الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئا من هذه " الفرائض الأربع " بعد الإقرار بوجوبها ; فأما " الشهادتان " إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها وذهبت طائفة من المرجئة وهم جهمية المرجئة : كجهم والصالحي وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر ; بل وغيره وأن وجود الإيمان الباطن تصديقا وحبا وانقيادا بدون الإقرار الظاهر ممتنع . وأما " الفرائض الأربع " فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة [ ص: 610 ] فهو كافر وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر . وأمثال ذلك فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك ; كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون . وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل .

                وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد : ( أحدها : أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء فمتى عزم على تركه بالكلية كفر وهذا قول طائفة من السلف وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها أبو بكر و ( الثاني : أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره . [ ص: 611 ] و ( الثالث لا يكفر إلا بترك الصلاة وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من السلف وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد . و ( الرابع : يكفر بتركها وترك الزكاة فقط . و ( الخامس : بتركها وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج . وهذه المسألة لها طرفان . ( أحدهما في إثبات الكفر الظاهر . و ( الثاني في إثبات الكفر الباطن .

                فأما " الطرف الثاني " فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا وعملا كما تقدم ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح ; ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } . [ ص: 612 ] وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما في الحديث الطويل حديث التجلي { أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق لا يستطيع السجود } فإذا كان هذا حال من سجد رياء فكيف حال من لم يسجد قط وثبت أيضا في الصحيح { أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود فإن الله حرم على النار أن تأكله } فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله وكذلك ثبت في الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء } فدل ذلك على أن من لم يكن غرا محجلا لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من أمته . وقوله تعالى { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون } { ويل يومئذ للمكذبين } { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } { ويل يومئذ للمكذبين } وقوله تعالى { فما لهم لا يؤمنون } { وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } { بل الذين كفروا يكذبون } { والله أعلم بما يوعون } . وكذلك قوله تعالى { فلا صدق ولا صلى } { ولكن كذب وتولى } . وكذلك قوله تعالى { ما سلككم في سقر } { قالوا لم نك من المصلين } { ولم نك نطعم المسكين } { وكنا نخوض مع الخائضين } { وكنا نكذب بيوم الدين } { حتى أتانا اليقين } فوصفه بترك الصلاة كما وصفه بترك التصديق ووصفه بالتكذيب والتولي و " المتولي " هو العاصي الممتنع من الطاعة .

                كما قال [ ص: 613 ] تعالى : { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما } . وكذلك وصف أهل سقر بأنهم لم يكونوا من المصلين وكذلك قرن التكذيب بالتولي في قوله : { أرأيت الذي ينهى } { عبدا إذا صلى } { أرأيت إن كان على الهدى } { أو أمر بالتقوى } { أرأيت إن كذب وتولى } { ألم يعلم بأن الله يرى } { كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية } { ناصية كاذبة خاطئة } . و " أيضا " في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما علق ذلك على التوبة من الكفر فإذا انتفى ذلك انتفت الأخوة و " أيضا " فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر } . وفي المسند { من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة } . و " أيضا " فإن شعار المسلمين الصلاة ولهذا يعبر عنهم بها فيقال : اختلف أهل الصلاة واختلف أهل القبلة والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون : " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " وفي الصحيح { من صلى صلاتنا ; واستقبل قبلتنا ; وأكل ذبيحتنا ; فذلك المسلم له ما لنا ; وعليه ما علينا } وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة . وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها ; فليست لهم حجة إلا وهي [ ص: 614 ] متناولة للجاحد كتناولها للتارك فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك ; مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم ; وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله { من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . . . أدخله الله الجنة } ونحو ذلك من النصوص . وأجود ما اعتمدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم { خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة . فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه . وإن شاء أدخله الجنة } . قالوا : فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة .

                والكافر لا يكون تحت المشيئة ولا دلالة في هذا ; فإن الوعد بالمحافظة عليها والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر كما قال تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات . وقد قال تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } فقيل لابن مسعود وغيره : ما إضاعتها ؟ فقال : تأخيرها عن وقتها فقالوا : ما كنا نظن ذلك إلا تركها فقال : لو تركوها لكانوا كفارا . وكذلك قوله : { فويل للمصلين } { الذين هم عن صلاتهم ساهون } [ ص: 615 ] ذمهم مع أنهم يصلون ; لأنهم سهوا عن حقوقها الواجبة من فعلها في الوقت وإتمام أفعالها المفروضة كما ثبت في صحيح مسلم { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا } فجعل هذه صلاة المنافقين لكونه أخرها عن الوقت ونقرها .

                وقد ثبت في الصحيح { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر ; وقالوا : يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال : لا ما صلوا } وثبت عنه أنه قال : { سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة } فنهى عن قتالهم إذا صلوا وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها وذلك ترك المحافظة عليها لا تركها . وإذا عرف الفرق بين الأمرين فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها لا من ترك ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها ولا يتناول من لم يحافظ فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفارا مرتدين بلا ريب ولا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه مقرا بأن الله أوجب عليه الصلاة ملتزما لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطن قط لا يكون إلا كافرا ولو قال أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها [ ص: 616 ] كان هذا القول مع هذه الحال كذبا منه كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول أشهد أن ما فيه كلام الله أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء ويقول أشهد أنه رسول الله ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب فإذا قال أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذبا فيما أظهره من القول .

                فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه ; فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في " مسألة الإيمان " وأن الأعمال ليست من الإيمان وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءا من الإيمان كما تقدم بيانه . وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات ويترك بعضها كان معه من الإيمان بحسب ما فعله والإيمان يزيد وينقص ويجتمع في العبد إيمان ونفاق . كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر } . [ ص: 617 ] وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب فإن كثيرا من الناس ; بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس ولا هم تاركوها بالجملة بل يصلون أحيانا ويدعون أحيانا فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام ; فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض - كابن أبي وأمثاله من المنافقين - فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى .

                وبيان " هذا الموضع " مما يزيل الشبهة : فإن كثيرا من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة فلا يرث ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع وليس الأمر كذلك ; فإنه قد ثبت أن الناس كانوا " ثلاثة أصناف " : مؤمن ; وكافر مظهر للكفر ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر . وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه - كابن أبي وأمثاله - ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه وكانت تعصم دماؤهم حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته . ولما خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب رضي الله عنه واعتزلوا جماعة المسلمين قال لهم : إن لكم علينا ألا نمنعكم المساجد ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء فلما استحلوا قتل المسلمين وأخذ أموالهم قاتلهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 618 ] حيث قال : { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } . فكانت الحرورية قد ثبت قتالهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتفاق أصحابه ولم يكن قتالهم قتال فتنة كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين في المسلمين ; بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أنه { قال للحسن ابنه : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين } وقال في الحديث الصحيح : { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين فتقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } فدل بهذا على أن ما فعله الحسن من ترك القتال إما واجبا أو مستحبا لم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم على ترك واجب أو مستحب ودل الحديث الآخر على أن الذين قاتلوا الخوارج وهم علي وأصحابه كان أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه ; وأن قتال الخوارج أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ليس قتالهم كالقتال في الجمل وصفين الذي ليس فيه أمر من النبي . و ( المقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه لم يحكموا بكفرهم ولا قاتلوهم حتى بدءوهم بالقتال .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية