مستغفر ؟ } وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل : [ ص: 95 ] ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به ولا نقول على الله ما لا نعلم .

                ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وكما قال : { ثم دنا فتدلى } { فكان قاب قوسين أو أدنى } .

                إلى أن قال : وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره بابا بابا . ثم تكلم على أن الله يرى واستدل على ذلك ; ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال لا أقول : إنه مخلوق ولا غير مخلوق ورد عليه . ثم قال : ( باب ذكر الاستواء على العرش فقال إن قال قائل ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له : نقول إن الله مستو على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } وقال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال تعالى { بل رفعه الله إليه } وقال تعالى : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } وقال تعالى حكاية عن فرعون { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } [ ص: 96 ] { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وقال تعالى : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال { أأمنتم من في السماء } لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال { أأمنتم من في السماء } يعني جميع السموات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى : { وجعل القمر فيهن نورا } ولم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء : لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض .

                ثم قال : فصل وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله { الرحمن على العرش استوى } أنه استولى وقهر وملك وأن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في [ ص: 97 ] الاستواء إلى القدرة فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة ; لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء - وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها - لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار ; لأنه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول : إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها . وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل .

                ثم قال : ( باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين وذكر الآيات في ذلك . ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته : مثل قوله فإن سئلنا أتقولون لله يدان ؟ قيل : نقول ذلك وقد دل عليه قوله تعالى : { يد الله فوق أيديهم } وقوله تعالى { لما خلقت بيدي } وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده } وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الله خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده } [ ص: 98 ] وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل : فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة : بطل أن يكون معنى قوله تعالى { بيدي } النعمة .

                وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه .



                وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم - وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري ; ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده - قال في " كتاب الإبانة " تصنيفه : فإن قال قائل : فما الدليل على أن لله وجها ويدا ؟ قيل له قوله : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقوله تعالى { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } فأثبت لنفسه وجها ويدا .

                فإن قال : فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة ؟ قلنا لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا ; لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك [ ص: 99 ] وكذلك الجواب لهم إن قالوا : يجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضا واعتلوا بالوجود .

                وقال : " فإن قال فهل تقولون إنه في كل مكان " ؟ . قيل له : معاذ الله بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال : { الرحمن على العرش استوى } وقال الله تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } . قال : ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ; ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان ; ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله .

                وقال أيضا في هذا الكتاب : صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها : هي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا .

                وقال في " كتاب التمهيد " كلاما أكثر من هذا - لكن ليست النسخة حاضرة عندي - وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام .

                [ ص: 100 ] " وملاك الأمر " أن يهب الله للعبد حكمة وإيمانا بحيث يكون له عقل ودين حتى يفهم ويدين ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء ; ولكن كثيرا من الناس قد صار منتسبا إلى بعض طوائف المتكلمين ومحسنا للظن بهم دون غيرهم ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم ; فلو أتى بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم .

                ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم ; فلو أنهم أخذوا بالهدى : الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة ; ثم لا يتمسك بما جاءت به من الحق : ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } فإن اليهود قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا . قال الله تعالى لهم { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } أي إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم يقول سبحانه وتعالى لا لما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون ولكن إنما تتبعون أهواءكم فهذا حال من لم يقبل الحق لا من طائفته ولا من غيرها مع كونه يتعصب لطائفته بلا برهان من الله ولا بيان .



                وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه " الرسالة النظامية " اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر ; فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي [ ص: 101 ] الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب . فقال : والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة : اتباع سلف الأمة والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة وهو حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة .

                وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها - وهم صفوة الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها - فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما : لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل : كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى ; فليجر آية الاستواء والمجيء . وقوله { لما خلقت بيدي } { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقوله : { تجري بأعيننا } وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه .

                قلت : وليعلم السائل أن الغرض " من هذا الجواب " ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب ; وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله - من المتكلمين وغيرهم - يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره ; ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به ; وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه [ ص: 102 ] . المشهور عنه ; الذي رواه أبو داود في سننه : اقبلوا الحق من كل من جاء به ; وإن كان كافرا - أو قال فاجرا - واحذروا زيغة الحكيم . قالوا : كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق ؟ قال : إن على الحق نورا أو قال كلاما هذا معناه .

                فأما تقرير ذلك بالدليل وإماطة ما يعرض من الشبه وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه فما تتسع له هذه الفتوى وقد كتبت شيئا من ذلك قبل هذا وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا وربما أكتب - إن شاء الله - في ذلك ما يحصل به المقصود .

                وجماع الأمر في ذلك : أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه وقصد اتباع الحق وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته .

                ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة ; مثل أن يقول القائل : ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله : { وهو معكم أين ما كنتم } .

                وقوله صلى الله عليه وسلم { إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه } ونحو ذلك فإن هذا غلط .

                [ ص: 103 ] وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } .

                فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال : { والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه } .

                وذلك أن كلمة ( مع في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة ; من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال ; فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى . فإنه يقال : ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا . ويقال : هذا المتاع معي لمجاعته لك ; وإن كان فوق رأسك . فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة .

                ثم هذه " المعية " تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال : { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } إلى قوله : { وهو معكم أين ما كنتم } . دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم ; شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم . وهذا معنى قول السلف : إنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته . [ ص: 104 ] وكذلك في قوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } إلى قوله : { هو معهم أين ما كانوا } الآية .

                ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار : { لا تحزن إن الله معنا } كان هذا أيضا حقا على ظاهره ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد .

                وكذلك قوله تعالى { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وكذلك قوله لموسى وهارون : { إنني معكما أسمع وأرى } . هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد .

                وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول : لا تخف ; أنا معك أو أنا هنا ; أو أنا حاضر ونحو ذلك . ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه ; ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها ; وربما صار مقتضاها من معناها . فيختلف باختلاف المواضع .

                فلفظ " المعية " قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر ; فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها - وإن امتاز كل موضع بخاصية - فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها .

                [ ص: 105 ] ونظيرها من بعض الوجوه " الربوبية والعبودية " فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والعبودية فلما قال : { برب العالمين } { رب موسى وهارون } كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق ; فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره فقد ربه ورباه ربوبية وتربية أكمل من غيره .

                وكذلك قوله : { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } و { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } .

                فإن العبد تارة يعني به المعبد فيعم الخلق كما في قوله : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } وتارة يعني به العابد فيخص ; ثم يختلفون فمن كان أعبد علما وحالا كانت عبوديته أكمل ; فكانت الإضافة في حقه أكمل مع أنها حقيقة في جميع المواضع .

                ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس " مشككة " لتشكك المستمع فيها هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة ; إذ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدر المشترك وإن كانت نوعا مختصا من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ .

                ومن علم أن " المعية " تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات - كإضافة [ ص: 106 ] الربوبية مثلا - وأن الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط لا حقيقة ولا مجازا : علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف .

                ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب - إن نقله عن غيره - وضال - إن اعتقده في ربه - وما سمعنا أحدا يفهم هذا من اللفظ ولا رأينا أحدا نقله عن واحد ولو سئل سائر المسلمين هل تفهمون من قول الله ورسوله " إن الله في السماء " إن السماء تحويه لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا .

                وإذا كان الأمر هكذا : فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه ثم يريد أن يتأوله ; بل عند الناس " أن الله في السماء " " وهو على العرش " واحد ; إذ السماء إنما يراد به العلو فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السموات والأرض وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه ؟ وقد قال سبحانه : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } وقال : { فسيروا في الأرض } بمعنى ( على ونحو ذلك وهو كلام عربي حقيقة لا مجازا وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة .

                [ ص: 107 ] وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه } الحديث . حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي ; بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات .

                فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه .

                وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه ; لا تشبيه الخالق بالمخلوق - فقال النبي صلى الله عليه وسلم { ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به فقال له أبو رزين العقيلي : كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله ; فالله أكبر } أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . وقال : { إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر } فشبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه ; كما يرى الشمس والقمر ولا منافاة أصلا . ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله : يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد .

                [ ص: 108 ] واعلم أن من المتأخرين من يقول : مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد وهذا اللفظ " مجمل " فإن قوله : ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ; مثل أن يراد بكون " الله قبل وجه المصلي " أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه وإن " الله معنا " ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك فلا شك أن هذا غير مراد .

                ومن قال : إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع . اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار معذورا في هذا الإطلاق .

                فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس وهو من الأمور النسبية . وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى .

                وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله : الظاهر غير مراد عندهم أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته ولا يختص بصفة المخلوقين بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا أو جوازا خارجيا [ ص: 109 ] غير مراد فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف أو تعمد الكذب ; فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل - لا نصا ولا ظاهرا - أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة .

                وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف ويقولون إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف - بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى - ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك ويقولون : الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره .

                وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف : أما في كثير من الصفات فقطعا : مثل أن الله تعالى فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم - الذي لم يحك هنا عشره - علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك .

                والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل - لا نصا ولا ظاهرا ولا بالقرائن - على نفي الصفات الخبرية [ ص: 110 ] في نفس الأمر ; بل الذي رأيته أن كثيرا من كلامهم يدل - إما نصا وإما ظاهرا - على تقرير جنس هذه الصفات ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة ; بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة ; وما رأيت أحدا منهم نفاها .

                وإنما ينفون التشبيه وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ; مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضا ; كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها .

                وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا : هذا جهمي معطل ; وهذا كثير جدا في كلامهم فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها - كذبا منهم وافتراء - حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية : ثلاثة من الأنبياء مشبهة ; موسى حيث قال : { إن هي إلا فتنتك } وعيسى حيث قال : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : { ينزل ربنا } . وحتى إن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة : مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة .

                [ ص: 111 ] وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه : " تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة " ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب " أهل السنة " بلقب افتراه - يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد - كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها .

                فالروافض تسميهم نواصب والقدرية يسمونهم مجبرة والمرجئة تسميهم شكاكا والجهمية تسميهم مشبهة وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا إلى أمثال ذلك . كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنونا وتارة شاعرا وتارة كاهنا وتارة مفتريا .

                قالوا فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا ; فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة - فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات ; باطنا وظاهرا .

                وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن والذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان : فلا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به [ ص: 112 ] ويسمونهم بأسماء مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها - كقول الرافضي : من لم يبغض أبا بكر - رضي الله عنه - وعمر : فقد أبغض عليا ; لأنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة منهما ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبيا ; بناء على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب .

                وكقول القدري : من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد : فقد سلب من العباد الاختيار والقدرة وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة .

                وكقول الجهمي : من قال إن الله فوق العرش : فقد زعم أنه محصور وأنه جسم مركب محدود وأنه مشابه لخلقه .

                وكقول الجهمية المعتزلة : من قال إن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب وأنه مشبه ; لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة .

                ومن حكى عن الناس " المقالات " وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة - بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها - فهو وربه والله من ورائه بالمرصاد ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .



                [ ص: 113 ] وجماع الأمر : أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها " ستة أقسام " كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة . " قسمان " يقولان : تجري على ظواهرها . و " قسمان " يقولان : هي على خلاف ظاهرها . و " قسمان " يسكتون .

                أما الأولون فقسمان : ( أحدهما من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء المشبهة ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم يتوجه الرد بالحق .

                ( الثاني : من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك ; على ظاهرها اللائق بجلال الله ; فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث وإما عرض قائم به .

                فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك : في حق العبد أعراض ; والوجه واليد والعين في حقه أجسام فإذا كان [ ص: 114 ] الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة - وإن لم يكن ذلك عرضا ; يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين - جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين .

                وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه ; وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات . فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات .

                فمن قال : لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودين . قيل له : فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ; ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته ; فمن لم يفهم من صفات الرب - الذي ليس كمثله شيء - إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه .

                وما أحسن ما قال بعضهم : إذا قال لك الجهمي كيف استوى أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه ونحو ذلك فقل له : كيف هو في ذاته ؟ فإذا قال لك لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر . فقل له : فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف ; فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف [ ص: 115 ] لم تعلم كيفيته وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك .

                بل هذه " المخلوقات في الجنة " قد ثبت عن ابن عباس أنه قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء وقد أخبر الله تعالى : أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى .

                وهذه " الروح " التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها ; أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى ؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء ; وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم - حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص ; فيكونون قد أخطئوا في اللفظ وأنى لهم بذلك .

                ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلا ; أو صفة من [ ص: 116 ] صفات البدن والحياة وأنها مختلفة الأجساد ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة كما يقول طوائف من أهل الكلام بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن ; وأنها ليست مماثلة له ; وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا ; فإذا كان مذهبنا في حقيقة " الروح " وصفاتها بين المعطلة والممثلة : فكيف الظن بصفات رب العالمين ؟ .

                وأما ( القسمان اللذان ينفيان ظاهرها ; أعني الذين يقولون : ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط وأن الله لا صفة له ثبوتية ; بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما أو يثبتون بعض الصفات - وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر - أو يثبتون الأحوال دون الصفات ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين . فهؤلاء قسمان : ( قسم يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم : استوى بمعنى استولى ; أو بمعنى علو المكانة والقدر أو بمعنى ظهور نوره للعرش ; أو بمعنى انتهاء الخلق إليه ; إلى غير ذلك من معاني المتكلمين .

                ( وقسم يقولون : الله أعلم بما أراد بها ; لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه : وأما ( القسمان الواقفان : - [ ص: 117 ] فقوم يقولون : يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله ; ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك . وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم .

                وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات . فهذه " الأقسام الستة " لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها .

                والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها ; القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله - سبحانه وتعالى - فوق عرشه ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك ; دلالة لا تحتمل النقيض ; وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

                ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن { عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي من الليل قال : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ; اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ; إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم } وفي رواية لأبي داود : { أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك } .

                [ ص: 118 ] فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين : انفتح له طريق الهدى ; ثم إن كان قد خبر نهايات أقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب ; وعرف أن غالب ما يزعمونه برهانا هو شبهة ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها ; أو شبهة مركبة من قياس فاسد ; أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية ; أو دعوى إجماع لا حقيقة له ; أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة .

                ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم - أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان - ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة فإن " الضد يظهر حسنه الضد " وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما وبقدره أعرف إذا هدي إليه .

                فأما المتوسطون من المتكلمين فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه وعلى من قد أنهاه نهايته فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية ومن أنهاه فقد عرف الغاية فما بقي يخاف من شيء آخر فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظمة هؤلاء .

                وقد قال بعض الناس : أكثر ما يفسد الدنيا : نصف متكلم ونصف [ ص: 119 ] متفقه ونصف متطبب ونصف نحوي هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان .

                ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب { لفي قول مختلف } { يؤفك عنه من أفك } يعلم الذكي منهم والعاقل : أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة وأن حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها : -

                حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور

                ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام .

                ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر - والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم - رحمتهم وترفقت بهم ; أوتوا ذكاء وما أوتوا ذكاء وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } .

                ومن كان عليما بهذه الأمور : تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم [ ص: 120 ] حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا .

                فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين .

                والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين .




                الخدمات العلمية