الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 162 ] فصل : وأما إذا قيد الإيمان فقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس وهل يراد به أيضا المعطوف عليه ويكون من باب عطف الخاص على العام أو لا يكون حين الاقتران داخلا في مسماه ؟ بل يكون لازما له على مذهب أهل السنة أو لا يكون بعضا ولا لازما هذا فيه ثلاثة أقوال للناس كما سيأتي إن شاء الله وهذا موجود في عامة الأسماء يتنوع مسماها بالإطلاق والتقييد مثال ذلك اسم " المعروف " و " المنكر " إذا أطلق كما في قوله تعالى { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } وقوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } وقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } يدخل في المعروف كل خير وفي المنكر كل شر . ثم قد يقرن بما هو أخص منه كقوله : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } فغاير بين المعروف وبين الصدقة والإصلاح بين الناس - كما غاير بين اسم الإيمان والعمل ; واسم الإيمان والإسلام - وكذلك قوله تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } غاير [ ص: 163 ] بينهما وقد دخلت الفحشاء في المنكر في قوله : { وينهون عن المنكر } ثم ذكر مع المنكر اثنين في قوله : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } جعل البغي هنا مغايرا لهما وقد دخل في المنكر في ذينك الموضعين . ومن هذا الباب لفظ " العبادة " فإذا أمر بعبادة الله مطلقا دخل في عبادته كل ما أمر الله به فالتوكل عليه مما أمر به والاستعانة به مما أمر به ; فيدخل ذلك في مثل قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وفي قوله : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } . وقوله : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } وقوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } { قل الله أعبد مخلصا له ديني } . وقوله : { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } .

                ثم قد يقرن بها اسم آخر كما في قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } وقوله : { فاعبده وتوكل عليه } . وقول نوح { اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } . وكذلك إذا أفرد اسم " طاعة الله " دخل في طاعته كل ما أمر به وكانت طاعة الرسول داخلة في طاعته وكذا اسم " التقوى " إذا أفرد دخل فيه فعل كل مأمور به وترك كل محظور . قال طلق بن حبيب : التقوى : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله وهذا كما في قوله : { إن المتقين في جنات ونهر } { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } . [ ص: 164 ] وقد يقرن بها اسم آخر كقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب } { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقوله : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } وقوله : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } وقوله : { اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } . وقوله : { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وقوله : { اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وأمثال ذلك . فقوله : { اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } مثل قوله : { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } وقوله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فعطف قولهم على الإيمان ; كما عطف القول السديد على التقوى ; ومعلوم أن التقوى إذا أطلقت دخل فيها القول السديد وكذلك الإيمان إذا أطلق دخل فيه السمع والطاعة لله وللرسول وكذلك قوله : { آمنوا بالله ورسوله } وإذا أطلق الإيمان بالله في حق أمة محمد صلى الله عليه وسلم دخل فيه الإيمان بالرسول وكذلك قوله : { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } وإذا أطلق الإيمان بالله دخل فيه الإيمان بهذه التوابع وكذلك قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } وقوله : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم } الآية [ ص: 165 ] وإذا قيل : { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي } دخل في الإيمان برسوله الإيمان بجميع الكتب والرسل والنبيين وكذلك إذا قيل : { وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } وإذا قيل : { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } دخل في الإيمان بالله ورسوله الإيمان بذلك كله والإنفاق يدخل في قوله في الآية الأخرى : { آمنوا بالله ورسوله } كما يدخل القول السديد في مثل قوله : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب } .

                وكذلك لفظ " البر " إذا أطلق تناول جميع ما أمر الله به كما في قوله : { إن الأبرار لفي نعيم } { وإن الفجار لفي جحيم } وقوله : { ولكن البر من اتقى } وقوله : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } فالبر إذا أطلق كان مسماه مسمى التقوى والتقوى إذا أطلقت كان مسماها مسمى البر ثم قد يجمع بينهما كما في قوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } . وكذلك لفظ " الإثم " إذا أطلق دخل فيه كل ذنب وقد يقرن بالعدوان كما في قوله تعالى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . وكذلك لفظ " الذنوب " إذا أطلق دخل فيه ترك كل واجب وفعل كل محرم كما في قوله : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } . ثم قد يقرن بغيره كما في قوله : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } وكذلك لفظ " الهدى " إذا أطلق تناول العلم الذي بعث الله به رسوله والعمل به جميعا فيدخل فيه كل ما أمر الله به كما في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } والمراد طلب العلم بالحق والعمل به جميعا . وكذلك قوله : { هدى للمتقين } . والمراد به أنهم يعلمون ما فيه ويعملون به ولهذا صاروا مفلحين وكذلك قول أهل الجنة : { الحمد لله الذي هدانا لهذا } وإنما هداهم بأن ألهمهم العلم النافع والعمل الصالح . ثم قد يقرن الهدى إما بالاجتباء كما في قوله { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } وكما في قوله : { شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه } { الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } وكذلك قوله تعالى { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } والهدى هنا هو الإيمان ودين الحق هو الإسلام وإذا أطلق الهدى كان كالإيمان المطلق يدخل فيه هذا وهذا .

                ولفظ " الضلال " إذا أطلق تناول من ضل عن الهدى سواء كان عمدا أو جهلا ولزم أن يكون معذبا كقوله : { إنهم ألفوا آباءهم ضالين } { فهم على آثارهم يهرعون } وقوله : { ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } وقوله : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } ثم قد يقرن بالغي والغضب كما في قوله : { ما ضل صاحبكم وما غوى } . وفي قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } . وقوله : { إن المجرمين في ضلال وسعر } . وكذلك لفظ " الغي " إذا أطلق تناول كل معصية لله كما في قوله عن الشيطان : { ولأغوينهم أجمعين } { إلا عبادك منهم المخلصين } . وقد يقرن بالضلال كما في قوله : { ما ضل صاحبكم وما غوى } . وكذلك اسم " الفقير " إذا أطلق دخل فيه المسكين وإذا أطلق لفظ " المسكين " تناول الفقير وإذا قرن بينهما فأحدهما غير الآخر ; فالأول كقوله : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } وقوله : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } والثاني كقوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } . و " هذه الأسماء " التي تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران تارة يكونان إذا أفرد أحدهما أعم من الآخر كاسم " الإيمان " و " المعروف " مع العمل ومع الصدق ; و " كالمنكر " مع الفحشاء ومع البغي ونحو ذلك . وتارة يكونان متساويين في العموم والخصوص كلفظ " الإيمان " و " البر " و " التقوى " ولفظ " الفقير " و " المسكين " ; فأيها أطلق تناول ما يتناوله الآخر ; وكذلك لفظ " التلاوة " فإنها إذا أطلقت في مثل قوله : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته } تناولت العمل به كما فسره بذلك الصحابة والتابعون مثل ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم قالوا : يتلونه حق تلاوته يتبعونه حق اتباعه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه .

                وقيل : هو من التلاوة بمعنى الاتباع كقوله : { والقمر إذا تلاها } [ ص: 168 ] وهذا يدخل فيه من لم يقرأه وقيل : بل من تمام قراءته أن يفهم معناه ويعمل به كما قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا . وقوله : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته } قد فسر بالقرآن وفسر بالتوراة . وروى محمد بن نصر بإسناده الثابت عن ابن عباس : { يتلونه حق تلاوته } قال يتبعونه حق اتباعه . وروي أيضا عن ابن عباس : يتلونه حق تلاوته قال : يحلون حلاله . ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه وعن قتادة : يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به قال : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا بكتاب الله وصدقوا به أحلوا حلاله وحرموا حرامه وعملوا بما فيه ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ويحرم حرامه وأن نقرأه كما أنزل الله ولا نحرفه عن مواضعه وعن الحسن : يتلونه حق تلاوته قال : يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه وعن مجاهد : يتبعونه حق اتباعه وفي رواية : يعملون به حق عمله . ثم قد يقرن بالتلاوة غيرها كقوله : { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } .

                قال أحمد بن حنبل وغيره : تلاوة الكتاب : العمل بطاعة الله كلها ثم خص الصلاة بالذكر كما في قوله : { والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة } وقوله : { فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } . وكذلك لفظ اتباع ما أنزل الله يتناول جميع الطاعات كقوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } وقوله : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } وقوله : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقد يقرن به غيره كقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } وقوله : { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } وقوله : { واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين } . وكذلك لفظ " الأبرار " إذا أطلق دخل فيه كل تقي من السابقين والمقتصدين وإذا قرن بالمقربين كان أخص قال تعالى في الأول : { إن الأبرار لفي نعيم } { وإن الفجار لفي جحيم } وقال في الثاني : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } { وما أدراك ما عليون } { كتاب مرقوم } { يشهده المقربون } وهذا باب واسع يطول استقصاؤه . وهو من أنفع الأمور في معرفة دلالة الألفاظ مطلقا وخصوصا ألفاظ الكتاب والسنة وبه تزول شبهات كثيرة كثر فيها نزاع الناس من جملتها " مسألة الإيمان والإسلام " فإن النزاع في مسماهما أول اختلاف وقع افترقت الأمة لأجله وصاروا مختلفين في الكتاب والسنة وكفر بعضهم بعضا وقاتل بعضهم بعضا كما قد بسطنا هذا في مواضع أخر إذ المقصود هنا بيان شرح كلام الله ورسوله على وجه يبين أن الهدى كله مأخوذ من كلام [ ص: 170 ] الله ورسوله بإقامة الدلائل الدالة لا بذكر الأقوال التي تقبل بلا دليل وترد بلا دليل أو يكون المقصود بها نصر غير الله والرسول فإن الواجب أن يقصد معرفة ما جاء به الرسول واتباعه بالأدلة الدالة على ما بينه الله ورسوله .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية