الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 222 ] فصل : فإن قيل : فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله فمتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان فيلزم تكفير أهل الذنوب كما تقوله الخوارج أو تخليدهم في النار وسلبهم اسم الإيمان بالكلية كما تقوله المعتزلة وكلا هذين القولين شر من قول المرجئة فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير وأما الخوارج والمعتزلة فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم . قيل : أولا ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار ; فإن هذا القول من البدع المشهورة وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان ; وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان واتفقوا أيضا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته . ففي " الصحيحين " عنه أنه قال : " { لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة } " وهذه الأحاديث مذكورة في مواضعها .

                وقد نقل بعض الناس عن الصحابة في ذلك خلافا كما [ ص: 223 ] روي عن ابن عباس أن القاتل لا توبة له وهذا غلط على الصحابة ; فإنه لم يقل أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأهل الكبائر ولا قال : إنهم يخلدون في النار ولكن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال : إن القاتل لا توبة له وعن أحمد بن حنبل في قبول توبة القاتل روايتان أيضا والنزاع في التوبة غير النزاع في التخليد وذلك أن القتل يتعلق به حق آدمي فلهذا حصل فيه النزاع . . وأما قول القائل : إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله فهذا ممنوع وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء . ثم قالت " الخوارج والمعتزلة " : هو مجموع ما أمر الله به ورسوله وهو الإيمان المطلق كما قاله أهل الحديث ; قالوا : فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار وقالت " المرجئة " على اختلاف فرقهم : لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر ونصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه ; كقوله : " { يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } " . ولهذا كان " أهل السنة والحديث " على أنه يتفاضل وجمهورهم يقولون : يزيد وينقص ومنهم من يقول : يزيد ولا يقول : ينقص كما روي عن مالك في إحدى الروايتين ومنهم من يقول : يتفاضل كعبد الله بن المبارك وقد [ ص: 224 ] ثبت لفظ الزيادة والنقصان منه عن الصحابة ولم يعرف فيه مخالف من الصحابة ; فروى الناس من وجوه كثيرة مشهورة : عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن جده عمير بن حبيب الخطمي ; وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الإيمان يزيد وينقص ; قيل له : وما زيادته وما نقصانه ؟ قال : إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته ; وإذا غفلنا ونسينا فتلك نقصانه .

                وروى إسماعيل بن عياش عن جرير بن عثمان عن الحارث بن محمد عن أبي الدرداء قال : الإيمان يزيد وينقص . وقال أحمد بن حنبل : حدثنا يزيد حدثنا جرير بن عثمان قال : سمعت أشياخنا أو بعض أشياخنا أن أبا الدرداء قال : إن من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص معه ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد الإيمان أم ينقص ؟ وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه . وروى إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي عن أبي هريرة قال : الإيمان يزيد وينقص . وقال أحمد بن حنبل : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن طلحة عن زبيد عن ذر قال كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه : هلموا نزدد إيمانا فيذكرون الله عز وجل وقال أبو عبيد في " الغريب " في حديث علي : إن الإيمان يبدو لمظة في القلب وكلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة يروى ذلك عن عثمان بن عبد الله عن عمرو بن هند الجملي عن علي قال الأصمعي اللمظة : مثل النكتة أو نحوها . [ ص: 225 ] وقال أحمد بن حنبل : حدثنا وكيع عن شريك عن هلال عن عبد الله بن عكيم قال : سمعت ابن مسعود يقول في دعائه : اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها .

                وروى سفيان الثوري عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال : كان معاذ بن جبل يقول لرجل : اجلس بنا نؤمن نذكر الله تعالى وروى أبو اليمان : حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول : قم بنا نؤمن ساعة فنحن في مجلس ذكر . وهذه الزيادة أثبتها الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن كله . وصح عن عمار بن ياسر أنه قال : ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان الإنصاف من نفسه والإنفاق من الإقتار ; وبذل السلام للعالم ذكره البخاري في " صحيحه " وقال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا والآثار في هذا كثيرة رواها المصنفون في هذا الباب عن الصحابة والتابعين في كتب كثيرة معروفة .

                قال مالك بن دينار : الإيمان يبدو في القلب ضعيفا ضئيلا كالبقلة ; فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة وأماط عنه الدغل وما يضعفه ويوهنه أوشك أن ينمو أو يزداد ويصير له أصل وفروع وثمرة وظل إلى ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال . وإن صاحبه أهمله ولم يتعاهده جاءه عنز فنتفتها أو صبي فذهب بها وأكثر عليها الدغل فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها كذلك الإيمان [ ص: 226 ] وقال خيثمة بن عبد الرحمن : الإيمان يسمن في الخصب ويهزل في الجدب فخصبه العمل الصالح وجدبه الذنوب والمعاصي . وقيل لبعض السلف : يزداد الإيمان وينقص ؟ قال نعم يزداد حتى يصير أمثال الجبال وينقص حتى يصير أمثال الهباء .

                وفي حديث حذيفة الصحيح : " { حتى يقال للرجل : ما أجلده ما أظرفه ما أعقله ; وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان } " وفي حديثه الآخر الصحيح " { تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ; وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين : أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود : مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب هواه } " ; وفي حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب كفاية فإنه من أعظم الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه لأنه وصفهم بقوة الإيمان وزيادته في تلك الخصال التي تدل على قوة إيمانهم ; وتوكلهم على الله في أمورهم كلها . وروى أبو نعيم من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن عبد الله اليزني { عن أبي رافع أنه سمع رجلا حدثه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال : أتحب أن أخبرك بصريح الإيمان ؟ قال : نعم . قال : إذا أسأت أو ظلمت أحدا عبدك أو أمتك أو أحدا من الناس حزنت وساءك ذلك .

                [ ص: 227 ] وإذا تصدقت أو أحسنت استبشرت وسرك ذلك
                } ورواه بعضهم عن يزيد عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله عن زيادة الإيمان في القلب ونقصانه فذكر نحوه وقال البزار : حدثنا محمد بن أبي الحسن البصري ثنا هانئ بن المتوكل ثنا عبد الله بن سليمان عن إسحاق عن أنس مرفوعا : { ثلاث من كن فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان خلق يعيش به في الناس وورع يحجزه عن معصية الله وحلم يرد به جهل الجاهل } " . و " { أربع من الشقاء : جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا } " . فالخصال الأولى تدل على زيادة الإيمان وقوته والأربعة الأخر تدل على ضعفه ونقصانه . وقال أبو يعلى الموصلي : ثنا عبد الله القواريري ويحيى بن سعيد قالا : ثنا يزيد بن زريع ويحيى بن سعيد قالا : حدثنا عوف حدثني عقبة بن عبد الله المزني { قال يزيد في حديثه في مسجد البصرة : حدثني رجل قد سماه ونسي عوف اسمه قال : كنت بالمدينة في مسجد فيه عمر بن الخطاب . فقال لبعض جلسائه : كيف سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الإسلام ؟ فقال : سمعته يقول : الإسلام بدأ جذعا ; ثم ثنيا ; ثم رباعيا ; ثم سداسيا ; ثم بازلا .

                فقال عمر : فما بعد البزول إلا النقصان
                } كذا ذكره أبو يعلى في " مسند عمر " وفي " مسند " هذا الصحابي المبهم ذكره أولى : قال أبو سليمان : من أحسن في ليله كوفئ في نهاره ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله ] . [ ص: 228 ] والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات ; كقوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } وهذه زيادة إذا تليت عليهم الآيات أي وقت تليت ليس هو تصديقهم بها عند النزول وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات زاد في قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن ; حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن ; فزاد علمه بالله ومحبته لطاعته وهذه زيادة الإيمان وقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم تكن عند آية نزلت فازدادوا يقينا وتوكلا على الله وثباتا على الجهاد وتوحيدا بأن لا يخافوا المخلوق ; بل يخافون الخالق وحده وقال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } . وهذه " الزيادة " ليست مجرد التصديق بأن الله أنزلها بل زادتهم إيمانا بحسب مقتضاها ; فإن كانت أمرا بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة وإن كانت نهيا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه ولهذا قال : { وهم يستبشرون } والاستبشار غير مجرد التصديق وقال تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه } والفرح بذلك من زيادة الإيمان قال تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } .

                وقال تعالى : { ويومئذ يفرح المؤمنون } { بنصر الله } وقال تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا } . وقال : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية ; فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان . والسكينة طمأنينة في القلب غير علم القلب وتصديقه ولهذا قال يوم حنين : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها } وقال تعالى : { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } ولم يكن قد نزل يوم حنين قرآن ولا يوم الغار ; وإنما أنزل سكينته وطمأنينته من خوف العدو فلما أنزل السكينة في قلوبهم مرجعهم من الحديبية ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم دل على أن الإيمان المزيد حال للقلب وصفة له وعمل مثل طمأنينته وسكونه ويقينه واليقين قد يكون بالعمل والطمأنينة كما يكون بالعلم والريب المنافي لليقين يكون ريبا في العلم وريبا في طمأنينة القلب ولهذا جاء في الدعاء المأثور : " { اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا } " .

                وفي حديث الصديق الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { سلوا الله العافية واليقين ; فما أعطي أحد بعد اليقين شيئا [ ص: 230 ] خيرا من العافية ; فسلوهما الله تعالى } " ; فاليقين عند المصائب بعد العلم بأن الله قدرها سكينة القلب وطمأنينته وتسليمه وهذا من تمام الإيمان بالقدر خيره وشره كما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال علقمة : ويروى عن ابن مسعود : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم وقوله تعالى { يهد قلبه } هداه لقلبه هو زيادة في إيمانه ; كما قال تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى } وقال : { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية