الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ولفظ " الدور " يقال على ثلاثة أنواع : " الدور الكوني " الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا ولا يكون هذا حتى يكون هذا وطائفة من النظار كانوا يقولون : هو ممتنع . والصواب أنه نوعان : كما يقوله الآمدي وغيره " دور قبلي " و " دور معي " فالقبلي ممتنع وهو الذي يذكر في العلل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك . مثل أن يقال : لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لأنه يفضي إلى الدور وهو أنه يكون هذا قبل ذاك وذاك قبل هذا . و " المعي " ممكن وهو دور الشرط مع المشروط . وأحد المتضايفين مع الآخر مثل أن لا يكون الأبوة إلا مع البنوة ولا يكون البنوة إلا مع الأبوة .

                [ ص: 215 ] ( النوع الثاني ) : الدور الحكمي الفقهي المذكور في المسألة السريجية وغيرها . وقد أفردنا فيه مؤلفا وبينا أنه باطل عقلا وشرعا . وبينا هل في الشريعة شيء من هذا الدور أم لا ؟ .

                ( الثالث : الدور الحسابي ; وهو أن يقال لا يعلم هذا حتى يعلم هذا . فهذا هو الذي يطلب حله بالحساب والجبر والمقابلة . وقد بينا أنه يمكن الجواب عن كل مسألة شرعية جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم بدون حساب الجبر والمقابلة . وإن كان حساب الجبر والمقابلة صحيحا فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا وإن كان طريقا صحيحا . بل طرق الجبر والمقابلة فيها تطويل . يغني الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق .

                وهكذا كل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم مثل العلم بجهة القبلة والعلم بمواقيت الصلاة والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال ; فكل هذا يمكن العلم به بالطرق التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاجون معها إلى شيء آخر . وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقا أخر ; وكثير منهم يظن أنه لا يمكن معرفة الشريعة إلا بها . وهذا من جهلهم كما يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها . وهو وإن كان علما صحيحا حسابيا يعرف بالعقل لكن معرفة المسلمين بقبلتهم ليست موقوفة على هذا . بل قد ثبت عن صاحب الشرع [ ص: 216 ] صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما بين المشرق والمغرب قبلة } قال الترمذي : حديث صحيح .

                ولهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلي ليس عليه أن يستدل بالقطب ولا بالجدي ولا غير ذلك . بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق عن شماله صحت صلاته . وكذلك لا يمكن ضبط وقت طلوع الهلال بالحساب فإنهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس وأنه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء فإذا فارق الشمس صار فيه النور فهم أكثر ما يمكنهم أن يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس . هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله فإنهم يسمونه علم التقويم والتعديل ; لأنهم يأخذون أعلى مسير الكواكب وأدناه فيأخذون معدله فيحسبونه فإذا قدر أنهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها ; لأن الرؤية أمر حسي لها أسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره وارتفاع النظر وانخفاضه وحدة البصر وكلاله فمن الناس من لا يراه . ويراه من هو أحد بصرا منه ونحو ذلك .

                فلهذا كان قدماء علماء " الهيئة " كبطليموس صاحب المجسطي وغيره لم يتكلموا في ذلك بحرف وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه لما رأوا الشريعة جاءت باعتبار الرؤية . فأحبوا أن يعرفوا ذلك بالحساب [ ص: 217 ] فضلوا وأضلوا . ومن قال إنه لا يرى على اثنتي عشرة درجة أو عشر ونحو ذلك . فقد أخطأ . فإن من الناس من يراه على أقل من ذلك ومنهم من لا يراه على ذلك فلا العقل اعتبروا ولا الشرع عرفوا . ولهذا أنكر ذلك عليهم حذاق صناعتهم .

                ثم قال : فصورة القياس لا تدفع صحتها لكن نبين أنه لا يستفاد به علم بالموجودات . كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص شرط باطل . فهو وإن حصل به يقين فلا يستفاد بخصوصه يقين مطلوب بشيء من الموجودات . فنقول : إن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة لا ريب أنه يفيد اليقين فإذا قيل كل أ بـ وكل بـ ج وكانت المقدمتان معلومتين فلا ريب أن هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ ج لكن يقال ما ذكروه من كثرة الأشكال وشرط نتاجها تطويل قليل الفائدة كثير التعب .

                فإنه متى كانت المادة صحيحة أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري فبقية الأشكال لا يحتاج إليها وهي إنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول إما بإبطال النقيض الذي يتضمنه قياس الخلف وإما بالعكس المستوي أو عكس النقيض فإن ثبوت أحد المتناقضين يستلزم نفي الآخر . إذا رد على التناقض من كل وجه . فهم يستدلون بصحة القضية على بطلان نقضها وعلى ثبوت عكسها المستوي وعكس نقيضها بل تصور الذهن [ ص: 218 ] لصورة الدليل يشبه حساب الإنسان لما معه من الرقيق والعقار . والفطرة تتصور القياس الصحيح من غير تعليم . والناس بفطرهم يتكلمون بالأنواع الثلاثة التداخل والتلازم والتقسيم كما يتكلمون بالحساب ونحوه والمنطقيون قد يسلمون ذلك .

                والحاصل أنا لا ننكر أن القياس يحصل به علم إذا كانت مواده يقينية ; لكن نقول : إن العلم الحاصل به لا يحتاج فيه إلى القياس المنطقي ; بل يحصل بدون ذلك فلا يكون شيء من العلم متوقفا على هذا القياس .

                ثم المواد اليقينية التي ذكروها لا يحصل بها علم بالأمور الموجودة فلا يحصل بها مقصود تزكو به النفوس بل ولا علم بالحقائق الموجودة في الخارج على ما هي عليه إلا من جنس ما يحصل بقياس التمثيل . فلا يمكن قط أن يتحصل بالقياس الشمولي المنطقي الذي يسمونه البرهاني علم إلا وذلك يحصل بقياس التمثيل الذي يستضعفونه . فإن ذلك القياس لا بد فيه من قضية كلية .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية