الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ( فصل ) ثم بعد ذلك تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعا كثيرا منه لفظي [ ص: 505 ] وكثير منه معنوي فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام وإن كان بعضهم أعلم بالدين وأقوم به من بعض ولكن تنازعوا في الأسماء كتنازعهم في الإيمان هل يزيد وينقص ؟ وهل يستثنى فيه أم لا ؟ وهل الأعمال من الإيمان أم لا ؟ وهل الفاسق الملي مؤمن كامل الإيمان أم لا ؟ والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجمهور السلف وهو مذهب أهل الحديث وهو المنسوب إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأنه يجوز الاستثناء فيه كما قال عمير بن حبيب الخطمي وغيره من الصحابة : الإيمان يزيد وينقص فقيل له : وما زيادته ونقصانه ؟ فقال : إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته . وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه . فهذه الألفاظ المأثورة عن جمهورهم . وربما قال بعضهم وكثير من المتأخرين : قول وعمل ونية وربما قال آخر : قول وعمل ونية واتباع السنة ; وربما قال : قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان أي بالجوارح . وروى بعضهم هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النسخة المنسوبة إلى أبي الصلت الهروي عن علي بن أبي موسى الرضا وذلك من الموضوعات على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم بحديثه . وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي ولكن القول المطلق والعمل المطلق ; في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح فقول اللسان [ ص: 506 ] بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين وهذا لا يسمى قولا إلا بالتقييد . كقوله تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين ; التي لا يتقبلها الله .

                فقول السلف : يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر ; لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك ; قال بعضهم : ونية . ثم بين آخرون : أن مطلق القول والعمل والنية لا يكون مقبولا إلا بموافقة السنة . وهذا حق أيضا فإن أولئك قالوا : قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال ; وكذلك قول من قال : اعتقاد بالقلب ; وقول باللسان وعمل بالجوارح . جعل القول والعمل اسما لما يظهر ; فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب ولا بد أن يدخل في قوله : اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه مثل حب الله . وخشية الله ; والتوكل على الله ونحو ذلك . فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها . وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن ولم يجدوا ذكر النقص وهذا إحدى الروايتين عن مالك والرواية الأخرى عنه ; وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم : إنه يزيد وينقص ; وبعضهم عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل فقال أقول : الإيمان يتفاضل ويتفاوت ويروى هذا عن ابن المبارك [ ص: 507 ] وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع إلى معنى لا ريب في ثبوته .

                وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه ; وهؤلاء من مرجئة الفقهاء وأما إبراهيم النخعي - إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبي سليمان - وأمثاله ; ومن قبله من أصحاب ابن مسعود : كعلقمة والأسود ; فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة وكانوا يستثنون في الإيمان ; لكن حماد بن أبي سليمان خالف سلفه ; واتبعه من اتبعه ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة ومن بعدهم . ثم إن " السلف والأئمة " اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم وتغليظ القول فيهم ; ولم أعلم أحدا منهم نطق بتكفيرهم ; بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك ; وقد نص أحمد وغيره من الأئمة : على عدم تكفير هؤلاء المرجئة . ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرا لهؤلاء ; أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم فقد غلط غلطا عظيما ; والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة ; إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء ولم يكفر أحمد " الخوارج " ولا " القدرية " إذا أقروا بالعلم ; وأنكروا خلق الأفعال وعموم المشيئة ; لكن حكي عنه في تكفيرهم روايتان . وأما " المرجئة " فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم ; مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال إنه جهمي كفره ولا كل من وافق الجهمية في [ ص: 508 ] بعض بدعهم ; بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله ; بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ; ويدعو لهم ; ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة . وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر ; وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان ; فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين ; وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة ; وإن كانوا جهالا مبتدعين ; وظلمة فاسقين .

                وهؤلاء المعروفون مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة كانوا يجعلون قول اللسان ; واعتقاد القلب من الإيمان ; وهو قول أبي محمد بن كلاب وأمثاله لم يختلف قولهم في ذلك ولا نقل عنهم أنهم قالوا الإيمان مجرد تصديق القلب . لكن هذا القول حكوه عن " الجهم بن صفوان " ذكروا أنه قال : الإيمان مجرد معرفة القلب وإن لم يقر بلسانه واشتد نكيرهم لذلك حتى أطلق وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما كفر من قال ذلك ; فإنه من أقوال الجهمية ; وقالوا : إن فرعون وإبليس وأبا طالب واليهود وأمثالهم ; عرفوا بقلوبهم وجحدوا بألسنتهم ; فقد كانوا مؤمنين . وذكروا قول الله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } . وقوله : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } وقوله : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } وقالوا : إبليس لم يكذب خبرا ولم يجحد فإن الله أمره بلا رسول ولكن عصى واستكبر ; وكان كافرا من غير تكذيب في الباطن وتحقيق هذا مبسوط في غير هذا الموضع .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية