الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والمأخذ الثاني في الاستثناء أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله ; وترك المحرمات كلها ; فإذا قال الرجل : أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به ; وترك كل ما نهوا عنه فيكون من أولياء الله ; وهذا من تزكية الإنسان لنفسه وشهادته لنفسه بما لا يعلم ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة ; فشهادته لنفسه بالإيمان كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال ; وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى . قال الخلال في " كتاب السنة " : حدثنا سليمان بن الأشعث يعني أبا داود السجستاني قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل قال له رجل : قيل لي أمؤمن أنت ؟ قلت نعم ; هل علي في ذلك شيء ؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر ؟ فغضب أحمد وقال : هذا كلام الإرجاء ; قال الله تعالى : { وآخرون مرجون لأمر الله } من هؤلاء ثم قال أحمد : أليس الإيمان قولا وعملا قال له الرجل : بلى . قال فجئنا بالقول . قال : نعم قال : فجئنا بالعمل . قال : لا . قال : فكيف تعيب أن يقول : إن شاء الله ويستثني . قال أبو داود : أخبرني أحمد بن أبي شريح أن أحمد بن حنبل كتب إليه في هذه المسألة أن الإيمان قول وعمل فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل فنحن نستثني في العمل . وذكر الخلال هذا الجواب من رواية الفضل بن زياد . وقال : زاد الفضل : سمعت أبا عبد الله يقول : كان سليمان بن حرب يحمل هذا على التقبل ; يقول : نحن نعمل ولا ندري يتقبل منا أم لا ؟ قلت : والقبول متعلق بفعله كما أمر . فكل من اتقى الله في عمله ففعله كما أمر فقد تقبل منه . لكن هو لا يجزم بالقبول لعدم جزمه بكمال الفعل كما { قال تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } قالت عائشة : يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف ؟ فقال : لا يا بنت الصديق بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه } .

                وروى الخلال عن أبي طالب قال : سمعت أبا عبد الله يقول : لا نجد بدا من الاستثناء لأنهم إذا قالوا : مؤمن فقد جاء بالقول . فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول . وعن إسحاق بن إبراهيم قال : سمعت أبا عبد الله يقول : أذهب إلى حديث [ ص: 448 ] ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان لأن الإيمان قول وعمل والعمل الفعل فقد جئنا بالقول ونخشى أن نكون فرطنا في العمل ; فيعجبني أن يستثني في الإيمان بقول : أنا مؤمن إن شاء الله قال : وسمعت أبا عبد الله وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم { وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } الاستثناء هاهنا على أي شيء يقع ؟ قال : على البقاع لا يدري أيدفن في الموضع الذي سلم عليه أم في غيره . وعن الميموني أنه سأل أبا عبد الله عن قوله ورأيه في : مؤمن إن شاء الله . قال : أقول : مؤمن إن شاء الله ومؤمن أرجو لأنه لا يدري كيف البراءة للأعمال على ما افترض عليه أم لا . ومثل هذا كثير في كلام أحمد وأمثاله وهذا مطابق لما تقدم من أن المؤمن المطلق هو القائم بالواجبات المستحق للجنة إذا مات على ذلك وأن المفرط بترك المأمور أو فعل المحظور لا يطلق عليه أنه مؤمن ; وأن المؤمن المطلق هو البر التقي ولي الله فإذا قال : أنا مؤمن قطعا كان كقوله : أنا بر تقي ولي الله قطعا .

                وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره : أمؤمن أنت ؟ ويكرهون الجواب ; لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم ; فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر ; بل يجد قلبه مصدقا بما جاء به الرسول فيقول : أنا مؤمن فيثبت أن الإيمان هو التصديق لأنك تجزم بأنك مؤمن ولا تجزم ; بأنك فعلت كل ما أمرت به ; فلما علم السلف [ ص: 449 ] مقصدهم صاروا يكرهون الجواب أو يفصلون في الجواب ; وهذا لأن لفظ " الإيمان " فيه إطلاق وتقييد فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد الذي لا يستلزم أنه شاهد فيه لنفسه بالكمال ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال : أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه . وقال المروذي : قيل لأبي عبد الله نقول : نحن المؤمنون ؟ فقال نقول : نحن المسلمون وقال أيضا : قلت لأبي عبد الله : نقول إنا مؤمنون ؟ قال : ولكن نقول : إنا مسلمون ; ومع هذا فلم ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة أن الإيمان مجرد القول بل يكره تركه لما يعلم أن في قلبه إيمانا وإن كان لا يجزم بكمال إيمانه ؟ قال الخلال : أخبرني أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له : إذا سألني الرجل فقال : أمؤمن أنت ؟ قال سؤالك إياي بدعة لا يشك في إيمانه أو قال لا نشك في إيماننا . قال المزني : وحفظي أن أبا عبد الله قال : أقول كما قال طاووس : آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله . [ ص: 450 ] وقال الخلال : أخبرني حرب بن إسماعيل وأبو داود قال أبو داود : سمعت أحمد : قال : سمعت سفيان يعني ابن عيينة - يقول : إذا سئل أمؤمن أنت ؟ لم يجبه ويقول : سؤالك إياي بدعة ولا أشك في إيماني وقال : إن قال إن شاء الله فليس يكره ولا يداخل الشك فقد أخبر عن أحمد أنه قال : لا نشك في إيماننا وإن السائل لا يشك في إيمان المسئول وهذا أبلغ وهو إنما يجزم بأنه مقر مصدق بما جاء به الرسول لا يجزم بأنه قائم بالواجبات . فعلم أن أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال ويجعلون الاستثناء عائدا إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور ويحتجون أيضا بجواز الاستثناء فيما لا يشك فيه وهذا " مأخذ ثان " وإن كنا لا نشك فيما في قلوبنا من الإيمان فالاستثناء فيما يعلم وجوده قد جاءت به السنة لما فيه من الحكمة .

                وعن محمد بن الحسن بن هارون قال : سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان فقال : نعم الاستثناء على غير معنى شك مخافة واحتياطا للعمل وقد استثنى ابن مسعود وغيره وهو مذهب الثوري . قال الله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } { وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله } . وقال في الميت : " وعليه تبعث إن شاء الله " فقد بين أحمد أنه يستثني مخافة واحتياطا للعمل فإنه يخاف أن لا يكون قد كمل المأمور به فيحتاط بالاستثناء وقال على غير معنى شك ; يعني من غير [ ص: 451 ] شك مما يعلمه الإنسان من نفسه وإلا فهو يشك في تكميل العمل الذي خاف أن لا يكون كمله ; فيخاف من نقصه ولا يشك في أصله . قال الخلال : وأخبرني محمد بن أبي هارون : أن حبيش بن سندي حدثهم في هذه المسألة . قال أبو عبد الله { قول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر فقال : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } وقد نعيت إليه نفسه وعلم أنه صائر إلى الموت وفي قصة صاحب القبر " وعليه حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله " وفي { قول النبي صلى الله عليه وسلم إني اختبأت دعوتي وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا } { وفي مسألة الرجل النبي صلى الله عليه وسلم أحدنا يصبح جنبا يصوم ؟ فقال : إني أفعل ذلك ثم أصوم فقال : إنك لست مثلنا أنت قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله } . وهذا كثير وأشباهه على اليقين . قال : ودخل عليه شيخ فسأله عن الإيمان فقال له : قول وعمل يزيد وينقص . فقال له : أقول : مؤمن إن شاء الله ؟ قال : نعم . فقال له : إنهم يقولون لي إنك شاك ; قال : بئس ما قالوا ثم خرج فقال : ردوه فقال : أليس يقولون : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ؟ قال : نعم قال : هؤلاء يستثنون . قال له : كيف يا أبا عبد الله ؟ قال : قل لهم : زعمتم أن الإيمان قول وعمل فالقول قد أتيتم به والعمل لم تأتوا به فهذا الاستثناء لهذا العمل قيل له [ ص: 452 ] يستثنى في الإيمان ؟ قال : نعم أقول : أنا مؤمن إن شاء الله أستثني على اليقين لا على الشك ; ثم قال : قال الله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } فقد أخبر الله تعالى أنهم داخلون المسجد الحرام .

                فقد بين أحمد في كلامه أنه يستثني مع تيقنه بما هو الآن موجود فيه يقوله بلسانه وقلبه لا يشك في ذلك ويستثني لكون العمل من الإيمان ; وهو لا يتيقن أنه أكمله بل يشك في ذلك فنفى الشك وأثبت اليقين فيما يتيقنه من نفسه وأثبت الشك فيما لا يعلم وجوده وبين أن الاستثناء مستحب لهذا الثاني الذي لا يعلم هل أتى به أم لا وهو جائز أيضا لما يتيقنه فلو استثنى لنفس الموجود في قلبه جاز كقول النبي صلى الله عليه وسلم { والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله } وهذا أمر موجود في الحال ليس بمستقبل وهو كونه أخشانا ; فإنه لا يرجو أن يصير أخشانا لله ; بل هو يرجو أن يكون حين هذا القول أخشانا لله . كما يرجو المؤمن إذا عمل عملا أن يكون الله تقبله منه ويخاف أن لا يكون تقبله منه . كما قال تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه } والقبول هو أمر حاضر أو ماض وهو يرجوه ويخافه وذلك أن ما له عاقبة مستقبلة محمودة أو مذمومة والإنسان يجوز وجوده وعدمه . يقال : إنه يرجوه وإنه يخافه . فتعلق الرجاء والخوف بالحاضر والماضي لأن عاقبته المطلوبة والمكروهة مستقبلة . فهو يرجو أن يكون الله تقبل عمله فيثيبه عليه فيرحمه في المستقبل . ويخاف أن لا يكون [ ص: 453 ] تقبله فيحرم ثوابه . كما يخاف أن يكون الله قد سخط عليه في معصيته فيعاقبه عليها .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية